الآية رقم (7) - فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ

الخطاب للإنسان الّذي قال عنه: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾، فنحن خلقناك وسوّينا خلقك في أحسن تقويمٍ، وأرسلنا لك الرّسالات من على جبل الطّور وصولاً إلى البلد الأمين مكّة، فما يُكذّبك أيّها الإنسان بعد أن بيّنا لك الآيات؟

﴿بِالدِّينِ﴾: الدّين معرّف بالألف واللّام؛ أي المعهود فيه أنّه دين الإسلام: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران]؛ لأنّ الرّسالات السّماويّة كلّها جاءت بدين الإسلام، والدّين أيضاً يوم الحساب.

فما يُكذّبك أيّها الإنسان بالدّين؟ أي بالبعث، ما الّذي دعاك إلى ذلك؟ قضاء الله سبحانه وتعالى في وجود يوم الدّين هو عين الحقّ، فقد أعطى الاتّزان للوجود، وحمى الضّعيف والمظلوم، وأبقى الحقّ في الكون، ومنع الدّنيا أن تتحوّل إلى غابةٍ يفتك بها القويّ بالضّعيف، والظّالم بالمظلوم، والله سبحانه وتعالى مالك هذا اليوم سيُحاسِب الخلق.

الآية رقم (8) - أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ

﴿أَلَيْسَ﴾: للاستفهام عن النّفي، لذلك تُجاب بـ: (بلى)؛ أي أُثبت أنّه ليس هناك أحكم الحاكمين غير الله سبحانه وتعالى والله سبحانه وتعالى لا يستفهم منهم بل يقرّر، ولقد شاء أن يكون الإقرار منهم، فيقولون: (بلى)؛ لأنّ الأمر لا يحتاج إلى مكابرةٍ. و(بلى) حرفٌ يجعل النّفي إثباتاً، وكلّما وجدت جمعاً أدخل الله سبحانه وتعالى ذاته مع عباده ممّن لهم هذا الوصف فهذا يدلّ على أنّ الموصوفين معه لهم تلك الصّفات المذكورة، ولكنّ صفات الله سبحانه وتعالى أزليّةٌ، أمّا النّاس فهم أحداثٌ وأغيارٌ، تنتابهم القوّة والضّعف والتّغيّر.

فأعدل العادلين وأقضى القاضين يحكم بينك وبين المكذّبين، والله سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين في جميع ما خلق وصنع، وذلك كلّه دالٌّ على علمه وحكمته جلّ جلاله وتقدّست أسماؤه، وممّا يرويه أبو هريرة رضي الله عنه: «من قرأ: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾، فقرأ: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾، فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشّاهدين»([1])، ونحن جميعاً على ذلك من الشّاهدين.

 


([1]) سنن التّرمذيّ: كتاب تفسير القرآن، باب سورة التّين، الحديث رقم (3347).

تفسير سورة التين

هي من السّور المكّيّة، وهي تتعلّق باليوم الآخر والعقيدة، والله سبحانه وتعالى جعل للقرآن الكريم نَظْماً خاصّاً، فنجد خمس سورٍ متتاليةٍ بدأت بالقَسَم كلّها، سورة (الفجر)، سورة (البلد)، سورة (الشّمس)، سورة (اللّيل)، سورة (الضّحى)، ثمّ جاءت سورة (الشّرح) لم تبدأ بقَسَمٍ، وكأنّها تكمّل هذه المجموعة من السّور.

الآية رقم (1) - وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ

يُقسم سبحانه وتعالى بشجرتين من الأشجار: التّين والزّيتون، وذلك لِعظَم نفعهما للإنسان، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى  الزّيتون في أكثر من موضعٍ من كتابه سبحانه وتعالى ، قال جلَّ جلاله: ﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ﴾ [المؤمنون]، فهي شجرةٌ تنبُتُ بالدُّهن -الدّسم وهو زيت الزّيتون- وصِبغٍ للآكلين، تتّخذونه إداماً مع الخبز والطّعام، وقد وصف الله سبحانه وتعالى نوره في سورة (النّور) بقوله: ﴿اللَّهُ نورُ السَّماواتِ وَالأَرضِ مَثَلُ نورِهِ كَمِشكاةٍ فيها مِصباحٌ المِصباحُ في زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوكَبٌ دُرِّيٌّ يوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيتونَةٍ لا شَرقِيَّةٍ وَلا غَربِيَّةٍ يَكادُ زَيتُها يُضيءُ وَلَو لَم تَمسَسهُ نارٌ نورٌ عَلى نورٍ يَهدِي اللَّهُ لِنورِهِ مَن يَشاءُ وَيَضرِبُ اللَّهُ الأَمثالَ لِلنّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ﴾ [النّور]، هو ارتقاءٌ في إضاءة المصباح من شجرة زيتونٍ، شجرةٍ غير عاديّةٍ، لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ، مُباركةٍ، يخرج منها زيتاً بأعلى درجات النّقاء ليس فيه شوائب، يكاد يُضِيء بذاته ولو لم تمسسه نارٌ، فكأنّه نورٌ على نورٍ، فلا يُصبح في هذه الدّائرة الصّغيرة أيّ نُقطةٍ مُظلمةٍ، كذلك تنوير الله سبحانه وتعالى  لكونه المتّسع، ليس فيه نقطةٌ واحدةٌ مُظلمةٌ، بل الكون كلّه مغمورٌ بنوره سبحانه وتعالى .

والقَسَم هنا بالتّين والزّيتون ليس لأنّهما مُجرّد نباتَين أو شجرتَين ينتفع بهما النّاس، بل هو أيضاً تذكيرٌ بمكان استقبال رسالة موسى عليه السَّلام في جبل طور سيناء حيث نزلت التّوراة، ومكان استقبال رسالة سيّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مكّة البلد الأمين.

الآية رقم (2) - وَطُورِ سِينِينَ

﴿وَطُورِ﴾: هو الجبل الّذي كلّم الله سبحانه وتعالى عليه موسى عليه السَّلام.

﴿سِينِينَ﴾: الـمُبارَك أو الحسَن بالأشجارِ الـمُثمرةِ.

بعض المفسّرين عدّ أنّ ﴿سِينِينَ﴾ هنا المنطقة أو المكان الّذي فيه الجبل، وقد جاءت في سورةٍ أخرى: ﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ﴾ [المؤمنون].

الآية رقم (3) - وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ

يشير الحقّ سبحانه وتعالى إلى مكّة، البلد الأمين الّذي جعله الله سبحانه وتعالى آمناً بدعوة إبراهيم عليه السَّلام: ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ [البقرة: من الآية 126].

الحقّ سبحانه وتعالى أقسم هنا بأربعة أشياء: بالشّجرتين: (التّين والزّيتون)، وبالمكانَين: (جبل طور سينين) الّذي كلّم عليه موسى عليه السَّلام و(البلد الأمين) مكّة الّتي جعلها الله سبحانه وتعالى مكاناً لبيته الحرام ونزول الوحي على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

الآية رقم (4) - لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ

﴿الْإِنْسَانَ﴾: المراد جنس الإنسان.

وهذه الآية هي جواب القَسَم: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾.

فالمولى سبحانه وتعالى يمتنّ على البشريّة جمعاء، فقد خلق سبحانه وتعالى  الكون والإنسان، ولا بدّ أن يكون هذا الإنسان هو الموضوع الأساسيّ، وموضوع الرّسالة، وقد تحدّث سبحانه وتعالى  عن تشكيل وتصوير خلق الإنسان خلقاً مادّيّاً في أحسن تقويمٍ، ومراحل الخلق: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ_ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً * فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون]، خلقه  سبحانه وتعالى من طينٍ وصوّره على هذه الهيئة الّتي أرادها جلَّ جلاله ، حيث جعل سبحانه وتعالى  النّطفة في قرارٍ مكينٍ، ثمّ خلق النّطفة خلقاً آخر، لذلك قال: ﴿خَلَقْنَا﴾، ولم يقل: (جعلنا)، فالنّطفة يخلقها علقةً، ثمّ يخلق العلقة مضغةً، ثمّ يخلق المضغة عظاماً، فيكسو العظام لحماً، ثمّ يُنشئه خلقاً آخر، وهذا كلّه عن خلق الإنسان المادّيّ، أمّا عن خلق الإنسان وسط شقاء الدّنيا ومتاعبها قال سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد].

الآية رقم (5) - ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ

نقلناه من حالٍ إلى حالٍ؛ أي رددناه إلى أرذل العمر والضّعف والشّيخوخة والانحناء وذهاب العقل.

الآية رقم (6) - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ

﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: يُكتَب لهم بعد الهَرم مثل الّذي كانوا يعملون في حال الشّباب والصّحّة.

الإيمان أن تنسجم حركة الحياة مع ما في القلب وفق مُراد الله سبحانه وتعالى، ونظام الحياة لا يقوم إلّا على الإيمان: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر]، فهي توافق: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾؛ لأنّ بعد كلا الآيتين: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.

الإيمان يحتاج إلى عملٍ، فإيمانٌ وعملٌ هو اعتقادٌ وتصديقٌ وسلوكٌ واستقامةٌ، فلا تستطيع أن تقول: هناك إيمانٌ بلا عملٍ، قال سبحانه وتعالى: ﴿نِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ﴾ [العنكبوت].