الآية رقم (113) - مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ

بعد ذلك يتكلّم الحقّ سبحانه وتعالى  عن أمرٍ شغل بال المؤمنين الّذين كان لهم آباءٌ على الكفر، ومن حقوق هذه الأبوّة على الأبناء أن يستغفروا لهم.

مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا: كلمة:﴿مَا كَانَ﴾ تختلف عن كلمة: (ما ينبغي)، فعندما يُقال: ما ينبغي لك أن تفعل ذلك، فهذا يعني أنّ لك قدرة على أن تفعل أو لا تفعل، ولكن حين يقال: ما كان لك أن تفعل؛ أي أنّك غير مؤهّلٍ لفعل هذا مطلقاً؛ أي ما كان للنّبيّ ﷺ ولا المؤمنين أن يستغفروا للّذين ماتوا على الكفر والشّرك ولو كانوا أولي قربى.

الآية رقم (103) - خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾: الصّدقة هنا ليست الزّكاة، قال سبحانه وتعالى :﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ ]الذّاريات[، فعندما يقول سبحانه وتعالى : ﴿حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ فهذه صدقةٌ، أمّا عندما يقول﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ ]المعارج[، فهذه زكاةٌ، هنا صدقةٌ للتّكفير عن أفعالهم، والمال في الحقيقة لله سبحانه وتعالى ، وليس ملكاً للإنسان، لكنّ الله U عندما يطمئن الإنسان إلى حركته في الحياة يقول له: إنّ هذا المال هو مالك.

﴿تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾: تطهّرهم من الرّجس، وتزكّيهم لتطهير ما قاموا به من تخلّفٍ عن رسول الله : عند ذهابه إلى غزوة تبوك.

﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾: أي ادع لهم؛ لأنّ الصّلاة في اللّغة هي الدّعاء.

﴿ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾: دعاء النّبيّ ﷺ سيكون سكناً؛ أي اطمئناناً.

﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾: لم يقل: (غفورٌ رحيمٌ)؛ لأنّ صدر الآية يختلف عن صدر الآية السّابقة الّتي فيها﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، بينما هنا يقول سبحانه وتعالى  للنّبيّ ﷺ: خذ من أموالهم صدقةً لتطهيرهم وتزكيتهم، وادعُ لهم، فالله سبحانه وتعالى  سميعٌ وعليمٌ بما في قلوبهم.

الآية رقم (114) - وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ

قال سيّدنا إبراهيم u في آياتٍ أخرى لأبيه -وهو عمّه آزر-:﴿ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ ]مريم[،  بما أنّ ربّ إبراهيم u يحبّه وسيُكرمه، فسيستغفر لأبيه.

﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾: إبراهيم عليه السلام له صفات الخير لدرجة أنّ الله سبحانه وتعالى يقول عنه:﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا﴾ ]النّحل: من الآية 120[.

-﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾: طَبْعُ سيّدنا إبراهيم عليه السلام أنّه أوّاهٌ حليمٌ، الأوّاه: هو الّذي يُكثر التّأوّه والتّوّجع على نفسه مخافةً من الله سبحانه وتعالى، ويخاف على النّاس إن رأى منهم معصيةً، فيُحدّث نفسه بما سوف يقع عليهم من عذابٍ ممّا يجعله دائماً رحيماً رؤوفاً بهم، فهذه فطرة إبراهيم u، فهو أوّاهٌ، والتّأوّه لونٌ من السّلوى يجعله الله سبحانه وتعالى  في بعض عباده.

وهنا يقف بعض النّاس ويقول: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله اختار العرب فاختار منهم كنانة، أو النّضر بن كنانة، ثمّ اختار منهم قريشاً، ثمّ اختار منهم بني هاشم، ثمّ اختارني من بني هاشم، فأنا خيارٌ من خيارٍ إلى خيارٍ»([1])، لكن يجب أن ننتبه أنّ أبا إبراهيم عدوٌّ لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ]الأنعام[،  وآزر هو عمّه، وليس الأب الحقيقيّ، ولا نجد في نسب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أحداً عدوّاً لله سبحانه وتعالى ، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: «لم أزل أُنقَل من أصلاب الطّاهرين إلى أرحامِ الطّاهرات»([2])، فالأب في عُرف القرآن الكريم يُطلق على العمّ وعلى الجدّ، قال سبحانه وتعالى :﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ ]يوسف: من الآية 38[،﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ ]البقرة: من الآية 133[، فيعقوب عليه السلام أبوه إسحاق عليه السلام، وعمّه إسماعيل عليه السلام، فقال عنه: أبٌ؛ لذلك نجد قوله سبحانه وتعالى :﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ]الأنعام[.

﴿حَلِيمٌ﴾: الحليم هو خُلُقٌ يجعله دائماً صابراً صبوراً على الأذى، صفوحاً عن الذّنب.

([1]) جامع الأحاديث للسّيوطيّ: حرف الهمزة، إن المشدّدة مع الهمزة، الحديث رقم (6619).

([2]) سبل الهدى والرّشاد في سيرة خير العباد: الجزء الأوّل، ص 256.

الآية رقم (104) - أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا﴾: الهمزة استفهاميّة، لم: حرف نفي، والاستفهام مع النّفي يدلّ على الإثبات؛ أي يجب أن يعلموا أنّ الله سبحانه وتعالى  يقبل التّوبة عن عباده، وأنّه سبحانه وتعالى  هو التّواب الرّحيم.

﴿أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ﴾: هل ﴿هُوَ﴾ هنا زائدةٌ؟ الجواب: لا يوجد في كتاب الله سبحانه وتعالى حرفٌ واحدٌ زائدٌ، فكلّ شيءٍ في القرآن الكريم له ميزانٌ دقيقٌ وعظيمٌ.

لماذا أكّد وقال: ﴿هُوَ﴾ ؟ الله سبحانه وتعالى  قال حكايةً عن سيّدنا إبراهيم عليه السلام: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ ]الشّعراء[، فهل قال بعدها: (والّذي هو يميتني)؟ الجواب: لا، إنّما قال سبحانه وتعالى :﴿وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ ]الشّعراء[، ما السّبب؟ كلّ أمرٍ يعتقد النّاس أنّهم يشتركون فيه مع الله جل جلاله فإنّه جلّ وعلا يؤكّد فيه على وحدانيّته مثال: عندما تقول:﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ أنت تعتقد أنّك خُلِقت من الأمّ والأب، فيجب التّأكيد على أنّ الخالق هو الله سبحانه وتعالى  وليس الأمّ والأب،﴿ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾ تعتقد أنّ الرّزق والعمل والمال هي مصدر طعامك فيجب التّأكيد على أنّ الله سبحانه وتعالى  هو الرزّاق الكريم،﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ تعتقد أنّ الدّواء أو الطّبيب هو الّذي يشفي:

إنَّ الطّبيبَ لهُ علمٌ يُدِلُّ بِه
حتّى إذا مــا انتهت أيّامُ رحلتِه                     .
إن كان للمرءِ في الأيّامِ تأخيرُ
حـارَ الطّبيبُ وخانتـــــــــه العقـاقيرُ
.

أمّا عند قوله: ﴿وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ لم يأت بـ: ﴿هُوَ﴾؛ لأنّه لم يقل أحدٌ: إنّه يُميت، والقتل يختلف عن الموت، فهو هدمٌ للبنية، وقد سبق تفسيره في سورة (آل عمران) عند قوله سبحانه وتعالى :﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ ]آل عمران: من الآية 144[، فالموت شيءٌ والقتل شيءٌ آخر، فلا يُميت ولا يحيي إلّا الله سبحانه وتعالى ؛ لذلك ليس هناك من حاجةٍ لـ: ﴿هُوَ﴾ .

والله سبحانه وتعالى  هو الّذي يقبل التّوبة، وليس رسول الله ﷺ.

﴿عَنْ عِبَادِهِ﴾: لماذا قال: ﴿عَنْ﴾ وليس: (من عباده)؟ هذه دقّة القرآن الكريم وأسراره، قال سبحانه وتعالى :﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ ]النّساء[،  والفارق بين كلام الله سبحانه وتعالى  وكلام النّاس كالفارق بين فضل الله عز وجل وبين النّاس، كما قال :: «فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه»([1])، فمعنى: ﴿يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾؛ أي أنّه يتجاوز عن عقوبتهم ويعفو عنهم، فهو من باب تضمين فعلٍ دلالةَ فعلٍ آخر.

﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾: الله سبحانه وتعالى  هو الآخذ للصّدقات والمثيب عليها، لذلك قال النّبيّ ﷺ : «ثَلاثَةٌ أقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ فَتَصَدَّقُوا،…»([2])؛ لأنّك عندما تتعامل مع خلق الله فإنّك تُعامل الله عز وجل.

﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾: يبيّن الله سبحانه وتعالى  بأنّه توّابٌ، وتوّابٌ تتناسب مع الإنسان الّذي يُخطئ ويعود، وممّا روته السيّدة عائشة رضي الله عنها قالت: جاء حبيب بن الحارث إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، إنّي رجل مِقرافٌ، قال: «فتُب إلى الله يا حبيب»، قال: يا رسول الله، إنّي أتوب ثمّ أعود، قال: «فكلّما أذنبت فتب»، قال: يا رسول الله، إذنْ تكثرْ ذنوبي، قال: «عفو الله أكبر من ذنوبك يا حبيب بن الحارث»([3]).

([1]) سنن الدّارميّ: كتاب فضائل القرآن، باب فضل كلام الله على سائر الكلام، الحديث رقم (3357).

([2]) مسند البزّار: المجلّد الأوّل، مسند عبد الرّحمن بن عوف، الحديث رقم (1032).

(([3] مجمع الزّوائد ومنبع الفوائد: ج 10، الحديث رقم (17531)، ومِقراف: صيغة مبالغة من قارف: يُقال: قارف الخطيئة: أي خالطها.

الآية رقم (115) - وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

﴿إِذْ هَدَاهُمْ﴾ : الهداية هنا هي هداية الدّلالة للنّاس كلّهم.

﴿حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾: أي ما كان الله سبحانه وتعالى  ليحكم بضلالة قومٍ حتّى يبيّن لهم ما يتّقون ويُنزل الرّسل والرّسالات، والتّقوى التزام أوامر الله سبحانه وتعالى  واجتناب نواهيه، فإن وافقوا هذا البيان هداهم هداية المعونة، وإن لم يوافقوا كانوا ضالّين، وقد حكم الله سبحانه وتعالى  بضلالة عمّ إبراهيم وذلك بعد أن بيّن له منهج الهداية، وقد بيّن إبراهيم u لعمّه منهج الهداية وحاوره كثيراً فلم يهتد، ولذلك أمره الله سبحانه وتعالى  ألّا يستغفر له.

الآية رقم (105) - وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

﴿وَقُلِ اعْمَلُوا﴾: ديننا دين عملٍ وعلمٍ، والإيمان يحتاج إلى ترجمته بأخلاقٍ وأعمالٍ.

﴿فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾: عندما قال: ﴿فَسَيَرَى﴾ السّين للمستقبل، فتح أمامهم باب عملٍ، فالتّوبة تحتاج إلى الاعتراف بالذّنب وعدم الإصرار عليه، وتبديل العمل السّيّء بعملٍ صالحٍ، فقول الله سبحانه وتعالى :﴿فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ ؛ أي أنّ الله سبحانه وتعالى  سيثيبكم على عملكم، أمّا بالنّسبة إلى رسول الله ﷺ والمؤمنين؛ فلأنّهم يحتاجون في المجتمع إلى أن يروا الأعمال الصّالحة كترجمانٍ للإيمان الّذي جاء به النّبيّ ﷺ، ودعوة النّبيّ ﷺ هي دعوة الخير للغير، وهي دعوة المحبّة والرّحمة والعطاء واليُسر، وليست دعوة التّشديد والعُسر والإيذاء للنّاس، والنّبيّ ﷺ يقول: «ما آمن بي من بات شبعانَ وجاره جائعٌ إلى جنبه وهو يعلم به»([1])، وغيره الكثير من الأحاديث والآيات. فالاتّهامات الّتي تُلصَق بالإسلام إنّما تُلصَق زوراً وبهتاناً والإسلام منها بريء.

﴿وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾: بما أنّه عالم الغيب فحتماً سيكون عالم الشّهادة، قلنا سابقاً: هناك غيبٌ مطلقٌ لا يعلمه إلّا الله سبحانه وتعالى ، وهناك غيبٌ نسبيٌّ قد يعلمه بعض النّاس ويخفى عن بعضٍ، وعندما يقول الله سبحانه وتعالى : ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ﴾ فإنّه يؤكّد للنّاس بأنّه مطَّلعٌ على عالم الشّهادة كما هو مطَّلعٌ على عالم الغيب.

﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: عالم الغيب هو العالم الّذي سيكون عَقِب وفاة الإنسان والانتقال إلى حياة البرزخ، ومن ثمّ إلى الحياة الآخرة، والعمل كما قلنا: هو أساسٌ بالنّسبة إلى المسلم، وتعاليم الإسلام ليست ثقافةً ولا ترداداً لعباراتٍ وشعاراتٍ وكلماتٍ، وإنّما هي عقيدةٌ راسخةٌ معقودةٌ في القلب، فهي تحتاج إلى تصديقٍ بعملٍ، كما قال النّبيّ ﷺ: «الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل»([2]).

([1]) المعجم الكبير للطّبرانيّ: باب الألف، أنس بن مالك الأنصاريّ، الحديث رقم (751).

([2]) مصنّف ابن أبي شيبة: كتاب الإيمان والرّؤيا، باب منه، الحديث رقم (30351).

الآية رقم (116) - إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: هو المالك لذلك، قال سبحانه وتعالى : ﴿ إقُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾  ]آل عمران[،  والملكوت: هو ما غاب عنك في مُلك الله سبحانه وتعالى .

﴿ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾: الحياة والموت بيد الله سبحانه وتعالى ، ونذكر حوار إبراهيم عليه السلام مع النّمرود: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ ]البقرة: من الآية 258[.  

﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾: فالله عز وجل يحيي ويميت وبيده الأمر والنّهي، وهو على كلّ شيءٍ قديرٌ، وليس لكم من دونه وليٌّ ولا نصيرٌ.

الآية رقم (95) - سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ

﴿سَيَحْلِفُونَ﴾ : كلمة ﴿سَيَحْلِفُونَ﴾ فيها سرٌّ إعجازيٌّ من الله سبحانه وتعالى ، فالآية نزلت وقُرئت وسمعها المؤمنون والمنافقون قبل أن يحلف المنافقون.

﴿إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾: الانقلاب: معناه التّحوّل، والمقصود به العودة إلى المدينة مقرّ السّلام والأمن بعد الحرب، وعندما عادوا إلى المدينة بدأ المنافقون يحلفون، ولكن لماذا سيحلفون؟ يجيب الحقّ سبحانه وتعالى  بقوله: ﴿لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾؛ أي لتعرضوا عن توبيخهم ولومهم وتعنيفهم؛ لأنّهم لم يجاهدوا معكم.

﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾: أي أعطوهم مطلوبهم ولا تتكلّموا معهم شيئاً، فلا تلوموهم ولا توبّخوهم.

﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ﴾: الرّجس: يُطلق على معانٍ كثيرةٍ؛ أي أنّ فيهم خُبثاً وقذارةً.

﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾: النّتيجة والمآل هي جهنّم، جزاءً بما كانوا يكسبون من الخطايا والآثام في الحياة الدّنيا.

الآية رقم (96) - يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ

﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾: يحلفون لكي ترضوا عنهم، والرّضا هو اطمئنان القلب إلى أمرٍ فيه نفعٌ، فلماذا يحلف المنافقون؟ وتأتي الإجابة من الحقّ سبحانه وتعالى:

﴿ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ﴾: ولكن إن رضيَ عنهم المؤمنون فالله سبحانه وتعالى  لن يرضى عنهم.

﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾: الفاسقون: الخارجون عن تعاليم الله سبحانه وتعالى  وعن منهجه.

الآية رقم (97) - الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا﴾: تكلّم المولى سبحانه وتعالى  في الآيات السّابقة عن المنافقين من العرب الّذين كانوا في المدينة المنوّرة، وهنا يتكلّم سبحانه وتعالى  عن الأعراب، فما الفارق بين العرب والأعراب؟ العرب هم سكّان المدن والقرى المتوطّنون في أماكن يذهبون منها ويعودون إليها، وفيها بيوتهم الثّابتة بشكلٍ مستقرٍّ، لكنّ الأعراب هم سكّان البوادي، وليس لهم استقرارٌ في مكانٍ، إنّما يتتبّعون مواضع الكلأ، ومفرد كلمة الأعراب: أعرابيّ، وليس عربيّ.

وقد أخبر المولى سبحانه وتعالى  بأنّ الأعراب أشدّ كفراً ونفاقاً من غيرهم؛ وذلك لقسوة قلوبهم وجفائهم وبُعدِهم عن العلم ومجالس الإيمان.

﴿وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾: أي أحقّ ألّا يعلموا حدود ما أنزل الله سبحانه وتعالى  على رسوله الكريم ﷺ؛ لأنّهم بعيدون عن مجالس الرّسول ﷺ، فمعرفة حدود ما أنزل الله سبحانه وتعالى  من الأوامر والنّواهي والحلال والحرام يأتي من التّواصل مع رسول الله ﷺ ومع صحابته الكرام، وهذا لا يتأتّى بالتّنقّل من مكانٍ إلى مكانٍ، بل لا بدّ من الاستقرار.

وعندما نتحدّث عن العروبة يجب أن نفرّق بين العروبة والأعراب، فعندما سُئل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن نجد قال: «وبها يطلع قرن الشّيطان»([1])، وكان فيها الأَعراب، لذلك عندما نجد من انحرف عن سيرة وسنّة وسلوك النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام نقول: هؤلاء أعرابٌ، ولا نقول عنهم: إنّهم عربٌ، والعروبة بالنّسبة إلينا قضيّةٌ مرتبطةٌ ارتباطاً وثيقاً بالإسلام وبكلام الله سبحانه وتعالى ، قال الله عز وجل: ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ]يوسف[، فأشرف لغةٍ على وجه الأرض هي اللّغة العربيّة، وشرّفها الله سبحانه وتعالى بأن جعلها الوعاء لكلامه سبحانه وتعالى ، يقول ﷺ: «أحبّوا العرب؛ لأنّي عربيّ والقرآن عربيّ وكلام أهل الجنّة عربيّ»([2])، وقال سبحانه وتعالى :﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ]الزّخرف[، وقال جلّ وعلا: ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ ]الشّعراء[، ونحن نتمسَّك باللّغة العربيّة بتمسّكنا بكتابنا وبنبيّنا ﷺ وبديننا وإسلامنا، فلا فصل على الإطلاق بين العروبة والإسلام.

﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾: أي أنّه يعلم كلّ شيءٍ، وهو حكيمٌ يضع الأمور في مكانها الصّحيح.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الاستسقاء، باب ما قيل في الزّلازل والآيات، الحديث رقم (990).

([2]) شعب الإيمان: باب في حبّ النّبيّ :، الحديث رقم (1433).

الآية رقم (98) - وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا﴾: ومن الأعراب مَن يدّعي بظاهر الأمر أنّه يتّبع الإسلام، وهو يعلم أنّ في الإسلام زكاةً، فيعطي عامل الزّكاة النّصاب المقرّر عليه ويعدّ ما دفعه مَغرمَاً؛ أي كغرامةٍ؛ لأنّه أعطى النّصاب وهو كارهٌ، وما دام كارهاً فهو لا يؤمن بحكمة الزّكاة.

﴿وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ﴾: أي يتمنّى وينتظر أن تصيب المسلمين كارثةٌ فلا يأخذون الزّكاة، ويُقال: دارت عليه الدّوائر؛ أي أنّ المصيبة أحاطت به فلا منفذ له ليخرج منها.

﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾: دائرة السّوء قادمةٌ لهم لا محالة ستحيط بهم.

﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾: فهو جل جلاله يسمع سرّهم ونجواهم، ويعلم سرائرهم وما تخفي صدورهم.

الآية رقم (99) - وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

هنا صيانة الاحتمال، فلا بدّ دائماً من التّحديد وعدم التّعميم، وهنا يعلّمنا المولى سبحانه وتعالى  ذلك.

﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾: فمن هؤلاء الأعراب مَن يؤمن بالله سبحانه وتعالى  واليوم الآخر.

﴿ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ﴾: ويجعل ما ينفقه من زكاةٍ أو صدقةٍ قربةً؛ شيئاً يتقرّب به إلى الله سبحانه وتعالى ، ويدّخره لليوم الآخر.

﴿وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ﴾: كذلك طلباً لدعاء الرّسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ الصّلاة في الأصل هي الدّعاء، فعندما يصلّي النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو يدعو فهو يدعو لهم.

﴿ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ﴾: يؤكّد المولى سبحانه وتعالى  بأنّها قربةٌ لهم من المولى سبحانه وتعالى .

﴿سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ﴾: سيدخلهم الله جل جلاله في رحمته وسيغمرهم بها؛ لأنّه سبحانه وتعالى  غفورٌ رحيمٌ.

الآية رقم (100) - وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾: السّابقون هم الّذين سبقوا إلى الإيمان في مكّة، وسبقوا إلى نصرة النّبيّ ﷺ في المدينة، وقد طمأن النّبيُّ ﷺ النّاسَ الّذين لم يدركوا عهد النّبيّ ﷺ فقال: «وددتُ أنّي لقيتُ إخواني»، فقال أصحاب النّبيّ ﷺ: أو ليس نحن إخوانك؟ قال: «أنتم أصحابي، ولكن إخواني الّذين آمنوا بي ولم يروني»([1]).

وقيل المراد في الآية: المهاجرون أوّلاً من أهل بدر الّذين دخلوا معركة الفرقان ومن كان معهم ممّن خرجوا من المدينة المنوّرة من الأنصار. وهنا لا بدّ أن نروي قصّة حاطب بن أبي بلتعة الّذي أرسل رسالةً إلى المشركين في مكّة ليخبرهم بأنّ النّبيّ ﷺ سيأتي لفتحها، عن عليّ رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله ﷺ أنا والزّبير والمقداد بن الأسود قال: «انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ، فإنّ بها ظعينة ومعها كتابٌ فخذوه منها»، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتّى انتهينا إلى الرّوضة، فإذا نحن بالظّعينة فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتابٍ، فقلنا: لتخرجنّ الكتاب أو لنلقينّ الثّياب، فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله ﷺ فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناسٍ من المشركين من أهل مكّة يخبرهم ببعض أمر رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: «يا حاطب، ما هذا؟»، قال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إنّي كنت امرأً مُلصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان مَن معك من المهاجرين لهم قرابات بمكّة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببتُ إذ فاتني ذلك من النّسب فيهم أن أتّخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفراً ولا ارتداداً ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: «لقد صدقكم»، قال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عُنُق هذا المنافق، قال: «إنّه قد شَهِد بدراً، وما يدريك لعلّ الله أن يكون قد اطّلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»([2])، دائماً هذا سلوك النّبيّ ﷺ، يعطي التّبرير لأيّ مجالٍ أو فسحةٍ ولو كانت صغيرةً، وهذا هو دين الإسلام العظيم.

([1]) مسند أحمد بن حنبل: مسند المكثرين من الصّحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه، الحديث رقم (12601).

([2]) صحيح البخاريّ: كتاب الجهاد والسّير، باب الجاسوس، الحديث رقم (2845).

الآية رقم (101) - وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ

نتابع هذه الآيات العظيمة الّتي فضحت النّفاق، وقد سمّيت سورة التّوبة بالسّورة الفاضحة؛ لأنّها أخرجت خبايا نفوس المنافقين في المدينة المنوّرة، ولا شكّ أنّ خطر النّفاق أكبر وأعظم بالنّسبة للمجتمعات من أيّ خطرٍ آخر.

وقد فضحت سورة (التّوبة) اليهود الّذين تحالفوا مع مشركي العرب ومع المنافقين داخل المدينة المنوّرة. ولا بدّ من أن نذكر أنّه بعد أحداث أيلول وما تمّ في نيويورك بدأ الهجوم على الإسلام، ورُبِطَ الإرهاب بالإسلام، وذلك ما أرادته الصّهيّونيّة العالميّة حتّى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، بعد هذه الأحداث كان هناك محاضرةٌ في جامعةٍ بواشنطن لأستاذٍ اسمه (بات) من ولاية (أركنسون) وهو متصهينٌ -ولو بحثنا عن كلّ ما يتعلّق بالعداء للأمّة العربيّة والإسلاميّة فسنجد وراءها أصابع اليهود المجرمين، فقد قال الله سبحانه وتعالى : ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ ]المائدة: من الآية 82[- قام د. (بات) أمام الآلاف من الطّلّاب -وبينهم طلّابٌ مسلمون- وقال كلمتين فقط: نحن لن نستطيع أن نعيش أبداً مع أُناسٍ يقول كتابهم المقدّس -يقصد القرآن الكريم-:﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ ]البقرة: من الآية 191[، وجلس، وبدأ التّصفيق في الجامعة، لم يتحدّث إلّا بهاتين الكلمتين فقط، فقام طالبٌ مسلمٌ ليردّ عليه فقال: لقد قلت يا دكتور: بأنّ القرآن الكريم يقول: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾  فهل يمكن أن تعيرني المقصّ السّحريّ الّذي استخدمته في قصّ كلمات القرآن الكريم من سياقها؟! فإذا استعرت هذا المقص فإنّني أستطيع أن أجد لك أشدّ من هذه الكلمات في برنامج أو في منهاج الصّفّ الأوّل في الجامعة وفي أيّ مادّةٍ من المواد، لكن ليس هذا هو الجواب، فالجواب أحد احتمالين: إمّا أن تكون جاهلاً بأنّ تتمّة الآية القرآنيّة: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ ؛ أي أنّ القتال يكون لمن اعتدى وأخرج المسلمين من ديارهم، وإمّا أنّك تكذب، وأنا أعتقد أنّه لا يمكن أن أتحاور مع جاهلٍ أو مع كاذبٍ، فانقلب الحضور جميعاً بالتّصفيق لهذا الشّاب، وهذه هي الحقيقة، ما يحدث معنا هو إمّا أن يكون هناك جهلٌ في تفسير آيات القرآن الكريم، أو أن يكون هناك كذبٌ متعمّدٌ، فالتّفسير مهمٌّ جدّاً ويجب أن يكون مع سياق الآية القرآنيّة ومع العلم بأحكام التّفسير.

﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ﴾: ينبّه أنّكم في مجتمعٍ مُحاطٍ بالمنافقين، هناك إحاطةٌ كاملةٌ من قِبلهم، فحركة النّفاق كانت كبيرةً جدّاً.

﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾: مرد؛ أي تدرّب واحترف، وقيل: لجُّوا فيه، وأبَوْا غيرَه، فقد أصبح النّفاق حرفةً، وهذا ما نجده الآن في المجتمعات.

﴿مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾؛ أي أصبح النّفاق لديهم ظاهرةً طبيعيّةً بوصفهم محترفي النّفاق.

﴿لَا تَعْلَمُهُمْ﴾: المنافق لا يعلمه رسول الله : ولا المؤمنون؛ لأنّه يُبدي غير ما يبطن.

﴿نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾: الله سبحانه وتعالى  يعلمهم، وقد أخبر نبيّه : عنهم.

﴿سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾: قال العلماء: مرّةً؛ لأنّ المنافق يُخالف طبيعته، فهو لا ينسجم مع ذاته، فيُبدي غير ما يؤمن به بداخله، فهو معذّبٌ دائماً، والثّانية: قالوا: بأنّ المنافق يُبتلى كما يُبتلى المؤمن، ولكنّ المؤمن عندما يُبتلى يُثاب، فالبلاء بالنّسبة إليه يرفعه درجةً كما قال ﷺ: «ما يُصيب المؤمن من شوكةٍ فما فوقها إلّا رفعه الله بها درجةً، أو حطّ عنه خطيئةً»([1])، أمّا المنافق فيُبتلى ولا يُثاب، وهناك قولٌ بأنّ المرّتين: مرّةً بالابتلاء في الدّنيا، ومرّةً بأنّ الله سبحانه وتعالى  فضحهم لنبيّه ﷺ، والمرّة الثّالثة هي العذاب العظيم.

([1]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرضٍ أو حزنٍ أو نحو ذلك حتّى الشّوكة يُشاكها، الحديث رقم (2572).

الآية رقم (102) - وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾: هنا صيانة الاحتمال، فعندما عاد النّبيّ ﷺ من غزوة تبوك بعض الّذين تخلّفوا قدّموا الأعذار للنّبيّ ﷺ وتابوا، فخلطوا عملاً صالحاً بعملٍ سيّئٍ، وقد روت كتب السّيرة أنّ بني قريظة بَعَثوا إلى رسول الله ﷺ أن ابعثْ إلينا أبا لُبَابَة بن عبد الـمُنذر أخا بني عمرو بن عَوْفٍ وكانوا حلفاء الأوس، لِنَستشيره في أمرنا، فأرسله رسولُ الله ﷺ إليهم، فلمّا رأوه قام إليه الرّجال وجَهَشَ إليه النّساء والصّبيان يبكون في وجهه فَرَقّ لهم وقالوا له: يا أبا لُبَابة، أترى أن نَنْزِل على حُكْم محمّدٍ؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حَلْقِه إنّه الذّبحُ. قال أبو لُبابة: فوالله ما زَالَتْ قدماي مِن مكانهما حتّى عَرَفْت أنّي قد خُنْت الله ورسوله ﷺ، ثمّ انطَلق أبو لُبابة على وجهه ولم يأت رسولَ الله ﷺ حتّى ارتبط في الـمَسجد إلى عمودٍ من عُمده وقال: لا أبرح مكاني هذا حتّى يتوب اللهُ عليّ ممّا صنَعْت، فنزل فيه هذه الآيات.

﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾: (عسى) للرّجاء، أمّا (ليت) فتأتي للأمر الّذي لن يتحقّق، كقول الشّاعر: ليت الشّباب يعود يوماً -فهو لن يعود- أمّا قولهم: عسى الله أن يكرمك، (عسى) فيها رجاءٌ يمكن أن يتحقّق، وعندما يقول الله سبحانه وتعالى :﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ إذاً تحقّق الرّجاء؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى  غفورٌ رحيمٌ، يغفر ويرحم.

الآية رقم (93) - إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ

﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ ﴾: طريق الإثم واللّوم والتّعنيف والتّوبيخ إنّما يتّجه إلى هؤلاء الأغنياء الّذين استأذنوا في القعود في المدينة عن الذّهاب إلى غزوة تبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والغنى إن أُطلق ينصرف إلى غنى المال.

﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ﴾: ومن يرضى أن يكون مع الخوالف فهو يتّصف بدناءة النّفس وانحطاط الهمّة، وقد رضي المنافقون بذلك.

﴿ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾: ويأتي الطّبع؛ أي الختم على قلوبهم من الله سبحانه وتعالى  حكماً نهائيّاً بسبب نفاقهم ونكثهم العهود وخيانتهم لله سبحانه وتعالى ولرسوله الكريم.

﴿فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾: لا يفهمون، ولا يعلمون شيئاً.

الآية رقم (94) - يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

قابل النّبيّ صلى الله عليه وسلم إساءة هؤلاء الّذين آذوه من المشركين والمنافقين بخُلُق العفو والإحسان، «اذهبوا فأنتم الطّلقاء»([1])، وعندما دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكّة وأعطى الأمان للنّاس بقي عكرمة بن أبي جهل حتّى اللّحظات الأخيرة يُناوش ويُقاتل ويَصدّ عن سبيل الله سبحانه وتعالى ، ثمّ فرّ باتّجاه اليمن عندما انحسمت الأمور، فجاءت زوجته إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ورجته أن يؤمّنه لكي يعود، فلم يقابل النّبيّ صلى الله عليه وسلم الإساءة بالحقد، وسمح له بالعودة، وعندما عاد عكرمة قال : لأصحابه: «يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً، فلا تسبّوا أباه، فإنّ سبّ الميّت يؤذي الحيّ ولا يبلغ الميّت»([2])، ما هذه العظمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! هذه هي الرّسالات السّماويّة، وهكذا هم الأنبياء u، فقد شتم رجلٌ عُمر بن ذَرٍّ، فلقيه عُمَرُ، فقال: “يا هذا، لا تُفرِط في شَتمِنا، وأَبقِ لِلصُّلح موضعاً، فإنّا لا نُكافئ مَن عصى الله فينا بأكثر مِن أن نُطيع الله فيه”([3])، ويقول الإمام الشّافعيّ:

الـمَرء يُعرَفُ في الأنامِ بِفِعلِهِ
اصبِر على حُلوِ الزَّمانِ ومُرِّهِ
لَا تسْتَغِبْ فَتُستَغابُ وربَّما
وتَجنّبِ الفَحشَاءَ لا تَنْطِقْ بها
وإذا الصَّديقُ أسى عَلَيكَ بِجَهلِهِ
كَم عالِمٍ مُتَفَضِّلٍ قد سبَّهُ
البَحرُ تَعلُو فَوقَهُ جِيَفُ الفَلا
وأَعجبُ لِعصفُورٍ يُزاحِمُ باشِقاً
إيّاكَ تجني سُكّراً مِن حَنظَلٍ
في الجَوِّ مكتُوبٌ على صُحُفِ الهوى                     .
وَخَصائِلُ الـمَرءِ الكَرِيمِ كَأصلِهِ
واعلمْ بِأَنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ
مَنْ قَالَ شَيئاً قِيلَ فِيهِ بِمِثْلِهِ
ما دُمتَ في جَدِّ الكَلامِ وهَزلِهِ
فاصْفَح لأجلِ الودِّ لَيسَ لِأَجلِهِ
من لا يساويْ غِرزةً في نَعلِهِ
والدُّرُّ مطمُورٌ بِأسفَلِ رَملِهِ
إِلّا لِطيشَتِهِ وخِفّةِ عَقلِهِ
فالشَّيءُ يرجِعُ بِالمذاق لأَصلِهِ
من يَعمَلِ المعرُوفَ يُجزَ بِمِثلِهِ
.

ونجد الآيات الكريمة كلّها تكرّس هذه المعاني العظيمة فيما يتعلّق بأخلاق رسول الله : وأخلاق المؤمنين معه.

﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ﴾: يعتذر؛ أي يُبدي عذراً يُخرجه من اللّوم أو التّوبيخ.

﴿إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾: إذا رجعتم من المعركة.

هذا ردٌّ حاسمٌ، فحين يعتذر إليك إنسانٌ فقد تستمع لعُذره ولكنّك لا تقبله، ولكن مجرّد سماع العذر معناه أنّ هناك احتمالاً بأن يكون هذا العذر مقبولاً أو مرفوضاً، ولكن حين يكون مجرّد سماع العذر مرفوضاً فمعنى ذلك ألّا وجه للمعذرة، فانظروا إلى دقّة القرآن الكريم وعظمته.

﴿قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا ﴾: هم لم يعتذروا بعد، فقد رفض مجرّد إبدائهم العذر، ثمّ فاجأهم بالحُكم بقوله سبحانه وتعالى :

﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ ﴾: أي لن نصدّقكم، مادّة (آمن) تتضمّن عدّة معانٍ منها: آمن؛ أي اعتقد وصدّق، قال سبحانه وتعالى : ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ﴾  ]يونس: من الآية 83[، وهنا﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ﴾؛ أي لن نصدّقكم، فقد جاء المنافقون يعتذرون بأعذارٍ كاذبةٍ، ورفض رسول الله  صلى الله عليه وسلم مجرّد سماعهم.

﴿ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ﴾: قد أخبرنا الله سبحانه وتعالى  من أخباركم, وأَعْلَمنا من أمركم ما قد علمنا به كذبَكم.

وقد شاء الله سبحانه وتعالى  ألّا يُغلق أمامهم باب المرجِع إليه ففتح لهم باب التّوبة، وكان واجباً عليهم من بعد ذلك أن يرتدعوا ويتيّقنوا أنّ ربّ محمّد صلى الله عليه وسلم عالمٌ بالسّرائر، ولا تخفى عليه النّيّات، فعليهم أن ينتهزوا ذلك؛ لأنّه سبحانه وتعالى  قال:

﴿وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾: يرى عملكم في المستقبل، وعلى أساس هذه الرّؤية يُرتّب لكم الجزاء على ما كان منكم؛ ولذلك يقول سبحانه وتعالى:

﴿ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾: وما دام سبحانه عالِم الغيب فمن بابٍ أولى أنّه عليمٌ بعالم الشّهادة، والغيب هو ما غاب عنك فلم تعرف عنه شيئاً، لكن إن غاب عنك ولم يغب عن غيرك فهو غيبٌ نسبيٌّ؛ لأنّ هناك حُجُباً منعت عنك العلم، أمّا الغيب المطلق فهو ما غاب عنك وعن غيرك، ولا يعلم الغيب المطلق إلّا الله سبحانه وتعالى .

﴿ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾: يُخبركم بما كنتم تعملون ويُجازيكم به.

([1]) سنن البيهقيّ الكبرى: كتاب السّير، باب فتح مكّة حرسها الله تعالى، الحديث رقم (18055).

([2]) المستدرك على الصّحيحين: ج 3، ص 269، الحديث رقم (5055).

([3]) سير أعلام النّبلاء: ج 6، ص 389.

الآية رقم (86) - وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ

وهكذا شاء الحقّ سبحانه وتعالى أن يفضح المنافقين هؤلاء الّذين استمرقوا الاستمتاع والبقاء في المدينة، وأبطنت قلوبهم الكفر والكيد للمسلمين:

(وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ): هو خطابٌ واضحٌ للمنافقين يكشف بطلان إيمانهم.

(أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ): أي اجعلوا قلوبكم صادقةً مع ألسنتكم.

(وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ): أي انفروا للجهاد مع رسوله، وهو التّعبير العمليّ عن الإيمان.

(اسْتَأْذَنَكَ): استأذن على وزن استفعل، وتأتي للطّلب، كأن تقول: استفهم؛ أي طلب أن يفهم، استعلم؛ أي طلب أن يعلم، فقول الحق سبحانه وتعالى: (اسْتَأْذَنَكَ)؛ أي طلبوا الإذن؛ ولأنّهم يتظاهرون بالإيمان ويبطنون الكفر تجدهم ساعة النّداء للجهاد لا يقفون مع المؤمنين كما جرى في غزوة تبوك.

(أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ): أي أصحاب القوّة والقدرة، أن تطول الشّيء؛ أي أنّك تحاول أن تصل إليه، فهم الّذين يملكون مقوّمات الجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من سلامة البدن من الأمراض ووجود القوّة، ولا يعانون من ضعف الشّيخوخة.

(وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ): والقاعد مقابله القائم، والقيام هو مقدّمةٌ للحركة.

الآية رقم (87) - رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ

(رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ): أرادوا أن يكونوا مع الخوالف، والخوالف جمع خالفة، فقد ارتضوا لأنفسهم أن يطبّق عليهم الحكم الّذي يطبّق على النّساء، أن يبقوا مع الخوالف في المدينة، لذلك كانوا لا يفقهون؛ لأنّهم ارتضوا لأنفسهم وصفاً لا يليق بالرّجال، وفرحوا بهذا الوصف من غير أن ينتبهوا لما فيه من إهانةٍ لهم.

(وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ): المنافق له مَلَكةٌ قوليّةٌ ومَلَكةٌ قلبيّةٌ، فقوله إعلانٌ بالإيمان، أمّا قلبه فممتلئٌ بالكفر، وفي هذه الحالة تتضارب ملكاته فيختم الله سبحانه وتعالى على قلبه.

(فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ): الفقه هو الفهم؛ أي لا يفهمون ما حُرموا منه من ثوابٍ ونعيمٍ بعدم خروجهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

الآية رقم (88) - لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

تخلّف بعض أصحاب القوّة والجاه والمال عن الجهاد مع رسول الله يجب أن لا يُشيعَ الفزع أو الحزن في نفوس المؤمنين؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى معهم؛ ولأنّ لهم الخيرات؛ أي لهم كلّ ما يُطلق عليه خير.

(وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ): المفلح هو الفائز النّاجي المستفيد من ثمرة عمله، وأصل الكلمة من فَلَح الأرض؛ أي شقّ؛ لأنّ الزّراعة تقتضي أن تحرث الأرض أوّلاً، وهذه مهمّة الإنسان ليخرج الزّرع، وهذا جزاء المؤمنين في الدّنيا، وهناك جزاءٌ آخر في الآخرة.