الآية رقم (7) - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ

بعدما ذكر الصّنف الثّاني من البريّة ذكر الّذين آمنوا بالله سبحانه وتعالى  ورسوله الكريم، وقرنوا الإيمان بالعمل الصّالح، فهؤلاء هم خير البريّة؛ أي خير الخليقة بإيمانهم وعملهم الصّالح، وليس بالمال والجاه والسّلطة، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «ألا أخبركم بخير البريّة؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «رجلٌ آخذٌ بعنان فرسه في سبيل الله عزَّ وجل، كلّما كانت هَيعةٌ استوى عليه، ألا أخبركم بالّذي يليه؟»، قالوا: بلى، قال: «الرّجل في ثلّةٍ من غنمه يُقيم الصّلاة ويؤتي الزكاة، ألا أخبركم بشرّ البريّة؟»، قالوا: بلى، قال: «الّذي يسأل بالله ولا يعطي به»([1]).

 


([1]) مسند الإمام أحمد: مسند المكثرين من الصّحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه، الحديث رقم (9131). هَيعةٌ: الصّوت الّذي يُفزَع منه ويُخَاف.

الآية رقم (8) - جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ

﴿جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾: الجزاء والثّواب والمكافأة تكون لهم، يُثابون على فعلهم أوفى وأتمّ الجزاء من عند ربّهم؛ لأنّهم خير الخليقة بإيمانهم، وبما قدّموا من عملٍ صالحٍ، قال تبارك وتعالى: ﴿وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ [يونس: من الآية 2]،  وكلمة: ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ فيها ملحظٌ، فعندما يكون أجرك عند المساوي لك يمكن أن يكون هناك إشكالٌ، أمّا إذا أجرك وثوابك عند الرّبّ سبحانه وتعالى  فهذا أمرٌ عظيمٌ، والعنديّة هنا هي عند الرّبّ الأعلى تبارك وتعالى.

﴿عَدْنٍ﴾: مادّتها العين والدّال والنّون، معناها الإقامة، عَدَن في المكان؛ أي أقام فيه، فهي جنّات إقامةٍ أبديّةٍ خالدين فيها، فالدّنيا ليست دار إقامةٍ، بل هي دارٌ سنرحل عنها، فإمّا أن نذهب إلى جنّات عدنٍ أو إلى جهنّم وبئس المصير.

﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾: يعطينا الحقّ سبحانه وتعالى صورةً للأنهار، وأنّ منبعها من تحت هذه الجنّات، فهي ليست أنهاراً تأتيك من بعيدٍ وقد تنقطع، إنّه نعيمٌ ما بعده نعيمٌ.

الآية رقم (1) - لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ

لم يذكر سبحانه وتعالى الـمُنفكّين عن ماذا انفكّوا؛ لأنّه معلومٌ من سياق الكلام؛ أي لم يكن الّذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين عن كفرهم وإشراكهم حتّى تأتيهم البيّنة.

﴿كَفَرُوا﴾: الكفر: معناه السّتر، ومعنى (كَفَر)؛ أي ستر، فالّذين كفروا ستروا الإيمان بالله سبحانه وتعالى وبرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم.

﴿مُنفَكِّينَ﴾: أي مُفارقين تاركين ما كانوا عليه من كفرهم وشركهم، فلا يزالون على هذه الحال، كما يقال: ما انفككت أفعل كذا وكذا، أي؛ ما زلت أفعل كذا وكذا.

﴿الْبَيِّنَةُ﴾: الحجّة الواضحة الّتي يتميّز بها الحقّ من الباطل، مأخوذةٌ من البيان: وهو الظّهور.

فبيّنة النّور والقوّة والفطرة يهبها سبحانه وتعالى للإنسان المفكّر ليهتدي إلى أنّ وراء هذا الكون خالقٌ مدبّرٌ، البيّنة إيمان الفطرة المركوز في ذرّات الأشياء.

الآية رقم (2) - رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً

﴿صُحُفًا﴾: جمع صحيفةٍ، وهي ما يُكتَب فيها.

﴿مُّطَهَّرَةً﴾: خاليةً من الباطل، مُبرّأةً من الضّلال والزّور.

﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً﴾: هذه هي البيّنة، فالرّسول يحتاج إلى علامةٍ، فليس لأحدٍ أن يقول: أنا رسولٌ من عند الله عزَّ وجل، من غير بيّنةٍ أو علامةٍ أو تصديقٍ من الله سبحانه وتعالى، لا بدّ أن يقدّم بين يديه معجزةً تُثبت أنّه رسولٌ من الله سبحانه وتعالى.

والآية هي الأمر العجيب الّذي يخرج عن القوانين والنّواميس لتثبت صدق البلاغ عن الله سبحانه وتعالى، والأنبياء جميعاً جاؤوا بمعجزاتٍ، (العصا، سفينة نوحٍ، عدم إحراق النّيران…)، أمّا النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فجاء بالقرآن الكريم.

الآية رقم (3) - فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ

﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾: في هذه الصّحف المطهّرة كتبٌ مستقيمةٌ.

منهجٌ مستقيمٌ صادقٌ، لا عوج فيه ولا اختلاف، تُبيّن الحقّ من الباطل، وتدلّ على الصّواب والصّلاح، وقد وصف الله سبحانه وتعالى ملّة إبراهيم بأنّها ديناً قيماً: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام]، قيماً مأخوذة من القيمة، قال سبحانه وتعالى: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الرّوم: من الآية 30]، قيّمٌ؛ أي مهيمنٌ على الرّسالات السّابقة كلّها، فهو الدّين المستقيم، دين الحقّ، وهذه الصّحف المطهّرة فيها أحكام الله سبحانه وتعالى  البعيدة عن الظّلم، أحكامٌ عادلةٌ معتدلةٌ، ذات قيمةٍ واعتبارٍ، والقرآن الكريم هو مجمع ثمرة كتب الله سبحانه وتعالى  السّابقة كلّها.

الآية رقم (4) - وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ

﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾: ما اختلف الّذين أوتوا الكتاب، وهم اليهود الّذين كانوا يبشّرون بقدوم النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في التّوراة، ﴿إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران]، والتّفرّق هنا هو الاختلاف، وهم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم.

﴿إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾: أي أنّهم كانوا مجتمعين على أمر تصديق الرّسول الكريم، وعندما جاء اختلفوا وتفرّقوا، بعضهم آمن كعبد الله ابن سلامٍ، الّذي كان حَبراً من أحبار اليهود، وكذلك آمن الرّاهب بحيرى، ولكنّ كثيراً غيرهم لم يؤمنوا واختلفوا من بعد ما جاءهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكفروا به حسداً من عند أنفسهم.

الآية رقم (5) - وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ

﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾: المولى سبحانه وتعالى أمر بالكتب السّماويّة السّابقة كلّها عبادته وحده سبحانه وتعالى، والإخلاص في عبادته سبحانه وتعالى، وهذه هي رسالة كلّ الرّسل، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ ﴾ [النّحل: من الآية 36]، والعبادة معناها الالتزام بأمرٍ يُفعل، والانتهاء عن أمرٍ لا يُفعل، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذّاريات]، فعلّة الخلق هي إقامة المنهج وعبادة الله سبحانه وتعالى ، وليست الجلوس في المساجد والتّسبيح فقط، بل هي منهجٌ يشمل الحياة والقيم والأخلاق كلّها.

﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾: فالأمر جاء للبشر أجمع أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى مخلصين له الدّين.

الآية رقم (6) - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ

يذكر الحقّ مصير هؤلاء الّذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين؛ لأنّهم صدّوا عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكذّبوه وغيّروا ما أُنزل عليهم من البشارة به في كتبهم، وكذلك المشركون الّذين أشركوا مع الله عزَّ وجل الأصنام والتّماثيل، وكفروا؛ أي ستروا الحقّ الّذي جاء به الرّسل جميعهم، وأنّه لا إله إلّا الله واحدٌ لا شريك له، ولا معبود بحقٍّ إلّا هو سبحانه وتعالى، فهؤلاء وهؤلاء في نار جهنّم خالدين فيها، فهي المصير المؤلم الّذي ينتهون إليه بكفرهم وتكذيبهم.

﴿أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾: أي أكثر البريّة شرّاً، فهناك شرٌّ يقابله شرٌّ، لكن أقلّ منه ماذا يكون؟ ككلمة (خير) في الحديث الشّريف: «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله مِنَ المؤمنِ الضّعيفِ، وفي كلٍّ خيرٌ»([1]).

﴿شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾: أي شرّ الخلائق من أهل الأرض، والبريّة: هم المخلوقات، سُمّوا بذلك من كلمة بارئ.

 


([1]) صحيح مسلم: كتاب القدر، باب في الأمر بالقوّة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، الحديث رقم (2664).