لا شكّ أنّ سليمان عليه السّلام قد استفاد ممّا علَّمه الله سبحانه وتعالى لأبيه داود عليه السّلام، وأخذ من نعمة الله عزَّ وجلّ على أبيه، وهنا يزيده الله سبحانه وتعالى عطاءً وأموراً تميّز بها سليمان عليهما السّلام، منها الرّيح العاصفة؛ أي: القويّة الشّديدة:
﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾: وكأنّها مواصلات داخليّة في مملكته من العراق إلى فلسطين، وفي موضعٍ آخر قال: ﴿وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾[ص: من الآية 35 – الآية 36]، رُخَاء؛ أي: هيّنة ليّنة ناعمة، وهنا قال: ﴿عَاصِفَةً﴾ فكأنّ الله سبحانه وتعالى جمع لهذه الرّيح صفة السّرعة في: ﴿عَاصِفَةً﴾، وصفة الرّاحة في: ﴿رُخَاءً﴾، وهاتان صفتان لا يقدر على الجمع بينهما إلّا الله عزَّ وجلّ، فنحن حين تُسْرِع بنا السّيّارة مثلاً لا تتوفّر لنا صِفَة الرّاحة والاطمئنان، بل نشعر بفزع ونطلب تهدئة السّرعة، أمّا ريح سليمان عليه السّلام فكانت تُسرع به إلى مراده، وهي في الوقت نفسه مريحة ناعمة هادئة لا تُؤثِّر في تكوينات جسمه، ولا تُحدث له رجَّة أو قوّة اندفاع يحتاج مثلاً إلى حزام أمان، فمَنْ يقدر على الجمع بين هذه الصّفات إلّا الله عزَّ وجلّ القابض الباسط، الّذي يقبض الزّمن في حقّ قوم ويبسطه في حقّ آخرين.
﴿بَارَكْنَا فِيهَا﴾: أي: بركة حِسِّية بما فيها من الزّروع والثّمار والخِصْب والخيرات، أو بركة معنويّة، حيث جعل فيها مهابط الوحي والنّبوّات وآثار الأنبياء.
وليس تسخير الرّيح لسليمان أنّها تحمله مثلاً، أو: أنّها كانت تُسيِّر المراكب في البحار، إنّما المراد بتسخيرها له أن تكون تحت مراده، وتأتمر بأمره، فتسير حيث شاء يميناً أو شمالاً، فهي لا تهُبُّ على مرادات الطّبيعة الّتي خلقها الله عزَّ وجلّ عليها، ولكن على مراد سليمان عليه السّلام، وهذا هو الفارق، وإنْ كانت هذه الرّيح الرُّخَاء تحمله في رحلة داخليّة في مملكته، فهناك من الرّياح ما يحمله في رحلات وأسفار خارجيّة، كالّتي قال الله سبحانه وتعالى عنها: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾[سبأ: من الآية 12]، فيجوب بها في الكون كيف يشاء ﴿حَيْثُ أَصَابَ﴾ [ص: من الآية 36].
﴿وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾: أي: عندنا علْم نُرتِّب به الأمور على وَفْق مرادنا، ونكسر لمرادنا قانون الأشياء فَنُسيِّر الرّيح كما نحبّ، لا كما تقتضيه الطّبيعة.