﴿وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾: مرّت بنا: ﴿وَلَوْلَا﴾ في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ﴾[يونس: من الآية 19]، وتعني: امتناع التّعذيب لوجود الكلمة، أمّا ﴿لَوْلَا﴾ هنا فتعني: هلّا، للحثِّ والطّلب، ﴿لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾كما في قوله جلَّ جلاله: ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾[الكهف: من الآية 39]، فكأنّ القرآن الكريم لا يعجبهم، مع أنّهم أمّةُ بلاغة وبيانٍ، وأمّة فصاحة وكلام، والقرآن الكريم يخجلهم لفصاحته وبلاغته، فأيُّ آيةٍ تريدونها بعد هذا القرآن الكريم؟
﴿لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾: كدليل صِدْق على بلاغه عن الله عزَّ وجلَّ كالمعجزات الحسّيّة الّتي حدثتْ لمن قبله من الرّسل، كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء]، فالآيات من الله سبحانه وتعالى لا دَخْلَ لي فيها ولا أختارها، لذلك يقول تبارك وتعالى بعدها:
﴿أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾: فالقرآن الكريم جاء جامعاً ومُهيْمناً على الكتب السّابقة، وفيه ذِكْرٌ لما حدث فيها كلّه من معجزات حسّيّة، وهل شاهد هؤلاء معجزة عيسى عليه السلام في إبراء الأكمه والأبرص؟ هل شاهدوا عصا موسى عليه السلام أو ناقة صالح عليه السلام؟ لقد عرفوا هذه المعجزات عندما حكاها لهم القرآن الكريم، فصارت خبراً من الأخبار، وليست مَرْأىً، والمعجزة الحسِّيّة تقع مرّة واحدة، مَنْ رآها آمن بها، ومَنْ لم يرهَا فهي بالنّسبة إليه خبرٌ، ولولا أنّ القرآن الكريم حكاها ما صدَّقها أحدٌ منهم، لكنّ هؤلاء يريدون معجزة حِسِّيّة تصاحب رسالة محمّد صلّى الله عليه وسلّم العامّة للزّمان والمكان، ولو كانت معجزَة محمّد صلّى الله عليه وسلّم حِسِّيّة لكانت لـمَنْ شاهدها فقط، والحقّ سبحانه وتعالى يريدها معجزة دائمة لامتداد الزّمان والمكان، لذلك كان القرآن الكريم معجزة للقرون كلّها، ولو أفنى القرآن الكريم معجزته مرّة واحدة للمعاصرين له فحسب لاستقبلتْه القرون الآتية بلا إعجاز، لكن شاءتْ إرادة الله سبحانه وتعالى أن يكون إعجاز القرآن الكريم سرّاً مطموراً فيه، وكلّ قرن يكتشف من أسراره على قدر التفاتهم إليه وتأمّلهم فيه، وهكذا تظلّ الرّسالة محروسة بالمعجزة.