الآية رقم (22) - وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ

﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾: الصّبر هو تحمّل متاعب تطرأ على النّفس لتخرجها من نعيمها وسعادتها، والصّبر ثلاثة أنواع: صبر الذّات على الذّات؛ أي أن تصبر على التّكاليف الّتي أمرك الله سبحانه وتعالى بها، يأمرك ألّا تفعل هذا فتصبر، ويأمرك بفعلٍ كالصّلاة فتصبر، وهناك صبرٌ على الابتلاء الّذي ليس لك فيه غريمٌ، فلا يستطيع الإنسان أن يُغيّر الأقدار، لذلك نجد أنّ الله سبحانه وتعالى عندما بيّن هذا النّوع من الصّبر، كالصّبر على مرضٍ أو فقرٍ أو شقاءٍ معيّن، قال: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ ]لقمان: من الآية 17[، فسواءٌ صبرت أم لم تصبر فالنّتيجة واحدة، لن تستطيع أن تغيّر القدر، وهناك صبرٌ على ابتلاء لك فيه غريمٌ، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾]الزّمر: من الآية 10[، ويقول جل جلاله: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ ]البقرة[، وقد قال النّبيّ ,: «الصَّبرُ نِصفُ الإِيمَانِ»([1])، فالصّبر هو أساسٌ، لذلك نجد أنّ الله سبحانه وتعالى قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ]البقرة[، لم يقل: (إنّ الله مع المصلّين)، ولم يقل: (استعينوا بالصّلاة والصّبر)، مع أنّ الصّلاة هي ركنٌ من أركان الإسلام، فالصّبر شيءٌ يتعلّق بتحمّل النّفس، وهو عنوان العلاقة مع الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الله جل جلاله جعل هذه الحياة حياة ابتلاءٍ للإنسان، وهي حياة أغيار، وسيتعرّض الإنسان شاء أم أبى إلى كثيرٍ من الأكدار، فقد خُلق في كبَدٍ، وأمام الأقدار والأغيار لا بدّ من الصّبر، فهو عنوان الإيمان والتّحمّل، قد تقول لإنسانٍ: صلّ ألف ركعة فيصلّي، لكن اصبر على الأذى، أو أحسِن لمن أساء إليك.. فيجد في ذلك مشقّة، لذلك أمر الله سبحانه وتعالى بالاستعانة بالصّبر والصّلاة بسبب طبيعة الحياة الإنسانيّة وطبيعة هذه الحياة المليئة بالأكدار، فإذاً أوّلاً وقبل كلّ شيءٍ عرفنا موقع الصّبر بالنّسبة إلى المؤمن، لذلك المؤمن بين حالين، إن أصابه ضرّاء صبر فكان خيراً له، وإن أصابه نعماء شكر وكان خيراً له، فالإنسان اليوم في صحّة وغداً في مرضٍ، اليوم غنيٌّ وغداً فقيرٌ، اليوم شابٌّ وغداً هرِم، اليوم في نعيمٍ وغداً في ضنكٍ.. هكذا هي طبيعة الحياة، ولا يستطيع أحدٌ أن يقول: بأنّني مستثنى بإلّا، لا يوجد مستثنى بإلّا في هذه الحياة مهما بلغ الإنسان من سلطانٍ أو جاهٍ أو غنىً..

﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾: يمكن أن يصبر الإنسان لغير وجه ربّه، كأن يصبر ليُقال: إنّه فوق الأحداث، فالصّبر له دوافع، لكن الصّبر المطلوب في الآية أن يكون ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، وهذا معناه أن ترضى بالقضاء، وتصبر على البلاء، وأنت لا ترى إلّا الخير فيما نزل بك، فإن كان مرضٌ فتؤجر، وإن كان كذا فتُرفع درجاتك.. حتّى الشّوكة الّتي يُشاكها الإنسان تُكتب له حسنة، من هذا المنطلق يكون عندها الصّبر ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى وليس ابتغاء أمرٍ آخر، وإذا كان هناك إنسانٌ قد ظلمك وآذاك فهنا الصّبر يكون أشدّ وأصعب، لذلك قال تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾  ]فصّلت[، وقال الشّاعر:

يا من تأتيك العداوة     مِنَ الّذي ومِـنَ الّتي

ادفــــع فديتــكَ بالّتـي     حتّى ترى: إذا الّذي

هذه هي القيم الّتي جاء بها الإسلام، الدّفع بالّتي هي أحسن، والصّبر على الابتلاء، والصّبر على الآخرين.

﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾: الصّلاة هي صِلةٌ مع الله سبحانه وتعالى، وهي الرّكن الأساس من أركان الإسلام؛ لأنّ أركان الإسلام الخمسة باستثناء الشّهادتين تسقط في حالات معيّنة، كالصّوم والحجّ والزّكاة، أمّا الصّلاة فلا تسقط في حالٍ من الأحوال، وهي اتّصالٌ حقيقيٌّ بين العبد وبين الرّبّ:

حسبُ نفسي عزّاً بأنّي عبدُ هو في قدسه الأعزّ ولكن                     . يحتفي بي بلا مواعيد ربُّ
أنا ألقاه متى وأين أحبّ
.

فأنت في أيّ لحظةٍ من اللّحظات تستطيع أن تلاقي الله عز وجل، أن تلاقي القادر، أن تلاقي الشّافي، أن تلاقي القويّ، أن تلاقي الغنيّ، أن تلاقي الكريم، أن تلاقي العظيم، أن تلاقي مجيب الدّعوات، فهذه هي الصّلاة، لذلك كان النّبيّ , إذا حزبه أمرٌ لجأ إلى الصّلاة، وقد قال ,: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»([2])؛ لأنّها مفتاح القلوب إلى الله سبحانه وتعالى علّام الغيوب، وهي مِعراج المؤمن إلى حضرة الله سبحانه وتعالى، وهي العطاء والدّعاء، فالصّلاة هي دعاءٌ واتّصالٌ مع الله تعالى.

﴿وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾: العنوان الأساس في المجتمع هو التّضامن والتّكافل، وموضوع الإنفاق هو موضوعٌ مهمٌّ بيّنه المولى سبحانه وتعالى هنا في أمرين اثنين: ﴿سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾، فالسّرّ الصّدقة المندوبة، والعلانية هي الزّكاة، وهي حقٌّ للفقير يردّه الله سبحانه وتعالى عليه من الغنيّ، فالزّكاة جزءٌ من إيمان الغنيّ، لمصلحة الفقير، ويجب أن تكون علناً حتّى يتأسّى النّاس بفاعلها؛ لأنّها ركنٌ من أركان الإسلام، أمّا الصّدقات فتُدفَع سرّاً حتّى لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك، وهذا من باب عدم الرّياء وعدم التّعالي والمنّ على الفقراء، وقد جعل الله سبحانه وتعالى الزّكاة والإنفاق والصّدقات تكافلاً وتضامناً وتأميناً للمجتمع، فعندما تعطي المحتاج تعلم بأنّ هذا العطاء مضمون الرّدّ إذا أصابتك فاقةٌ، وهذا أكبر تأمينٍ للفقراء، وللتّكافل والتّضامن والتّراحم بين أبناء المجتمع، يقول النّبيّ ,: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى»([3]).

﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾: الدّرء: هو الدّفع بشدّة، فإذا عمل سيّئةً يدفعها بحسنة مباشرةً، وهذا عطاءٌ عظيمٌ وخيرٌ كبيرٌ للمجتمع وللنّاس جميعاً، فإتباع السّيّئة الحسنة تمحو السّيّئة وتعطي الخير للمجتمع بشكلٍ عامٍّ.

﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾: عقبى من العقِب؛ أي ما يعقُب الشّيء، فالعاقبة والنّتيجة هي دار الآخرة، وهي الجنّة.

([1]) شعب الإيمان: باب في الصّبر على المصائب، الحديث رقم (9265).

([2]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مسند المكثرين من الصّحابة، مسند أنس بن مالك t، الحديث رقم (14037).

([3]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، الحديث رقم (2586).

«وَالَّذِينَ» عطف على الذين السابقة

«صَبَرُوا» ماض وفاعله والجملة صلة لا محل لها

«ابْتِغاءَ» مفعول لأجله

«وَجْهِ» مضاف إليه

«رَبِّهِمْ» مضاف إليه والهاء مضاف إليه

«وَأَقامُوا» ماض وفاعله والجملة معطوفة

«الصَّلاةَ» مفعول به

«وَأَنْفَقُوا» ماض وفاعله والجملة معطوفة

«مِمَّا» ما موصولية ومتعلقان بأنفقوا

«رَزَقْناهُمْ» ماض وفاعله ومفعوله والجملة صلة

«سِرًّا» منصوب بنزع الخافض

«وَعَلانِيَةً» معطوف على سرا

«وَيَدْرَؤُنَ» الواو عاطفة ومضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة معطوفة

«بِالْحَسَنَةِ» متعلقان بيدرؤون

«السَّيِّئَةَ» مفعول به

«أُولئِكَ» اسم إشارة في محل رفع مبتدأ والكاف للخطاب

«لَهُمْ» متعلقان بخبر مقدم

«عُقْبَى» مبتدأ مؤخر مرفوع بالضمة المقدرة على الألف للتعذر والجملة خبر أولئك

«الدَّارِ» مضاف إليه

وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعون السيئة بالحسنة، كأنهم إذا سفه عليهم حلموا. فالسّفه سيئة والحلم حسنة. ونحوه ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [سورة فصلت آية: 34] .
ويقال: درأ الله عنّي شرّك: أي دفعه. فهو يدرؤه درءا.