الآية رقم (30) - كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ

﴿ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ﴾: لقد أرسلناك يا محمّد في أمّةٍ قد خلت من قبلها أممٌ كما حدث بالأمم السّابقة، فلست بِدعاً من الرّسل، وهكذا هي سنّة الله سبحانه وتعالى في خلقه، فهناك أممٌ كثيرة أرسل الله عز وجل لهم الأنبياء والمرسلين من أجل أن يقدّموا لهم النّصح والرّشاد.

فهذه الرّسالة الّتي أرسلها الله سبحانه وتعالى هي القرآن الكريم والنّبيّ ,؛ لأنّ القرآن الكريم أُنزل على النّبيّ ,، فلا فصل على الإطلاق ما بين القرآن الكريم وبين هداية النّبيّ العدنان ,، وهناك مَن يحاول إلغاء حديث رسول الله ,، والله سبحانه وتعالى بيّن في مُحكم التّنزيل: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ ]الحشر: من الآية 7[، وقال جل جلاله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ ]الأنفال[، فالإعراض عن رسول الله , هو إعراضٌ عن القرآن الكريم، والقرآن الكريم نزل على النّبيّ ,، وبيان القرآن من خلال الأسوة السّلوكيّة برسول الله ,، قال سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾]الأحزاب[.

﴿لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾: تتلو؛ أي شيءٌ يتلو شيئاً؛ أي تتابع، فنحن مأمورون بتلاوة القرآن الكريم امتثالاً لأمر ربّنا سبحانه وتعالى ولهدي نبيّنا ,.

﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾: لم يقل: بالقادر، بالمنتقم، بالجبّار، بل قال: بالرّحمن، جاء بهذا الاسم من أسمائه الحُسنى، فهم يجحدون بالعطاء والرّحمة، قال بعضهم في سبب نزول هذه الآية: إنّ النّبيّ , عندما قال لكفّار قريش: «اسجدوا للرّحمن»، قالوا: وما الرّحمن؟ فنزلت هذه الآية.

﴿قُلْ﴾: من أمانة التّبليغ عند الرّسول , عندما يقول له المولى سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ﴾ تأتي بالقرآن الكريم كما هي: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد﴾]الإخلاص[، ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾]الزّمر: من الآية 53[.

﴿هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾: الدّخول بالإسلام هو أن تشهد أنّه لا إله إلّا هو.

﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾: التّوكّل على الله عز وجل جزءٌ لا يتجزّأ من الإيمان به سبحانه وتعالى؛ لأنّه هو المتصرّف بشؤونك، مثلاً -ولله المثل الأعلى- أنت وكّلت محامياً بقضيّةٍ فهو سيتولّى الدّفاع عنك، ويتولّى كلّ شؤون هذه القضيّة بعد أن تقوم بإجراءات، كأن توكّله عند كاتب العدل ليصبح وكيلك، وأنت تتوكّل على الله سبحانه وتعالى في هذه الحياة، والتّوكّل عليه عز وجل يعني أن تأخذ بأسبابه، فلا يعتقدنّ أحدٌ بأنّه يتوكّل على الله عز وجل من دون الأخذ بأسبابه جل جلاله، وهذا ما فعله نبيّنا , في كلّ شؤون حياته، ففي الهجرة كان النّبيّ , يستطيع وبكلّ سهولة أن يهاجر من مكّة إلى المدينة المنوّرة علناً وأمام النّاس جميعاً، وقد تكفّل الله سبحانه وتعالى بحمايته، فقال جل جلاله: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾]المائدة: من الآية 67[، وقال سبحانه وتعالى: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾]الطّور: من الآية 48[، فكان يستطيع أن يقف وسط مكّة ويقول: توكّلت على الله وسأهاجر، وما تستطيعون فعله فافعلوه، لكنّه لم يفعل ذلك؛ لأنّه يريد أن يعلّمنا معنى كلمة: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾بأنّه لا يمكن أن نتوكّل عليه جل جلاله إلّا بعد أن نأخذ بأسباب الله سبحانه وتعالى في كونه، فإن لم نفعل فإنّنا نسيء الأدب مع الله عز وجل، فنجد أنّ النّبيّ , أخذ بكلّ الأسباب فوضع مخطّطاً مع أبي بكرٍ t، واستعمل عامر بن فهيرة للطّريق ومن أجل التّعمية على المشركين، وتمّ الاتّفاق مع السّيّدة أسماء بنت أبي بكر 7 من أجل تأمين الطّعام، وتمّ الاتّفاق مع سيّدنا الإمام عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه ليبيت في فِراش النّبيّ , حتّى يوهِم المشركين بوجوده، وبعد أخذه بالأسباب اختبأ , بالغار مع أبي بكر، فالتّوكّل هو عمل القلب وليس عمل الجوارح، تقوم الجوارح بالعمل والقلب مطمئنّ، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾]الرّعد[، أوّل تفسير لها هو التّوكّل على الله عز وجل، والتّوكّل يكون بعد أخذ الأسباب، فعندما أخذ النّبيّ , بالأسباب كلّها، وحاصره المشركون في الغار، عندها قال الصّدّيق: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا، فقال ,: «ما ظنّك باثنين الله ثالثهما»([1]).

﴿وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾: متاب: مصدر تبتُ إليه، فهو الّذي نرجع إليه بالتّوبة

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب التّفسير، سورة (براءة)، الحديث رقم (4386).

الآية رقم (21) - وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ

﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾: أوّل ما أمر الله سبحانه وتعالى به أن يوصل هو صِلة الرّحم، يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسيّ: «أنا اللَّهُ، وأنا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا مِن اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ»([1])، لذلك صِلة الرّحم  لمصلحة النّاس وخيرهم، فصِلة الرّحم دوائر دائماً لكلّ إنسانٍ، وإذا كانت هناك صِلةٌ بين هذه الأرحام فكلّ دائرةٍ لها دائرةٌ أوسع، حتّى تصل إلى المجتمع برمّته، ومن الخيريّة دائماً أن يصِل الإنسان رحمه، وقبل كلّ شيءٍ برّ الوالدين، فقد قرن الله سبحانه وتعالى برّ الوالدين بتوحيده، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ ]الإسراء: من الآية 23[، وقال جل جلاله: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ ]النّساء: من الآية 36[، البرّ بالوالدين والإخوة والأخوات والعموم والأخوال وأبناء العمّ وأبناء الخال… وهكذا تتّصل الدّوائر حتّى تصل إلى الدّائرة الكاملة، هذا المعنى العظيم لصلة الأرحام، وهذه لا توجد في المجتمعات المتقطّعة الأوصال، المجتمعات الغربيّة الّتي تخلّت عن الأسس الأخلاقيّة، فأوّل الأخلاق هو صِلة الأرحام ببرّ الوالدين والعلاقة مع الإخوة والأسرة والعائلة والجار، قال ,: «مازال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه»([2])، وقال ,: «ما آمن بي من بات شبعانَ وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به»([3])، هذه خيريّة عظيمة.

﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾: الإنسان ما بين الرّغبة والرّهبة، لا بدّ أن يخشى من سوء عمله، لا بدّ أن تكون هذه الخشية من صفات الجلال، فهل يظنّ الإنسان أن يُترَك سدى؟ لا يمكن، قال سبحانه وتعالى: ﴿ أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾]القيامة[.

﴿وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾: لا بدّ من أن ينظر الإنسان إلى ميزان الحساب والعقاب والثّواب والجزاء، ولا يمكن أن تعيش المجتمعات من غير ضوابط، فلا بدّ من أن يكون هناك حسابٌ للمسيء، يقول الإمام عليّ كرّم الله وجهه: “لا يكونّن المحسن والمسيء عندك سواء، فيطمع المسيء في إساءته، ويزهد الـمُحسن في إحسانه”.

([1]) سنن التّرمذيّ: أبواب البرّ والصّلة، باب ما جاء في قطيعة الرّحم، الحديث رقم (1907).

([2]) صحيح البخاريّ: كتاب الأدب، باب الوصاءة بالجار، الحديث رقم (5669).

([3]) المعجم الكبير للطّبرانيّ: باب الألف، أنس بن مالك الأنصاريّ، الحديث رقم (751).

الآية رقم (11) - لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾: ﴿ لَهُ ﴾ تفيد النّفعيّة، فعندما يُقال: لك كذا، فهي عكس أن يُقال: عليك كذا، وعندما يقول سبحانه وتعالى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ ﴾، فكأنّ المعقّبات لمصلحة الإنسان، والمعقّبات: جمع مؤنّث، المفرد معقِّبة، فللّه سبحانه وتعالى ملائكةٌ يتناوبون على حراسة الإنسان وحفظه ليلاً ونهاراً من الأشياء الّتي لا يمكن الاحتراز منها، فمثلاً هناك إحصاءات تثبت أنّ الثّعابين لا تلدغ النّاس أثناء نومهم، بل في أثناء صحواتهم، فهناك ما يحفظهم، أمّا في اليقظة فقد يتصرّف الإنسان بطيشٍ وغفلةٍ فتلدغه الأفعى، ومن الأقوال الشّعبيّة: (العين عليها حارس)، وهناك أحداثٌ كثيرةٌ تبدو لنا غريبةً، كأن يسقط طفلٌ من نافذةٍ من الدّور العلويّ فلا يصاب بسوءٍ؛ لأنّ الله تبارك وتعالى شاء أن تحفظه الملائكة؛ أي المعقّبات، من السّوء، فمهمّة الحفظة أن يحفظوا الإنسان من كلّ سوءٍ، فالله سبحانه وتعالى أعدّ لهذا الإنسان الخليفة لله على الأرض ما يصونه، ولايدعه لمقوّمات نفسه ليُدافع عنها، فهو لا يستطيع بمفرده، هذا معنىً، وهناك معنىً آخر، وهو أنّ المعقّبات من الملائكة يتعقّبون أفعال الإنسان، ويكتبون الحسنات والسّيّئات، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾]ق[، وعندما يكتبون الحسنات، فهذه تكون ﴿ لَهُ ﴾، ولكنّ كتابة السّيّئات تكون على الإنسان وليست له، نقول هنا: إنّ الإنسان إذا ما عرف أنّ السّيّئة ستُحسَب عليه وتُحصى وتُكتب فسيُمسك عن السّيّئات، فالأمر في مصلحته فهي له لا عليه، ويقول النّبيّ , عن الملائكة: «يتعاقبون فيكم ملائكةٌ باللّيل وملائكةٌ بالنّهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثمّ يعرج الّذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلّون، وأتيناهم وهم يصلّون»([1])، وكأنّ الملائكة تتعاقب على الإنسان باللّيل والنّهار.

﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾: من أمر الله سبحانه وتعالى؛ أي بأمر الله عز وجل، قد يقول الإنسان السّطحيّ: كيف تحفظ الملائكةُ الإنسانَ من الأمر المراد به من الله؟ نقول: إنّ الله عز وجل لم يُنزل الملائكة ليُعارضوا القَدَر، هذا الحفظ لا يكون من ذات الإنسان لنفسه أو من الملائكة ضدّ قَدَر الله سبحانه وتعالى، والمعنى هنا ينصرف إلى أنّ الملائكة إنّما يحفظون الإنسان بأمر الله سبحانه وتعالى، لذلك نجد أنّ القرآن الكريم يقول: ﴿ مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا ﴾]نوح: من الآية 25[؛ أي بسبب خطيئاتهم أُغرقوا، فعلينا ألّا نظنّ أنّ الملائكة يحفظون الإنسان من قدر الله سبحانه وتعالى؛ لأنّنا نعلم أنّ الحقّ تبارك وتعالى إذا أراد أمراً فلا رادّ لأمره.

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾: الله سبحانه وتعالى خلق الكون الواسع بكلّ أجناسه جماداً ونباتاً وحيواناً وأفلاكاً وأملاكاً، وجعل ذلك كلّه مسخّراً للإنسان، ثمّ يحفظ الحقّ سبحانه وتعالى الإنسان ويصونه بقيموميّته، وقد يسأل بعض النّاس: فلماذا تحدث الابتلاءات لبعض النّاس مع أنّه سبحانه وتعالى أخبر أنّه يحفظهم؟ نقول: إنّ تلك الابتلاءات إنّما تجري إذا ما غيّر البشر من منهج الله تعالى؛ لأنّ الصّيانة لمن قام بالمنهج، ولنقرأ قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فأذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظالِمُون ﴾ ]النّحل[، فبما أنّ الإنسان التزم بالمنهج وبأوامر الله عز وجل، وما دام على صراطٍ مستقيمٍ، فإنّ له الحفظ والإمداد من قِبَل الله سبحانه وتعالى، لكنّ الإنسان لايأخذ بأوامر الله سبحانه وتعالى ويغيّر ويبدّل، لذلك التّغيير الّذي يجريه الله سبحانه وتعالى على البشر لا يتمّ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، والله سبحانه وتعالى لم يمنع الأرض أن تُخرج لنا النّبات، ولم يمنع السّماء أن تمطر علينا، ولكنّه سبحانه وتعالى لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا من أنفسهم وأعمالهم، يقول بعض الفلاسفة: إنّ الله تبارك وتعالى لايتغيّر من أجلكم، ولكن يجب أن تتغيّروا أنتم من أجل ربّكم، يقول ربّنا عز وجل: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ﴾ ]طه: من الآية 123[، وهو القائل سبحانه وتعالى: ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾]طه[، ونجد الآن العالم المعاصر والمجتمعات المترفة تصدِّر لنا أدوات الحضارة، لكنّهم يعيشون في الضّنك النّفسيّ البالغ، وهذا يثبت أنّ الثّراء المادّيّ أو أدوات الحضارة لا يحقّقان للإنسان التّوازن النّفسيّ أو السّعادة؛ لأنّ الإنسان يحتاج إلى الاستقامة وتطبيق أوامر الله عز وجل حتّى يستطيع أن يعيش في هذه الحياة بسعادةٍ، والإنسان متغيّرٌ، والحضارة الّتي قُدّمت للنّاس من الدّول الغربيّة لا يمكن أن تأتي للنّاس بسعادةٍ؛ لأنّها لن تستطيع أن تمنع عنهم الأمراض ولا الموت، قال سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾]آل عمران: من الآية 168[.

أعمال الجوارح ناشئةٌ من النّفس، وحين نصلح أنفسنا ونصبح على استقامةٍ نتغيّر، وهذا هو مناط أيّ تغييرٍ، أن تبدأ بنفسك وتسير على منهج الاستقامة، وتخضع للمعايير الأخلاقيّة الّتي أمر بها الإسلام.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب مواقيت الصّلاة، باب فضل صلاة العصر، الحديث رقم (530).

الآية رقم (22) - وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ

﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾: الصّبر هو تحمّل متاعب تطرأ على النّفس لتخرجها من نعيمها وسعادتها، والصّبر ثلاثة أنواع: صبر الذّات على الذّات؛ أي أن تصبر على التّكاليف الّتي أمرك الله سبحانه وتعالى بها، يأمرك ألّا تفعل هذا فتصبر، ويأمرك بفعلٍ كالصّلاة فتصبر، وهناك صبرٌ على الابتلاء الّذي ليس لك فيه غريمٌ، فلا يستطيع الإنسان أن يُغيّر الأقدار، لذلك نجد أنّ الله سبحانه وتعالى عندما بيّن هذا النّوع من الصّبر، كالصّبر على مرضٍ أو فقرٍ أو شقاءٍ معيّن، قال: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ ]لقمان: من الآية 17[، فسواءٌ صبرت أم لم تصبر فالنّتيجة واحدة، لن تستطيع أن تغيّر القدر، وهناك صبرٌ على ابتلاء لك فيه غريمٌ، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾]الزّمر: من الآية 10[، ويقول جل جلاله: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ ]البقرة[، وقد قال النّبيّ ,: «الصَّبرُ نِصفُ الإِيمَانِ»([1])، فالصّبر هو أساسٌ، لذلك نجد أنّ الله سبحانه وتعالى قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ]البقرة[، لم يقل: (إنّ الله مع المصلّين)، ولم يقل: (استعينوا بالصّلاة والصّبر)، مع أنّ الصّلاة هي ركنٌ من أركان الإسلام، فالصّبر شيءٌ يتعلّق بتحمّل النّفس، وهو عنوان العلاقة مع الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الله جل جلاله جعل هذه الحياة حياة ابتلاءٍ للإنسان، وهي حياة أغيار، وسيتعرّض الإنسان شاء أم أبى إلى كثيرٍ من الأكدار، فقد خُلق في كبَدٍ، وأمام الأقدار والأغيار لا بدّ من الصّبر، فهو عنوان الإيمان والتّحمّل، قد تقول لإنسانٍ: صلّ ألف ركعة فيصلّي، لكن اصبر على الأذى، أو أحسِن لمن أساء إليك.. فيجد في ذلك مشقّة، لذلك أمر الله سبحانه وتعالى بالاستعانة بالصّبر والصّلاة بسبب طبيعة الحياة الإنسانيّة وطبيعة هذه الحياة المليئة بالأكدار، فإذاً أوّلاً وقبل كلّ شيءٍ عرفنا موقع الصّبر بالنّسبة إلى المؤمن، لذلك المؤمن بين حالين، إن أصابه ضرّاء صبر فكان خيراً له، وإن أصابه نعماء شكر وكان خيراً له، فالإنسان اليوم في صحّة وغداً في مرضٍ، اليوم غنيٌّ وغداً فقيرٌ، اليوم شابٌّ وغداً هرِم، اليوم في نعيمٍ وغداً في ضنكٍ.. هكذا هي طبيعة الحياة، ولا يستطيع أحدٌ أن يقول: بأنّني مستثنى بإلّا، لا يوجد مستثنى بإلّا في هذه الحياة مهما بلغ الإنسان من سلطانٍ أو جاهٍ أو غنىً..

﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾: يمكن أن يصبر الإنسان لغير وجه ربّه، كأن يصبر ليُقال: إنّه فوق الأحداث، فالصّبر له دوافع، لكن الصّبر المطلوب في الآية أن يكون ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، وهذا معناه أن ترضى بالقضاء، وتصبر على البلاء، وأنت لا ترى إلّا الخير فيما نزل بك، فإن كان مرضٌ فتؤجر، وإن كان كذا فتُرفع درجاتك.. حتّى الشّوكة الّتي يُشاكها الإنسان تُكتب له حسنة، من هذا المنطلق يكون عندها الصّبر ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى وليس ابتغاء أمرٍ آخر، وإذا كان هناك إنسانٌ قد ظلمك وآذاك فهنا الصّبر يكون أشدّ وأصعب، لذلك قال تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾  ]فصّلت[، وقال الشّاعر:

يا من تأتيك العداوة     مِنَ الّذي ومِـنَ الّتي

ادفــــع فديتــكَ بالّتـي     حتّى ترى: إذا الّذي

هذه هي القيم الّتي جاء بها الإسلام، الدّفع بالّتي هي أحسن، والصّبر على الابتلاء، والصّبر على الآخرين.

﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾: الصّلاة هي صِلةٌ مع الله سبحانه وتعالى، وهي الرّكن الأساس من أركان الإسلام؛ لأنّ أركان الإسلام الخمسة باستثناء الشّهادتين تسقط في حالات معيّنة، كالصّوم والحجّ والزّكاة، أمّا الصّلاة فلا تسقط في حالٍ من الأحوال، وهي اتّصالٌ حقيقيٌّ بين العبد وبين الرّبّ:

حسبُ نفسي عزّاً بأنّي عبدُ هو في قدسه الأعزّ ولكن                     . يحتفي بي بلا مواعيد ربُّ
أنا ألقاه متى وأين أحبّ
.

فأنت في أيّ لحظةٍ من اللّحظات تستطيع أن تلاقي الله عز وجل، أن تلاقي القادر، أن تلاقي الشّافي، أن تلاقي القويّ، أن تلاقي الغنيّ، أن تلاقي الكريم، أن تلاقي العظيم، أن تلاقي مجيب الدّعوات، فهذه هي الصّلاة، لذلك كان النّبيّ , إذا حزبه أمرٌ لجأ إلى الصّلاة، وقد قال ,: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»([2])؛ لأنّها مفتاح القلوب إلى الله سبحانه وتعالى علّام الغيوب، وهي مِعراج المؤمن إلى حضرة الله سبحانه وتعالى، وهي العطاء والدّعاء، فالصّلاة هي دعاءٌ واتّصالٌ مع الله تعالى.

﴿وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾: العنوان الأساس في المجتمع هو التّضامن والتّكافل، وموضوع الإنفاق هو موضوعٌ مهمٌّ بيّنه المولى سبحانه وتعالى هنا في أمرين اثنين: ﴿سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾، فالسّرّ الصّدقة المندوبة، والعلانية هي الزّكاة، وهي حقٌّ للفقير يردّه الله سبحانه وتعالى عليه من الغنيّ، فالزّكاة جزءٌ من إيمان الغنيّ، لمصلحة الفقير، ويجب أن تكون علناً حتّى يتأسّى النّاس بفاعلها؛ لأنّها ركنٌ من أركان الإسلام، أمّا الصّدقات فتُدفَع سرّاً حتّى لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك، وهذا من باب عدم الرّياء وعدم التّعالي والمنّ على الفقراء، وقد جعل الله سبحانه وتعالى الزّكاة والإنفاق والصّدقات تكافلاً وتضامناً وتأميناً للمجتمع، فعندما تعطي المحتاج تعلم بأنّ هذا العطاء مضمون الرّدّ إذا أصابتك فاقةٌ، وهذا أكبر تأمينٍ للفقراء، وللتّكافل والتّضامن والتّراحم بين أبناء المجتمع، يقول النّبيّ ,: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى»([3]).

﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾: الدّرء: هو الدّفع بشدّة، فإذا عمل سيّئةً يدفعها بحسنة مباشرةً، وهذا عطاءٌ عظيمٌ وخيرٌ كبيرٌ للمجتمع وللنّاس جميعاً، فإتباع السّيّئة الحسنة تمحو السّيّئة وتعطي الخير للمجتمع بشكلٍ عامٍّ.

﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾: عقبى من العقِب؛ أي ما يعقُب الشّيء، فالعاقبة والنّتيجة هي دار الآخرة، وهي الجنّة.

([1]) شعب الإيمان: باب في الصّبر على المصائب، الحديث رقم (9265).

([2]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مسند المكثرين من الصّحابة، مسند أنس بن مالك t، الحديث رقم (14037).

([3]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، الحديث رقم (2586).

الآية رقم (12) - هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ

﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾: الإنسان يستقبل البرق بالخوف من الصّواعق، وبالطّمع بالمطر والخير، فالخوف والطّمع من ظاهرةٍ واحدةٍ، أو أن يكون الخوف لقومٍ والرّجاء لقومٍ آخرين.

﴿ وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ﴾: السّحاب هو الغيم المتراكم، ويكون ثقيلاً حين يكون ممتلئاً، وهو عكس السّحاب الخفيف الّذي يبدو كقطع القطن.

الآية رقم (13) - وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ

﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ﴾: سُمّيت السّورة بسورة الرّعد لذكر الرّعد فيها، وقد جاء المولى سبحانه وتعالى بذكر البرق أوّلاً وهو ضوئيّ، ثمّ الرّعد وهو صوتيّ، ونحن نعلم أنّ الضّوء أسرع من الصّوت، لذلك يكون البرق أوّلاً، وبعد ذلك الرّعد، والمولى جلّ وعلا يقول: الرّعد مسبّحٌ لربّه، فعليك ألّا تنزعج منه، فهو نغمةٌ تمتزج ببقيّة أنغام الكون القائمة على التّسبيح، والتّسبيح ليس فقط للعاقل القادر على الكلام؛ لأنّ الّذي خلق الكائنات علّمها كيف تتفاهم، مثلما علّم الإنسان كيف يتفاهم مع بني جنسه، فعندما نقرأ في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾]النّمل[، نجد أنّ سليمان عليه السلام سمعها؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى علّمه تلك اللّغات، وعلّمه منطق الطّير فخاطب الهدهد بلغته، وعندما يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ﴾، فنحن نعلم أنّ لكلّ شيءٍ لغةً يتفاهم بها، والله سبحانه وتعالى أسمع النّبيّ , تسبيح الحصى بين يديه، قال سبحانه وتعالى: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾]الإسراء: من الآية 44[، ولغة التّسبيح هي لغة الأكوان، وهذا التّسبيح ليس تسبيح دلالةٍ، وإنّما هو تسبيحٌ حقيقيٌّ، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾]الإسراء: من الآية 44[، فالشّجر والحجر والسّماء والأرض والغيم والرّعد والبرق الكلّ يُسبِّح.

﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ﴾؛ أي ينزّه الرّعد ويُمجّد اسم الحقّ تبارك وتعالى مصحوباً بالحمد، وحين ننزّه ذات الله سبحانه وتعالى وأفعاله وصفاته عز وجل لا بدّ أن يكون ذلك مصحوباً بالحمد له جل جلاله؛ لأنّه منزّهٌ عن تلك الأغيار.

﴿ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ﴾: كيف تخاف الملائكة من الله عز وجل، وهم الّذين قال فيهم: ﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ ]التّحريم: من الآية 6[؟ نقول: إنّ الملائكة يخافون الله سبحانه وتعالى خيفة المهابة والجلال، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ.

﴿ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ﴾: الصّواعق هي عبارةٌ عن شرارةٍ كهربائيّةٍ، قد تُحدِث حريقاً، فإذا نزلت على مكانٍ تحرقه.

﴿ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴾: والجدال في الله عز وجل أنواعٌ متعدّدةٌ، جدالٌ في ذاته أو في صفاته أو جدالٌ في الحسنة والسّيّئة، وقد جادلوا أيضاً في إنزال آيةٍ مادّيّةٍ على رسول الله ,؛ لأنّهم لم يكتفوا بالقرآن الكريم مع أنّه معجزٌ، وقالوا: إنّ الرّعد ليس له عقلٌ ليسبّح، والملائكة لا تكليف لها فكيف تسبّح؟ ولكنّ الحقّ تعالى أخبر أنّه قادرٌ على أن يرسل الصّواعق ويُصيب بها من يشاء، فيأتي بالخير لمن يشاء ويصيب بالضّرّ من يشاء، والجدل في حدّ ذاته قد يكون استخدامه جيّداً، وقد يُساء استخدامه، والله سبحانه وتعالى يطالبنا أن نجادل بالّتي هي أحسن، قال تبارك وتعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾]العنكبوت: من الآية 46[، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾]المجادلة: من الآية 1[، وهذا الجدل الـمُراد منه الوصول إلى الحقّ.

﴿ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴾: المِحال هو الكيد والتّدبير الخفيّ، وهذا ما يلجأ إليه البشر في بعض الأحيان عندما يعجزون عن مواجهة الخصوم فيبيّتون بخفاءٍ، لكنّ الله سبحانه وتعالى حين يكيد فلا يقدر أحدٌ أن يردّ كيده، فالله سبحانه وتعالى لا غالب له، وقد أرادوا أن يبيّتوا لرسوله , وأرادوا قتله، وترصّدوا فكان الله عز وجل لهم بالمرصاد.

الآية رقم (14) - لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ

﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ﴾: دعانا سبحانه وتعالى إلى أن نؤمن بإلهٍ واحدٍ، وهي دعوة حقٍّ، والّذين من دونه يدعون إلى الإشراك وإلى إلهٍ غير حقٍّ كالأصنام والتّماثيل، والضّمير هنا قد يعود إلى الله سبحانه وتعالى، فكأنّ الله عز وجل قد دعا خلقه إلى كلمة الحقّ وهي: لا إله إلّا الله، وهو سبحانه وتعالى قد شهد بأنّه لا إله إلّا هو وشهدت الملائكة شهادة المشهد، وشهد بها أولو العلم شهادة الاستدلال، تلك هي دعوة الحقّ.

﴿ لَهُ ﴾: ممكن أن تكون للإنسان الّذي يدعو إلى الحقّ سبحانه وتعالى، وعندما يدعو الإنسان إلى الحقّ فهذا يدلّ على أنّ هذا الأمر لمصلحته.

هنا أتوقّف قليلاً عند قوله سبحانه وتعالى: ﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ﴾ عندما نزل القرآن الكريم على قلب النّبيّ , منذ ذلك الوقت يقول: ﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ﴾، وهم يجادلون ويُنكرون منذ ألفٍ وأربع مئةٍ وأكثر من أربعين عاماً، ما زال الكيد لهذا الدّين، وفي كلّ مرحلةٍ أو فترةٍ زمنيّةٍ يتمّ المكر للدّين الإسلاميّ، وإلباس الأمر على غير ما جاء به الدّين الإسلاميّ، فهو دعوة الحقّ، ولنقارن بين دعوة الحقّ وبين دعوة الباطل، الصّورة الأولى صورة تمثّل ما جاء به الإسلام دعوة الحقّ الّتي هي دعوة النّبيّ ,، والصّورة الثّانية تمثّل الزّمن الّذي نحن فيه، الّذين يتغنّون ويتباهون ويتشدّقون بحقوق وحريّة وكرامة الإنسان، بالدّيمقراطيّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة وفي الغرب، ويتّهمون الإسلام بالتّخلّف والقسوة والعنف والإرهاب وإلغاء الآخر.. كأنّه هو سبب كلّ بلاءٍ يتمّ على البشريّة جمعاء، والقرآن الكريم يصفه بأنّه دعوة الحقّ، فما هي دعوة الحقّ؟ لننظر إلى دعوة الحقّ من خلال ممارسةٍ معيّنةٍ، بعد أن هُجّر النّبيّ , مع أصحابه من مكّة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة وبقي ما يُقارب السّنوات العشر بعيداً عن بيت الله الحرام، فخرج النّبيّ , طامحاً أن يؤدّي العمرة مسالماً مع الآلاف من صحابته، متوجّهاً إلى مكّة المكرّمة، وكان من القوّة والقدرة ما يمكّنه من اقتحام مكّة، وعندما وصل إلى الحديبية.. -وهذه القصّة معروفة، لكن نريد الشّاهد منها- علم المشركون في مكّة بقدومه فأرسلوا وفداً لمفاوضته ومنعه من دخول مكّة المكرّمة، هو جاء للطّواف والعمرة، وقد أحرم , هو والصّحابة الكِرام ولبسوا ثياب الإحرام، وبعد كلّ هذا التّعب والعناء جاء المشركون وفاوضوا النّبيّ , أن يعود، وديننا هو دين اللّطف وليس دين العنف، والنّبيّ , لو أراد أن يدخل لدخل بالقوّة، لكنّه لا يريد أن تسيل الدّماء، فوقّع معهم صلح الحديبية على أن يعودوا في العام المقبل، لم يحتمل الصّحابة هذا الموضوع وكادوا أن يفقدوا أعصابهم، السّيّدة أمّ سلَمَة 7 أشارت على سيّد الخلق أن يحلق هو ويفكّ إحرامه ليقتدي به الصّحابة فأخذ بمشورتها، وعاد النّبيّ , في ذلك الوقت إلى مكّة المكرّمة، بعدها بعامين تقريباً نقض المشركون صلح الحديبية، النّبيّ , يعلّمنا احترام الكلمة والاتّفاقيّات وهذه صورة عن دعوة الحقّ، عندما نقضوا الاتّفاقيّة تحلّل النّبيّ , من الاتّفاقيّة وخرج على رأس آلافٍ من صحابته متوجّهاً لفتح مكّة، ودخل مسبّحاً ومكبّراً ومهلّلاً، ولم يدخل بالسّيف ولا بالعِنوة، دخل من غير قتالٍ، ولم يرق نقطة دمٍ، وعندما دخل تقدّم , من الكعبة المشرّفة وعندما وصل إلى باب الكعبة قال: (أين بلال؟)، بلال الّذي كان عبداً عند قريش، وعُذّب وأوذي، وكانت توضع الحجارة والصّخور على صدره، ويُجرّ في الصّحراء القاحلة وهو يقول: أحدٌ.. أحدٌ، هذا العبد الأسود هو الوحيد الّذي دخل مع النّبيّ , إلى داخل الكعبة، حيث صلّى النّبيّ , ركعتين ثمّ خرج ومعه بلال، فأمره أن يصعد إلى ظهر الكعبة، تقدّم بلال ليصعد، لكن كيف سيصعد إلى ظهر الكعبة؟ فتقدّم أبو بكرٍ وعمر 8 فنخّا حتّى وضع بلال العبد الحبشيّ الأسود قدمه على كتف أشراف وسادة العرب أبي بكرٍ وعمر، واعتلى على ظهر الكعبة بأمر النّبيّ ,، ونحن ننظر الآن في عام ألفين وعشرين إلى ذلك الأبيض العنصريّ في أمريكا وهو يدوس بقدمه على رقبة ورأس الرّجل الأسود حتّى الموت، عن أبي نَضْرَةٍ قال: حدّثني مَن سمع خطبة النّبيّ , في وَسَطِ أيّام التّشريق فقال: «يا أيّها النّاس، ألا إنّ ربّكم واحدٌ، وإنّ أباكم واحدٌ، ألا لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرٍ على أسودٍ، ولا أسودٍ على أحمرٍ إلّا بالتّقوى، أبلَّغت؟»، قالوا: بلّغ رسول الله ,([1])، هذا معنى: ﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ﴾، فلننظر إلى من يدّعي الحريّة والدّيمقراطيّة وكرامة الإنسان ويريد أن يلقّننا هذه الدّروس، ولننظر إلى فعل النّبيّ , في حقوق الإنسان وفي العطاء للإنسانيّة جميعاً.

﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ﴾: الله سبحانه وتعالى قادرٌ على إنفاذ مطلوب العباد ولا يُعجزه شيءٌ، ولكن إن دعوت من لا يستطيع ولا يملك فهي دعوةٌ لا تنفع العبد، وهم كانوا يدعون الأصنام، والأصنام لا تضرّ ولا تنفع، فقد كانت تُصنع من الحجارة أو التّمر أو غير ذلك، بطبيعة الحال الدّعاء لمثل تلك الأصنام لا يحقّق شيئاً، هنا يتبيّن لنا أنّ دعوة الحقّ هي أن تدعو القادر سبحانه وتعالى، أمّا الّذين يدعون المعبودات الباطلة فإنّها تخيّب الرّجاء وتخيّب من يدعوها في مقصده، والصّنم لا يسمع فكيف يستجيب؟

﴿ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ﴾: يضرب الله سبحانه وتعالى الـمَثَل بشيءٍ مُحَسٍّ نفعله جميعاً، فالعطشان ما إن يرى ماءً حتّى يمدّ إليه يديه ليغترف منه لكنّ يده لا تصل إلى الماء، هذا هو الحال لمن يدعو غير المولى سبحانه وتعالى، فقد سأل غير القادر على إنفاذ المطلب، وهكذا يكون الدّعاء لغير الله  سبحانه وتعالى هو دعاءٌ في ضلالٍ، ﴿ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴾وهنا أقف عند مفهوم الدّعاء، وقد قال النّبيّ ,: «الدّعاء مخّ العبادة»([2])، وقال ,: «الدّعاء هو العبادة»([3])، فإن لم يكن حظّك من الدّعاء الإجابة فحظّك منه العبادة؛ لأنّك تلجأ إلى الله تعالى، والله سبحانه وتعالى يقول لك: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ ]غافر: من الآية 60[، فهذا وعدٌ محقّقٌ، فإمّا أن يؤخّر الله جل جلاله الإجابة للوقت الّذي يعلم فيه سبحانه بأنّه الأنسب لهذا الدّاعي، أو أنّ الله عز وجل يدّخر له بدعائه هذا ما هو أفضل من الإجابة على مراده المطلوب في هذه الدّنيا، أو أنّه يدفع عنه بلاءً من خلال هذا الدّعاء، يقول النّبيّ ,: «داووا مرضاكم بالصّدقة، وحصّنوا أموالكم بالزكاة، وأعدّوا للبلاء الدّعاء»([4])؛ لأنّ الدّعاء يردّ القضاء، وهناك شرطٌ لاستجابة الدّعاء، وهو أن تستجيب لمولاك سبحانه وتعالى، ومن الاستجابة لله عز وجل أن تأكل من حلالٍ لا من حرامٍ، يقول ,: «كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ على اللَّهِ لَأَبَرَّهُ»([5])، وقد ذكر النّبيّ ,: «الرّجل يطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السّماء: يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرامٌ ومشربه حرامٌ وملبسه حرامٌ وغذّي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك؟»([6])، وبما أنّ الله سبحانه وتعالى ألهم الإنسان الدّعاء فالإجابة محقّقةٌ بإذن الله سبحانه وتعالى.

([1]) مسند الإمام أحمد: باقي مسند الأنصار، الحديث رقم (23536).

([2]) سنن التّرمذيّ: كتاب الدّعوات، باب فضل الدّعاء، الحديث رقم (3371).

([3]) سنن أبي داود: كتاب سجود القرآن، باب الدّعاء، الحديث رقم (1479).

([4]) سنن البيهقيّ الكبرى: كتاب الجنائز، باب 14، الحديث رقم (6385).

([5]) سنن التّرمذيّ: أبواب المناقب، باب مناقب البراء بن مالكٍ t، الحديث رقم (3854).

([6]) صحيح مسلم: كتاب الزّكاة، باب قبول الصّدقة من الكسب الطّيّب، الحديث رقم (1015).

الآية رقم (15) - وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ

﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾: قال النّبيّ ,: «أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد»([1])، والسّجود هو حركةٌ من حركات الصّلاة، والصّلاة هي وقفة العبد بين يدي ربّه بعد النّداء، وهي أقوالٌ وأفعالٌ تُبتدأ بالتّكبير وتُختتم بالسّلام، بفرائض وسنن ومستحبّات مخصوصة، كما أنّ هناك سجود الشّكر وسجود التّلاوة وسجود الإنسان عندما يريد أن يتقرّب من الله سبحانه وتعالى، لكنّ الله سبحانه وتعالى عندما يقول: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ علينا أن نفهم أنّ هذا ما يحدث فعلاً، قد تقول: كيف يسجد مَن في السّموات والأرض؟ هنا يجب أن ننتبه إلى أنّ السّجود هو منتهى الخضوع لله عز وجل، فالكون كلّه مسخّرٌ بأمر الله سبحانه وتعالى ولأمر الله، والكون خاضعٌ له جل جلاله، فإن استجاب الإنسان لأمر الله عز وجل بالإيمان به فهذا خيرٌ، وإن لم يستجب مثلما يفعل الكافر فيعود عليه سوء عمله، ولو استقصينا المسألة لوجدنا أنّ الّذي لا يؤمن بالله عز وجل يتمرّد بإرادته المسيطرة على جوارحه، لكنّ بقيّة أبعاضه مسخّرة، وكلّها تؤدّي عملها بتسخير الله جل جلاله لها، وتنفّذ الأوامر الصّادرة من الله عز وجل لها، فالّذي لا يؤمن بالله عز وجل يكون متمرّداً ببعضه ولكن مُسخّراً ببعضه الآخر، مثلاً: القلب، الأعضاء، المعدة.. حين يُمرِضُ اللهُ جل جلاله الإنسانَ هل يستطيع أن يقولَ: أريد أو لا أريد؟ الجواب: بالتّأكيد لا، فحين يشاء الله عز وجل أن يوقف قلبه فهو لا يقدر أن يجعل قلبه يُخالف مشيئة الله عز وجل، فخضوع غير المؤمن في أغلب الأحيان وتمرّده في بعضها الآخر هو منتهى العظمة لله جل جلاله، والله سبحانه وتعالى أراد أموراً مسخّرة منك وأموراً أخرى تركها لك.

وهنا لماذا يقول الله جل جلاله: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، ولم يقل: (ولله يسجد ما في السّموات وما في الأرض)، تُستَخدم (مَن) للعاقل، وما دام في الأمر سجودٌ فهو دليلٌ على قمّة العقل، وسبحانه قد جعل السّجود هنا دليلاً على أنّ الكائنات كافّة تعقِل، الجبل والبحر والسّماء والأرض كلّها تعقِل حقيقة الألوهيّة، وتعبد الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يعلّمنا أنّ الكائنات كلّها ترضخ لله جلّ وعلا سجوداً، فالجبال والأرض والسّماء والماء كلّها خاضعة لله سبحانه وتعالى؛ أي تسجد لله عز وجل، كما قال جل جلاله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾]فصِّلت[.

﴿وَظِلَالُهُمْ ﴾: الظّلال أيضاً خاضعةٌ لله جل جلاله؛ لأنّ صاحب هذا الظّلّ خاضعٌ لله سبحانه وتعالى، الظّلّ يتحرّك ويتبع الحركة، وإيّاك أن تظنّ أنّه خاضعٌ لك، بل هو خاضعٌ لمشيئة الله عز وجل.

﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾: الغدوّ: جمع غداة، وهو أوّل النّهار.

والآصال: المسافة الزّمنيّة بين العصر والمغرب.

([1]) صحيح مسلم: كتاب الصّلاة، باب ما يُقال في الرّكوع والسّجود، الحديث رقم (482).

الآية رقم (16) - قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ

﴿ قُلْ ﴾: هي أمرٌ للرّسول الكريم.

﴿قُلِ اللَّهُ﴾: لقائلٍ أن يسأل: لماذا جاء الحقّ سبحانه وتعالى بالإجابة: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾، ولم يتركها لتأتي منهم؟ نقول: إنّ مجيء الإجابة من الحقّ سبحانه وتعالى الّذي خلق السّموات والأرض أقوى ممّا لو جاءت الإجابة منهم.

﴿قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا﴾: يكشف الرّسول , ببلاغ الله عز وجل مدى جهلهم، وقد سبق وقالوا: بأنّ الله سبحانه وتعالى هو الّذي خلق السّموات والأرض، وهم لا يملكون جواباً آخر، فلم يجرؤ أحدٌ على أن ينسب خلق السّموات والأرض للأصنام، لكنّهم يقولون: نعبدها لتقرّبنا إلى الله زلفى، هنا يوضّح لهم الرّسول , ما أمر الحقّ سبحانه وتعالى بإيضاحه، فلقد خلق الله عز وجل السّموات والأرض، أفتتّخذون بعد ذلك من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً، بدليل أنّ الصّنم من هؤلاء لا يقدر على شيءٍ.

﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾: يُقارن القرآن الكريم دائماً الأمور عقليّاً فلا يمكن أن يستوي الأعمى بالمبصر، وهكذا يستنكر الله سبحانه وتعالى ما فعلوه بصيغة الاستفهام عنه.

﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ﴾: أي لو كان هؤلاء شركاء قد خلقوا شيئاً مثل خلق الله جل جلاله لكان لهم أن يعقدوا مقارنةً بين خلق الله تعالى وخلق هؤلاء الشّركاء، فهم لم يستطيعوا أن يخلقوا ذباباً فكيف يختارونهم شركاء لله عز وجل؟

﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾: وهكذا يتّضح أنّه سبحانه وتعالى وحده هو الخالق لكلّ شيءٍ، وتلزم عبادة المولى سبحانه وتعالى، وهو المتفرّد بالألوهيّة والرّبوبيّة جل جلاله، وهو القهّار المتكبّر الغالب على أمره لا شريك له، فكيف يكون مَن دونه مساوياً له؟

الآية رقم (17) - أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ

﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾: سبحانه ينزّل الماء من جهة العلوّ من السّماء، فالماء يتبخّر من البحار والأنهار ويتجمّع سحاباً، ثمّ يتراكم السّحاب بعضه على بعض، وعندما يمرّ بمنطقةٍ باردةٍ يتساقط المطر.

﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾: الوادي هو المنخفض بين جبلين، وحين ينزل المطر على الجبال فهو يسيل على الأودية، وكلّ وادٍ يستوعب من المياه على قدر اتّساعه، ولنا أن نلحظ أنّ حكمة الله سبحانه وتعالى شاءت ذلك كي لا يتحوّل الماء إلى طوفان، فلو زاد الماء في تلك الأودية لغرقت القرى نتيجةً لذلك، ولخربت المزروعات وتهدّمت البيوت.. وهكذا نجد أنّ من رحمة الله عز وجل أنّ الماء يسيل من السّماء مطراً على قدر اتّساع الأودية، إلّا إذا شاء المولى سبحانه وتعالى غير ذلك.

﴿فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا﴾: يريد الحقّ سبحانه وتعالى أن يضرب مثلاً على ما ينفع النّاس، لذلك جاء بجزئيّةٍ بسيطةٍ، ومن يرى منّا مشهد نزول المطر على هذا القَدر في الوديان يمكنه أن يلحظ أنّ نزول السّيل إنّما يكنس القشّ والقاذورات، فتصنع تلك الزّوائد رغوةً على سطح الماء الّذي يجري في النّهر، وعادةً ما يتراكم هذا الزّبد على الحواف ويبقى الماء صافياً رقراقاً، وهذا الـمَثَل يدركه أهل الصّحراء والجبال والوديان، وهناك مَثَلٌ آخر مناسبٌ لأهل الحَضر:

﴿ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ﴾: حين نذهب إلى موقع عمل الحدّاد أو صائغ الذّهب والفضّة نشاهده يوقد النّار ليتحوّل المعدن إلى سائلٍ مصهورٍ، ويطفو فوق هذا السّائل الزّبد؛ أي الشّوائب الّتي دخلت إلى المعدن وليست منه في الأصل، ويبقى المعدن صافياً بعد ذلك.

﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ﴾: حين يضرب المولى سبحانه وتعالى الحقّ والباطل فهو يستخلص ما يفيد النّاس، ويُذهب ما يضرّ النّاس.

﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾: جُفاءً؛ أي مطروداً، من الجَفوة، جفا فلان؛ أي أبعده عنه، لذلك ذيّل الحقّ الآية الكريمة بقوله:

﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾: وشاء الله سبحانه وتعالى أن يبيّن لنا بالأمور الحسّيّة ما يساوي الأمور المعنويّة، كي يعلم الإنسان أنّ الظّلم حين يستشري ويعلو ويطمس الحقّ فهو إلى زوالٍ، كمثل الزّبد.

الآية رقم (18) - لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ

﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى﴾: الّذين يستجيبون للرّبّ الّذي خلق من عدمٍ، وأوجد لهم مقوّمات الحياة واستبقاء النّوع بالزّواج والتّكاثر، فإذا دعاهم لشيءٍ فليعلموا أنّ ما يطلبه منهم متمّمٌ لمصلحتهم الّتي بدأها بإيجاد كلّ شيءٍ لهم من البداية، هؤلاء لهم الحُسنى، فلا تظنّ أنّك تتفضّل على ربّك، فسبحانه جعل الدّنيا مزرعةً للآخرة، ونحن في الدّنيا نوكل لقدرتنا على الأخذ بالأسباب، لكنّنا في الآخرة للمسبِّب، ويقول سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ﴾]يونس: من الآية 26[، الحُسنى هي الأمر الأحسن، وقد خلق الله سبحانه وتعالى لنا في الدّنيا الأسباب الّتي نكدح فيها، ولكنّنا في الآخرة نحيا بدون كدحٍ بكلّ ما نتمنّى، وهذا هو الحسَن، كلمة الحُسنى مؤنّثة، من أفعل التّفضيل، يُقال: حسنة وحُسنى، وفي المذكّر يُقال: حسن وأحسن.

﴿ وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ﴾: يقول الإنسان حينها: خذوا كلّ ما أملك وأعتقوني، ولكن لا يُستجاب له.

﴿أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾: لأنّ الحساب يترتّب عليه خيراً مرّةً وشرّاً مرّةً أخرى، وهنا قال المولى سبحانه وتعالى: ﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾؛ لأنّ الواحد من هؤلاء -والعياذ بالله- لن يستطيع أن يتصرّف في النّار عندما يوضع فيها، كما لا يستطيع الطّفل الوليد أن يتصرّف في مهاده.

الآية رقم (19) - أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ

﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى﴾: يبيّن المولى سبحانه وتعالى في هذه الآيات بأنّ الحقّ واضحٌ جليٌّ، وهو نورٌ ساطعٌ بالنّسبة إلى النّاس، فمن يعلم أنّ الحقّ من الله سبحانه وتعالى ليس كمن هو أعمى في ظلمات الجهل والشّرك، والمؤمن هو مَن يعلم أنّ القرآن الكريم الحامل للمنهج هو الّذي أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله الكريم، ولنلحظ هنا علمٌ وعمى؛ لأنّ الآيات الدّالّة على القُدرة من المرئيّات.

﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾: أي أصحاب العقول القادرة على التّدبّر والتّفكّر والتّمييز، ومن هنا نرى أنّ القرآن الكريم يُخاطب الإنسان من خلال عقله، وليس كما يحاول بعض النّاس أن يلبسوا الحقّ بالباطل، ويُنكروا أنّ الإسلام هو دين الحِوار والعقل والمنطق والفِكر، فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ﴾]النّساء: من الآية 82[، ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾]يس: من الآية 68[، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾]الأعراف: من الآية 176[.

لماذا أعطى الله سبحانه وتعالى الإنسانَ العقل؟ ليُفكّر ويختار بين البدائل، بين الإيمان والكفر، بين الحقّ والباطل، بين الظّلام والنّور، بين الصّحّ والخطأ، فمناط كلّ شيءٍ، حتّى التّكليف الإيمانيّ، إنّما هو العقل، وادّعاء أنّ المسلمين ليسوا أصحاب عقلٍ ادّعاءٌ باطل، فمن يكون صاحب العقل إذاً؟ صاحب العقل الّذي يُنكر وجود الله عز وجل؟ بكلّ المقاييس العقليّة والعلميّة والآيات الدّالّة هؤلاء النّاس الّذين أنكروا وجود الله سبحانه وتعالى ما استطاعوا إلّا أن يصلوا إلى نقطةٍ يقفون عندها، أمّا الإيمان فإنّه يصل معك علميّاً وعقليّاً بالحوار والتّفكّر والتّدبّر إلى الإجابة على التّساؤلات كلّها، لذلك يقول القرآن الكريم: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾]الفرقان[، فهل جاء النّبيّ , بالقسوة والعنف أو جاء باللّطف؟ جاء النّبيّ , بالكلمة والحكمة، قال سبحانه وتعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾]النّحل: من الآية 125[، من الّذي قام بالإرهاب والقتل والتّخويف والتّرهيب؟ هم الّذين لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى؛ لأنّ النّبيّ , قال لهم: لا إله إلّا الله، هم الّذين اعتَدوا، وهم الّذين أنكروا، وهم الّذين استخدموا الوسائل الّتي تُناقض العقل والعلم والمعرفة، بينما أوّل آيةٍ نزلت بالقرآن الكريم هي قوله سبحانه وتعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾]العلق[.

من هم أولو الألباب؟ بيّن الله سبحانه وتعالى تسع صفات لأولي الألباب يجب أن نتوقّف عندها:

الآية رقم (20) - الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ

﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾: أوّلاً: هو عهد الإيمان بفطرة الإنسان المركوزة في داخله، والّتي تشير إلى الخالق سبحانه وتعالى وإلى وحدانيّته عز وجل، وتشير إلى وجود صانعٍ لهذا الكون أبدعه وخلقه، فهنا يبيّن الله سبحانه وتعالى أنّ هذا الوفاء إنّما يكون لهذا العهد الّذي هو بين الإنسان وبين ربّه. ثانياً: هذا العهد يتمّ توثيقه من خلال الأنبياء والرّسالات السّماويّة، وقد سهّل الله سبحانه وتعالى مهمّة الإيمان من خلال الفطرة الإنسانيّة، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ ﴾]الأعراف[، فكانت هذه الفطرة هي الموجودة، والإنسان يولد على الفطرة كما بيّن النّبيّ ,، وجاء الأنبياء عليهم السلام وجاءت الرّسالات السّماويّة لتقول لنا مُراد المولى تعالى منّا، ولتبيّن لنا صفات الله سبحانه وتعالى، وتبيّن لنا الخير من الشّرّ، والثّواب والعقاب، أمّا بالنّسبة إلى الإيمان فالعهد هو الأساس الموجود والمركوز في داخل الفطرة الإنسانيّة البشريّة.

﴿وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾: ولا بدّ من الوفاء بهذا العهد وعدم نقض الميثاق، وميثاق الإيمان هو تكاليف الإيمان الّتي فرضها الله سبحانه وتعالى علينا، وهذا العهد لا ينقضه الإنسان المؤمن، لذلك من صفات الإنسان العاقل الوفاء بالعهد، وعدم نقض ميثاق الإيمان الّذي أعلن الإنسان فيه إيمانه لله سبحانه وتعالى من خلال الأنبياء والرّسالات.

الآية رقم (10) - سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ

﴿ سَوَاءٌ مِنْكُمْ ﴾: المقصود بسواء عدد لايقلّ عن اثنين، فنقول: سواء زيد وعمرو، أو: سواء زيد وعمرو وبكر وخالد.

﴿ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ﴾ ما دام الحقّ سبحانه وتعالى عالم الغيب والشّهادة فأيّ سرٍّ لا بدّ أنّه مطّلعٌ عليه جل جلاله، وهو القائل: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى ﴾]طه[، والسّرّ هو ما اؤتمنت عليه من غيرك، والأخفى هو ما بقي عندك، أي السّرّ بينك وبين نفسك، وهو سبحانه وتعالى يعلم السّرّ وأخفى، وهنا جمع الحقّ سبحانه وتعالى أنواع العمل كلّها، فالعمل هو عمل الجوارح من فعل اللّسان من قولٍ أو ذوقٍ، أو عمل أيدٍ تدفع، أو أذنٍ تسمع، أو عمل قلبٍ وهو النّيّة، فالقول أخذ مساحة نصف العمل؛ لأنّه البلاغ عن الله سبحانه وتعالى.

﴿ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ ﴾: اللّيل يخفي بعض الأمور، والله سبحانه وتعالى يعرفها، ومن يستخفي باللّيل لا بدّ أنّه يدبّر أمراً ما كان يريد أن يقوم به في السّرّ.

﴿ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾: ظاهرٌ ماشٍ في ضوء النّهار، فإنّ كليهما -الاستخفاء والظّهور- في علم الله سبحانه وتعالى على السّواء

الآية رقم (0) - تفسير سورة الرعد

سمّيت سورة (الرّعد) بهذا الاسم؛ لأنّ الرّعد قد ذُكِر فيها في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ﴾، واختلفت الأقوال هل هي مكّيّة أو مدنيّة، والغالب أنّها مكّيّةٌ، وقال بعضهم: إنّها مدنيّةٌ، وفيها آيتان نزلتا بمكّة

الآية رقم (1) - المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ

﴿ المر ﴾: سبق وتكلّمنا عن الحروف المقطّعة الّتي تبدأ بها بعض سور القرآن الكريم، وهي -كما قلنا- توقيفيّةٌ، وقد ذكرنا أنّ الحروف المقطّعة من المتشابهات في القرآن الكريم؛ لأنّه لا يعلم تأويلها إلّا الله سبحانه وتعالى، وقد قال فيها العلماء أقوالاً كثيرةً، ذكرناها سابقاً، وهذه الأحرف المقطّعة في كتاب الله سبحانه وتعالى فيها أسرارٌ وإعجازٌ وعطاءٌ.

﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ﴾: الكتاب يبدأ من البسملة في أوّل سورة (الفاتحة) إلى نهاية سورة (النّاس)، ونعلم أنّ الإضافة تأتي على ثلاثة معانٍ، فمرّةً تأتي بمعنى (من)، ومرّةً تأتي بمعنى (في)، ومرّةً ثالثةً تأتي بمعنى (اللّام)، وتأخذ شكلين، إمّا أن تكون تعبيراً عن ملكيّةٍ، كقولنا: مال زيدٍ لزيدٍ، أو أن تكون اللّام للاختصاص، كقولنا: لجام الفرس؛ أي أنّ اللّجام يخصّ الفرس، فليس من المعقول أن يملك الفرس لجاماً، فقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ﴾؛ أي تلك آياتٌ من القرآن الكريم؛ لأنّ كلمة الكتاب إذا أُطلقت فهي تنصرف إلى القرآن الكريم.

﴿ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ﴾: إنّ مراد مَن يُخالف الحقّ هو أن يكسب شيئاً من وراء تلك المخالفة، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾]يوسف[، ووصف سبحانه وتعالى القرآن الكريم بقوله: ﴿ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾]يوسف: من الآية 111[، فالحقّ سبحانه وتعالى لا يريد الكسب منّا، لكنّه شاء أن ينزّل هذا الكتاب لنكسب نحن.

الحقّ هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغيّر، ومن أسمائه سبحانه وتعالى الحقّ، وكلّ ما نزل من الحقّ سبحانه وتعالى هو حقٌّ، وكلّ ما يأتي في كتابه سبحانه وتعالى حقٌّ.

﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾: أي أنّ أكثر النّاس لا يؤمنون بأنّ هذا الكتاب نزل إليك من ربّك؛ لأنّهم استسلموا للهوى فأرادوا متاع الحياة الدّنيا، ولم يلتفتوا إلى ما جاء فيه، فهو يعطي خيري الدّنيا والآخرة، وبعضهم يؤمن بأنّ القرآن الكريم هو من عند الله سبحانه وتعالى، لكنّ الإيمان يستوجب فهم مرادات الله عز وجل، ويستلزم وظائف الإيمان؛ لأنّ الإيمان هو عملٌ بمقتضى العقيدة، والقرآن الكريم فيه أساس العقيدة الإسلاميّة الّذي بُنيت عليه أركان الإسلام والإيمان، بأنّه هو الخالق والنّافع والمعطي والـمُحيي والمميت والقادر وأنّه إليه ترجعون وإليه سيكون الحساب فمن هذا المنطلق أكثر النّاس لا يؤمنون، فالإيمان هو ما وقر في القلب وصدّقه العمل، فإذا رأيت الإنسان في حياته لا يمارس حقيقة إيمانه فاعلم بأنّه ينطبق عليه قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، فليس الّذي لا يؤمن هو فقط مَن يقول صراحةً: أنا لا أؤمن بالله، لكنّه أيضاً الّذي يأخذ كلام الله سبحانه وتعالى ولا يعمل به.

الآية رقم (2) - اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ

﴿ اللَّهُ ﴾: عَلَمٌ على واجب الوجود، مطمورةٌ فيه صفات الكمال كلّها، وقد قال النّبيّ ,: «كلّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدَأ فيه ببسم الله الرّحمن الرّحيم أقطع»([1])؛ أي مقطوع النّتيجة؛ لأنّ كلّ عملٍ لا يُبدأ باسمه سبحانه وتعالى لا تستحضر فيه أنّه جل جلاله قد سخّر لك الأشياء، ولم تُسخّرها بقدرتك، لذلك المؤمن يدخل على أيّ عملٍ بحيثيّة (بسم الله الرّحمن الرّحيم)؛ لأنّه سبحانه وتعالى ذلّل كلّ شيءٍ للإنسان، ولو لم يذلّلها عز وجل لما استجابت لنا، وقد أوضح سبحانه وتعالى ذلك بأمثلةٍ بسيطةٍ، فنجد مثلاً أنّ الطّفل الصّغير يمسك بحبلٍ ويربطه في عنق الجمل ويأمره بأن ينخّ على أربعٍ فيمتثل الجمل لذلك، بينما نجد أنّ البرغوث الصّغير يجعل الإنسان ساهراً طوال اللّيل عندما يتسلّل إلى غرفته، ويبذل الإنسان كلّ الجهد ليمسك به أو ليتفاداه فلا يستطيع، وهكذا نعلم أنّ أحداً لم يسخّر الأشياء بإرادته أو مشيئته، ولكنّ الله سبحانه وتعالى هو الّذي يذلّل الكائنات لخدمة الإنسان، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَذَلَّلْنَٰهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴾]يس[، فكلمة الله سبحانه وتعالى هي الاسم الجامع لكلّ صفات الكمال.

﴿ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾: بدأ سبحانه وتعالى هذه الآية بالحديث عن العالم العلويّ ولم يتحدّث عن الأرض، وكلمة ﴿رَفَعَ﴾عندما نستعملها استعمالاً بشريّاً فهي تدلّ على أنّ شيئاً رُفِع عن موضعه إلى أعلى، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ﴾]يوسف: من الآية 100[، فقد رفعهما يوسف عليه السلام إلى موضعٍ أعلى ممّا كانا فيه، فهل كانت السّماء موضوعةً في موضعٍ أقلّ ثمّ رفعها الله تبارك وتعالى؟ الجواب: لا، بل خلقها الله سبحانه وتعالى مرفوعةً، وفي العُرف البشريّ فإنّ مقتضى رفع أيّ شيءٍ وجود أعمدةٍ تحته ترفعه، ولكنّ خلق الله جل جلاله يختلف، فنحن نرى السّماء مرفوعةً على امتداد الأفق، ولم نجد إنساناً يسير في أيّ اتّجاهٍ ويصطدم بأعمدةٍ، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾]الحجّ: من الآية 65[، فإذا كانت السّماء ممسوكةً من الأعلى فهي لا تحتاج إلى عمدٍ، وقوله جل جلاله: ﴿وَيُمْسِكُ﴾؛ أي أنّه سبحانه وتعالى وضع لها قوانين خاصّةً لم نعرفها بعد، وقد قام العلماء المعاصرون بمسح الأرض والفضاء بواسطة الأقمار الصّناعيّة وغيرها فلم يجدوا عمداً ترفع السّموات أو تمسكها، ممّا يعني أنّه سبحانه وتعالى إمّا أنّه حمل السّماء على أعمدةٍ أدقّ وألطف من أن نراها بأعيننا، أو أنّها مرفوعةٌ بغير أعمدةٍ على الإطلاق.

﴿السَّمَاوَاتِ ﴾: جمع سماء، هي كلّ ما علاك فأظلّك، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾]البقرة: من الآية 22[، فالمطر إنّما ينزل من السّحب الّتي تعلو الإنسان وتبدو معلّقةً في السّماء، وإذا أُطلقت كلمة السّماء انصرفت إلى السّماء العُليا الّتي تظلّل ما تحتها، وحين أراد النّاس معرفة ما هي السّماء، هل لها جُرم أو لا؟ هل هي امتدادٌ؟ أجواءٌ؟ هواءٌ؟ لم يتّفق العلماء على الإجابة، وقد نثر الله سبحانه وتعالى أدلّةً على وجوده وقدرته وحكمته وآلة صنعته في الكون ثمّ أعطى للإنسان الأدلّة في نفسه، فقال جل جلاله: ﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾]الذّاريات[، فإذا نظر الإنسان إلى نفسه يجد بها أسراراً عجيبةً، ويتعجّب من الآثار في نفسه الّتي اكتشفتها العقول وما كانت لتدركها سابقاً، وإذا نظر خارج نفسه سيجد أنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾]فصّلت: من الآية 53[، والسّين في قوله سبحانه وتعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ﴾حرف استقبالٍ؛ أي سنريهم دائماً، فهناك عطاءٌ جديدٌ إلى أن تقوم السّاعة، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾ ]غافر[، فحين نفكّر في خلق السّموات والأرض نجدها مسألةً في غاية الضّخامة، ونتحيّر في مسألة الخلق والتّكوين، وهذه كلّها آياتٌ تدلّ على وجود الله سبحانه وتعالى.

﴿عَمَدٍ﴾: اسم جمعٍ، مفردها: عمود أو عِماد، وقد جاءت هذه الآية بمثابة تفسيرٍ لما أُجمل في قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾]يوسف[، فجاء سبحانه وتعالى هنا بالتّفصيل، فأوضح لنا أنّه رفع السّموات بغير عمدٍ ترونها؛ أي لا ترونها بحكم قانون إبصاركم، فالعين وسيلةٌ من وسائل الإدراك لها قانونٌ خاصٌّ، فهي ترى بعض الأشياء ولا ترى أشياء أخرى، فقانون الإبصار له مدىً محدّد، والإنسان غير قادرٍ على إدراك كلّ شيءٍ، والآفاق تختلف من إنسانٍ لآخر، وفي التّعبير اليوميّ الشّائع: فلانٌ ضيّق الأفق؛ أي لا يرى إلّا ما تحت قدميه.

بالنّسبة إلى كتاب الله سبحانه وتعالى علينا أن نكتفي بمعرفة ما يطلبه الله جل جلاله منّا، قال عز وجل: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ﴾]الإسراء[، وقد حجز الحقّ سبحانه وتعالى على المتطفّل أمرين، فلا داعي أن نرهق أنفسنا فيهما، الأمر الأوّل: كيفيّة خلق الإنسان، والأمر الثّاني: كيفيّة خلق السّموات والأرض، قال سبحانه وتعالى: ﴿مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ﴾ ]الكهف: من الآية 51[، ولو كان الله سبحانه وتعالى يريد أن نعلم شيئاً عن تفاصيل هذين الأمرين لأشهد خلقهما لبعض البشر، لكنّه سبحانه وتعالى نفى هذا الإشهاد، لذلك ستظلّ هذه المسألة لغزاً للأبد، يبحث الإنسان بعقله لكن لن يصل إلى نتيجةٍ، والله سبحانه وتعالى أوضح لنا أنّه قد خلقنا من طينٍ ونفخ من روحه، فلنسمع منه كيف خلق الكون، ويدلّ الإعجاز البيانيّ في القرآن الكريم على أنّ بعضاً ممّن يملكون الطّموح أرادوا أن يأخذوا من القرآن أدلّةً على صحّة بعض النّظريات الّتي افترضوها عن خلق الإنسان وخلق الأرض، لكنّه سبحانه وتعالى قال: ﴿ مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ﴾]الكهف[، والمضلّ هو من يضلّل بالمعلومات.

﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾: هذه القضيّة هي أهمّ قضيّةٍ كلاميّةٍ ناقشها علماء الكلام، قضيّة الاستواء على العرش، وحتّى نفهم أيّ قضيّةٍ لا بدّ أن نحلّل ألفاظها لنتّفق على معانيها، ثمّ نبحث جملةً جملةً، وحين نستقرئ كلمة ﴿اسْتَوَى﴾ في القرآن الكريم نجدها قد وردت في آياتٍ عديدةٍ، فقد جاءت مرّةً بمعنى الاستواء؛ أي النّضج، في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾]القصص[؛ أي أنّه قد بلغ نضجه وأصبح رجلاً صالحاً لممارسة ما يُبقي نوعه، وإن تزوّج فسوف ينجب مثله، هذا استواء المخلوق الّذي هو الإنسان، ومرّةً أخرى جاءت بمعنى صعد، قال سبحانه وتعالى: ﴿ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ﴾]النّجم[، والمقصود صعود النّبيّ , وجبريل عليه السلام إلى الأفق الأعلى، وجاءت بقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ]البقرة: من الآية 29[، وإيّاك أن تظنّ أنّ استواءه سبحانه وتعالى إلى السّماء مساوٍ لاستواء البشر، فكلّ شيءٍ بالنّسبة إلى الله عز وجل إنّما نأخذه في إطار: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾]الشّورى: من الآية 11[، والاستواء المطلق شيءٌ مختلفٌ عن الاستواء على العرش، وقد ورد الاستواء على العرش في سبعة مواضع في القرآن الكريم، في سورة (الأعراف) و(يونس) و(الرّعد) و(طه) و(الفرقان) و(السّجدة) و(الحديد)، وورد ذكر العرش في القرآن الكريم بالنّسبة إلى الله جلّ وعلا إحدى وعشرين مرّةً، وهي المواضع الآتية: 1- ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَـوَاتِ وَالأرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾]الأعراف: من الآية 54[، 2- ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾]التّوبة: من الآية 129[، 3- ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَـوَاتِ وَالأرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾]يونس: من الآية 3[، 4- ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ﴾]هود: من الآية 7[، 5- ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ﴾]الرّعد: من الآية 2[، 6- ﴿قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا﴾]الإسراء[، 7- ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾]طه[، 8- ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ ]الأنبياء: من الآية 22[، 9- ﴿ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾]المؤمنون[، 10- ﴿ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾]المؤمنون: من الآية 116[، 11- ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ﴾]الفرقان: من الآية 59[، 12- ﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾]النّمل[، 13- ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ ]السّجدة: من الآية 4[، 14- ﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾]الزّمر: من الآية 75[، 15- ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ ]غافر: من الآية 7[، 16- ﴿ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ﴾]غافر: من الآية 15[، 17- ﴿سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾]الزّخرف[، 18- ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ﴾]الحديد: من الآية 4[، 19-﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾]الحاقّة: من الآية 17[، 20-﴿ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى ٱلْعَرْشِ مَكِينٍۢ ﴾ ]التّكوير[، 21- ﴿ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴾]البروج[، وورد بالنّسبة إلى بلقيس أربع مرّاتٍ، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾]النّمل: من الآية 23[، وقال أيضاً: ﴿ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ﴾]النّمل: من الآية 38[، وقال: ﴿ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا ﴾]النّمل: من الآية 41[، وقال جل جلاله: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَٰكَذَا عَرْشُكِ﴾ ]النّمل: من الآية 42[، وبالنّسبة إلى يوسف عليه السلام مرّةً واحدً، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾]يوسف: من الآية 100[، فلا يمكن أن نأخذ الاستواء بالنّسبة إلى الله سبحانه وتعالى على أنّ معناه النّضج؛ لأنّ النّضج إشعارٌ بكمالٍ كان قبله نقصٌ، وهذا بالنّسبة إلى الإنسان عندما يكبر، فهنا عندما يقول سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ فللعلماء فيها عدّة أقوالٍ، منها: استقرّ وعلا، بما يتناسب مع كمال الله جل جلاله، وقد قال الإمام مالك: “الاستواء معلومٌ، والكَيْف مجهولٌ، والإيمان به واجبٌ، والسّؤال عنه بدعة”، والمعاصرون لرسول الله , لم يسألوا عن تلك الكيفيّة مع أنّهم سألوا عن أمورٍ كثيرةٍ، فقد فهموا الاستواء بما يناسب كمال الله سبحانه وتعالى بمَلَكتهم الفطريّة، وجاء السّؤال من المتأخّرين الّذين تمحّكوا بالفلسفة، فقال أحدهم: سآخذ الألفاظ بمعناها، فإن قال: إنّ له صعوداً فهو يصعد، وإن قال: إنّ له استواءً فهو يستوي، ومن قال ذلك نردّ عليه بقولنا: لايليق أن تقول ذلك عن الّذي يُغيّر ولايتغيّر، ومعنى كلمة (استواء) هنا أنّه استتبّ له الأمر، وقد يسأل سائلٌ: هل كان الأمر قبل ذلك غير مستتبٍّ لله عز وجل؟ الجواب: لا يصحّ هذا، فنحن نعلم أنّ لله سبحانه وتعالى صفاتاً متعدّدةً، هذه الصّفات كانت موجودةً قبل أن يخلق الله عز وجل الخلق كلّه، فسبحانه موصوفٌ أنّه خالقٌ قبل أن يخلق، ومُعِزٌّ قبل أن يخلق من يُعِزّه، ومذِلٌّ قبل أن يخلق من يذِلّه، فله سبحانه وتعالى صفات الكمال المطلق، وبهذه الصّفات خلق الخلق، ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ ]طه[، هذا كان جواب موسى عليه السلام لفرعون، فسبحانه حين خلق السّموات السّبع والأرض أبرز الصّفة الّتي كانت موجودةً فيه وليس لها متعلَّقٌ، فإذا ذُكِر استواء الله عز وجل فهذا يعني تمام المراد له.

﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾: التّسخير هو طلب الـمُسخِّر أن يكون كما أراد، بحيث لا تكون له رغبةٌ ولا رأيٌ ولا هوىً، وضدّ التّسخير الاختيار، فالكائن الّذي له اختيارٌ إن شاء فعلَ وإن شاء لم يفعل، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾]الأحزاب[، فأبَت السّماء والأرض والجبال تحمّل الأمانة وقت العرض وقَبِل كلٌّ منهم التّسخير، فلا الجبال ولا السّموات ولا الأرض لها قدرة الاختيار، وليس عندها هوىً، فهي تسير كما أمرها الله جل جلاله، والأجناس كلّها هكذا عدا الإنسان، لذلك لا يوجد فسادٌ في الأرض إلّا عنده، وقد قَبِل تحمّل الأمانة؛ لأنّ له عقلاً يفكّر ويختار بين البدائل، ويأتي الفساد نتيجة الهوى، ولو أقبل الإنسان على العمل وكأنّه مُسخَّرٌ خاضعٌ لمنهج الله عز وجل لاستقام عمله كما يستقيم عمل الكائنات الـمُسخّرة بأمر الله جل جلاله، فإذا أردتم استقامة أموركم في ما لكم فيه اختيارٌ فطبّقوا قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿أَلَّا تَطْغَوْاْ فِى ٱلْمِيزَانِ﴾]الرّحمن[، ولننظر ماذا يطلب الله سبحانه وتعالى في منهجه، ولا يأتي الخلل إلّا من بعض الأعمال الّتي نعملها باختيارنا وتكون مخالفةً للاستقامة، فالشّمس والقمر سُخِّرا من قِبَل الله عز وجل لخدمة الإنسان.

﴿كُلٌّ ﴾: التّنوين يعني كلّاً من السّابق؛ أي الشّمس والقمر.

﴿يَجْرِي ﴾: الجري هو تقليل الزّمن عن المسافة، فعندما تريد الوصول إلى مكانٍ معيّنٍ قد تمشي فتصل خلال ساعةٍ، أمّا إذا قمتَ بالجري فإنّك تقطع المسافة في نصف ساعةٍ، والجري بطبيعة الحال ملحوظٌ ممّن يراك، لكن هل يرى أحدنا الشّمس وهي تجري؟ الجواب: لا؛ لأنّها تجري في ذاتها، وهذا النّوع من الجري هو جريٌ انسيابيٌّ لا تدركه العين المجرّدة، وهناك انتقالٌ قفزيٌّ، وانتقالٌ انسيابيٌّ، لننظر إلى عقارب السّاعة نجد عقرب الثّواني أسرع من عقرب الدّقائق الّذي يبدو ساكناً مع أنّه يتحرّك، فأنت ترى حركة عقرب الثّواني؛ لأنّها تتمّ قفزاً، بينما لا ترى حركة عقرب الدّقائق؛ لأنّه يتحرّك تِبعاً لدورةٍ هادئةٍ من التّروس داخل السّاعة، وكلّ جزئيّةٍ في حركة التّرس الخاصّ بعقرب الدّقائق تتأثّر بحركة ترس عقرب الثّواني، والحركة القفزيّة لعقرب الثّواني تتحوّل إلى حركةٍ انسيابيّةٍ في عقرب الدّقائق، وحركة كلٍّ من العقربين تتحوّل إلى حركةٍ انسيابيّةٍ في عقرب السّاعات، وهذا يعني أنّ كلّ جزئيّةٍ من الزّمن فيها جزئيّةٌ من الحركة، حتّى في نموّ الإنسان أو الحيوان أو النّبات نجد عمليّة النّمو غير ظاهرةٍ لنا؛ لأنّ الكائن الّذي ينمو إنّما ينمو بقدرٍ بسيط غير ملحوظٍ، وهذا القدر البسيط شائعٌ في اليوم كلّه، فهكذا يجب أن نفرّق بين الحركة القفزيّة والحركة الانسيابيّة.

﴿لِأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾: الأجل: هو المدّة المحدودة للشّيء، وهي محدودةٌ زمناً إن أردنا ظرف الزّمان، أو محدودةٌ بالمسافة إن أردنا المكان، والمقصود هنا بالأجل إمّا الأجل النّهائيّ لوجود الشّمس والقمر، ثمّ إذا انشقّت السّماء كوّرت الشّمس وانكدرت النّجوم، أو أنّ المقصود بالأجل التّعبير عن عملها اليوميّ، فمع أنّ المشرق له جهةٌ واحدةٌ لكنّ المطالع مختلفةٌ.

﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾: قد أوضح سبحانه وتعالى بأوّل الآية مسألة رفْع السّموات بغير عمدٍ، واستوائه على العرش، وتسخير الشّمس والقمر، وكيف يجري كلّ شيءٍ لأجلٍ مسمّى، كلّ ذلك يتطلّب تدبيراً للأمر، فهو يدبّر بقيمومته، فهو القائم على كلّ شيءٍ، ونضرب مثلاً لنوضّح لا لنشبّه، فسبحانه منزّهٌ عن التّشبيه، نقول: فلانٌ فكّر أوّلاً ثمّ دبّر، والتّفكير يطلب منك أن تبحث وتنقّب إلى أن تصل إلى لبّ الأشياء، والتّدبّر يقتضي ألّا تقتنع بما هداك إليه فكرك في نفس اللّحظة، ولكن أن تمحّص الأمر لتعرف ماذا سينتج بالتّجربة عن تنفيذ ما وصل إليه الفكر، فربّما ما فكّرت فيه يُسعفك ويعينك بشكلٍ آنيٍّ لكنّه سيأتي لك بعطبٍ بعد فترةٍ، فمثلاً اختراع المبيدات الحشريّة لم يُفطَن إلى أنّها لا تقتل الحشرات الضّارّة وحدها بل تسمّم الطّيور الّتي تفيد الفلّاح، ممّا أدّى إلى منع استخدامها، وجاء هذا المنع ممّن تفاخروا من قبل على شعوب الأرض باختراعها بعد ما فطنوا إلى أنّ ما جاءهم من خيرٍ عن طريقها هو أقلّ بكثيرٍ من الضّرّر الّذي وقع بسببها، وهذا يعني أنّهم لم يتدبّروا اختراعهم لتلك المبيدات بدقّةٍ، فقاموا بتصنيعها لتحصيل فائدةٍ عاجلةٍ دون أن يلتفتوا إلى الخطورة الآجلة، فالتّدبّر هو النّظر في دُبُر الأشياء، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾]محمّد[؛ أي انظر في أعماق القرآن الكريم، فالفكر لا بدّ له من تجربةٍ وتدبّرٍ وتدقيقٍ ونظرٍ في كلّ أمرٍ بالتّجربة والبرهان حتّى يحقّق لك ما يفيدك من غير ضررٍ لاحقٍ، وهو ما نسمّيه صيانة الأشياء؛ أي أنّه جعل الأمر مناسباً لكلّ شيءٍ، ولو خالف أهواءنا، فهو لمصلحة الإنسان.

﴿يُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾: يوضح الآيات والدّلالات على أنّه لا إله إلّا هو، وأنّه يُعيد الخلق إذا شاء كما ابتدأ خلقه.

﴿لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾: إنّ كثرة الأدلّة وبيانها ووضوحها، من أسباب حصول اليقين بالآخرة.

([1]) كنز العمّال: ج 1، ص 555، الحديث رقم (2491).

الآية رقم (3) - وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ﴾: بعض النّاس يفهمون المدّ بمعنى البسط، فنفَوا كرويّة الأرض، نقول لهم: إنّ البسط تابعٌ للمدّ، فالأرض الّتي نقف عليها وتعيش عليها الكائنات، تمتدّ شمالاً إلى القطب الشّماليّ، وجنوباً إلى القطب الجنوبيّ، وشرقاً وغرباً، وهذا معنى قوله جل جلاله: ﴿مَدَّ الْأَرْضَ﴾، فلا توجد حافّةٌ في أيّ مكانٍ على الأرض، ولو كانت مبسوطةً لوجدت نهايةً لها، ولكانت على شكل مثلّثٍ أو مربّعٍ أو مستطيلٍ، ولوجدنا من يسير يصل إلى حافّة الأرض ويجد بعدها فراغاً، وهذا لم يحدث لأحدٍ من البشر، فالأرض ممدودةٌ غير محدودةٍ، ولا يكون ذلك إلّا إذا كانت الأرض كرويّةً، بحيث إذا مشيت متتبّعاً لأيّ خطٍّ من خطوط العرض أو خطوط الطّول لانتهيت إلى النّقطة الّتي بدأت منها المسير، وكان هذا هو الدّليل الّذي يقدّمه العلماء على كرويّة الأرض قبل أن يخترعوا التّصوير من خارج الغلاف الجويّ، ويكتشف العلم بأنّ الأرض على شكل كرةٍ، ونأخذ من كلمة مدّ الأرض أيضاً أنّ الأرض لن تضيق بأحدٍ، فيمكن للإنسان إذا ضاقت به الأرض أن يرحل إلى مكانٍ آخر، قال سبحانه وتعالى: ﴿قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ ]النّساء: من الآية 97[.

﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾: الرّواسي: جمع راسٍ، وهو الشّيء الثّابت، قال جلّ وعلا: ﴿وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾]النّازعات[، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ ﴾]الأنبياء: من الآية 31[؛ أي لا تضطرب بكم الأرض، ومعنى هذا الكلام أن لو كانت الأرض قد خُلقت ثابتةً لما احتجنا إلى الجبال الرّواسي كي تثبّتها، فالأرض خُلقت متحرّكةً، وهذا الكلام أثبته القرآن الكريم قبل أن يكتشف العلم أنّ الأرض تدور وتتحرّك، ولولا الجبال الرّواسي لمادت الأرض.

﴿وَأَنْهَارًا ﴾: والنّهر هو المكان الّذي يحمل الماء، فما بين الجبل والنّهر يكون الإنبات، والنّهر ماؤه حلوٌ، يمكن أن نزرع به الأرض ونشرب منه الماء لاستبقاء الحياة، وإذا استعرضنا أنهار الدّنيا كلّها سنجد أنّ مجاريها تصبّ في البحار، وهذا دليلٌ على أنّ منسوب النّهر أعلى من منسوب البحر، ولو كان الأمر بالعكس لطغى الماء المالح على ماء النّهر، ولما استطاع أحدٌ أن يشرب أو يزرع، لذلك شاء الحقّ سبحانه وتعالى أن يجعل الماء العذب هو الأعلى؛ لأنّ له مهمّةً يؤدّيها قبل أن يصبّ في البحر، يقول سبحانه وتعالى: ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ﴾ ]الرّحمن[؛ أي بين البحر والنّهر، ومن العجيب أنّ البرزخ الّذي يفصل النّهر عن البحر يكون انسيابيّاً يتدرّج نزول مياه النّهر في مياه البحر بما يحقّق سهولةً في هذا الانتقال، ومن العجيب أيضاً أنّنا إذا حفرنا عند شاطئ البحر قد نعثر على ماءٍ عذبٍ، فالماء العذب الّذي يحتاجه الإنسان قد حماها لله سبحانه وتعالى، قال جل جلاله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ﴾]الزّمر: من الآية 21[، فقد نجد في الأرياف من يحفر بئراً فيكون الماء فيه عذباً، ويمكن لإنسانٍ آخر أن يحفر بئراً فيخرج الماء مالحاً، وهذا دليلٌ على أنّ الماء في بطن الأرض غير مختلطٍ، بل لكلّ ماءٍ مسارب تختلف باختلاف نوعيّته.

﴿وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾: قد تُستَعمل كلمة (زوج) ليُراد بها شيآن، مع أنّ التّعبير الدّقيق يقتضي أن نقول: زوجان، مثلاً: زوجان من الأحذية كتوصيفٍ لفردة حذاءٍ يمنى وفردة حذاءٍ يسرى، فكلمة زوج تُستخدم في الشّيء الّذي له مِثْلٌ، لذلك نجد العدد الفرديّ والعدد الزّوجيّ، فالعدد الزّوجيّ مفردٌ له مثيلٌ، فكلمة (التّوأم) لا تعني الاثنين اللّذين يولدان معاً، بل هو الفرد الّذي يولد مع الآخر، ويُقال للاثنين معاً: التّوأمان.

فلم يخلق الله سبحانه وتعالى أيّ شيءٍ إلّا وشاء له أن يتكاثر مصداقاً لقوله عز وجل: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾]يس[، وكلّ تكاثرٍ يحتاج إلى زوجين، وقد كشف لنا العلم أنّ الكهرباء على سبيل المثال لا الحصر، تتكوّن من سالبٍ وموجبٍ، وغير ذلك كثير..

﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾: أي تأتي الظّلمة على النّهار فتغطّيه، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ﴾]الإسراء: من الآية 12[، وذلك تحقيقاً لمشيئته سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾]الفرقان[، ونحن نرى اللّيل والنّهار كلٌّ منهما يؤدّي مهمّته في نصفٍ ما في الكرة الأرضيّة، يكون أحدهما نهاراً والآخر ليلاً، فهكذا كان أوّل الخلق، خلق الله تبارك وتعالى الأرض كرويّةً واللّيل والنّهار خُلِقَا معاً، قال جل جلاله: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾]يس[، وقد كان العرب قديماً يظنّون أنّ اللّيل هو الّذي سبق النّهار في الخَلق؛ لأنّهم كانوا يحسبون الشّهور بالقمر، فيدخل الشّهر باللّيل لا بالنّهار، فبيّن سبحانه وتعالى هذا الأمر.

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾: على الإنسان مسؤوليّة التّفكّر فيما يراه من حوله ليصل إلى لبّ الحقائق، ومَن يقول: إنّ الإسلام يُلغي العقول إمّا جاهلٌ وإمّا حاقدٌ على الإسلام، فالإسلام دين العقل جاء ليُكلّف العقل ويُخاطبه، والدّليل على ذلك حشدٌ هائلٌ من الآيات، أكثر من ألف آيةٍ علميّةٍ في كتاب الله سبحانه وتعالى، ومهمّة العقل الاختيار بين البدائل والتّنقيب والتّمحيص والبحث والاستدلال والتّجريب ليصل إلى لبّ الحقائق.

الآية رقم (4) - وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ ﴾: كلمة (قطع) تدلّ على كلٍّ ينقسم إلى أجزاءٍ، هذا الكلّ هو جنسٌ جامعٌ للكليّة كلّها، فيه خصوصيّةٌ تميّز قِطعاً عن قِطعٍ، لذلك يقول العلماء: هذه الأرض تسمّى حزام القمح، وهذه حِزام الموز، وهذه المنطقة حارّةٌ وهذه باردةٌ، هذه تصلح للخضروات وهذه للحبوب وهذه للبقول …إلخ، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ ﴾ يدلّ على إعجازٍ، فمع أنّها متجاوراتٌ إلّا أنّ كلّاً منها تناسب الطّقس الّذي توجد فيه، فزراعة الذّرة مثلاً تحتاج مناخاً معيّناً، وكذلك زراعة الموز.. وهكذا تجد كلّ منطقةٍ مناسبةٍ لما تُنتجه، فالأرض ليست سائدةً بالتّماثل، بل تختلف بما يناسب الظّروف، فهناك منطقةٌ لا تنبت، وأخرى خصبةٌ تنبت، والخصوبة تختلف من موقعٍ إلى آخر، ومن قطعةٍ إلى أخرى، مثلاً ثمرة الكرز من منطقةٍ معيّنةٍ تختلف عن ثمرة الكرز في منطقةٍ أخرى، والقمح في منطقةٍ معيّنةٍ يختلف عن القمح في منطقةٍ أخرى.. وهكذا، ويحدث ذلك مع أنّ الأرض تُسقى بماءٍ واحدٍ، ونجد العلماء البعيدين عن الإيمان بالله سبحانه وتعالى يقولون: إنّ السّبب في الاختلاف هو عمليّة الاختيار والانتخاب، كأنّهم لايعرفون أنّ الاختيار والانتخاب يتطلّبان مختاراً له عقلٌ يفكّر به ليختار، فهل البذيرات تملك عقلاً تفكّر فيه وتختار؟ بالتّأكيد لا، فكلّ شجرةٍ تأخذ من الأرض ما ينفعها فتختلف النّباتات بقدرة الّذي قدّر فهدى، وقد يقول مَن لا يؤمنون بوجود الله سبحانه وتعالى: إنّ هذا الاختلاف بسبب الطّبيعة والبيئة، هؤلاء يتجاهلون أنّ الطّبيعة في مجموعها هي الشّمس الّتي تعطي الضّوء والحرارة، والقمر الّذي يعكس بعضاً من الضّوء، والنّجوم الّتي تهدي من يسير في الفلاة، وتيارات الهواء والغيوم والأكسجين.. ومع ذلك كلّه هناك أرضٌ خصبةٌ تنتج وأرض سليخٌ لا تُنتِج، فلا بدّ من وجود فاعلٍ مختارٍ يأمر هذه أمراً مختلفاً عن تلك.

﴿وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ ﴾:تحدّث الحقّ سبحانه وتعالى أوّلاً عن الفاكهة ثمّ تحدّث عن الزّرع الّذي منه القوت الأساسيّ.

﴿وَجَنَّاتٌ ﴾: جنّة من ستر، وهي قطعة الأرض المستورة من كثرة الأشجار.

﴿صِنْوَانٌ ﴾: الصّنو هو المِثل، يقول الرّسول الكريم ,: «فإنّما عمّ الرّجل صنو أبيه»([1])، وبهذا يكون معنى الصّنوان المِثلان، نرى ذلك واضحاً في النّخيل، فنرى أحياناً أصلاً واحداً تخرج منه نخلتان أو ثلاث نخلاتٍ وأحياناً أكثر، فيطلق لقب الصّنوان على الأصل الواحد الّذي يتفرّع إلى نخلتين أو أكثر، فكلمة صِنوان تصلح للمثنى والجمع، ولكنّها في حالة المثنى تُعامل في الإعراب كالمثنى، فيقال: أثمرت صِنوان، ورأيت صِنوَين، أمّا في حالة الجمع فيقال: رأيت صِنواناً ومررت بصِنوانٍ، والمفرد صِنو.

﴿يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ﴾: من العجيب أنّ كلّ شجرةٍ تأخذ عبر جذورها كميّةً من الماء والغذاء اللّازم لإنتاج الثّمار، وتخرج بشكلٍ وطعمٍ مختلفٍ عن بعضها، لذلك نقول: إنّ افتراض العلماء المختّصين في علوم النّبات أنّ النّباتات تتغذّى بخاصيّة الأنابيب الشّعريّة هو افتراضٌ غير دقيقٍ، فلو كان الأمر كذلك لأخذت الأنابيب الشّعريّة الخاصّة بنباتٍ المواد الّتي أخذتها الأنابيب الشّعريّة الخاصّة بنباتٍ آخر، والأمر ليس كذلك، فكلّ نباتٍ يأخذ من الأرض ما يخصّه فقط ويترك ما عدا ذلك؛ لأنّ ثمار كلّ نباتٍ تختلف ولا تتشابه، حتّى إنّ الشّجرة الواحدة تختلف ثمارها، وكذلك تختلف من شجرةٍ لشجرةٍ، فمن الّذي اختار هنا بأن جعل هذه الأرض وهذا الماء وهذا الغذاء يُنتِج ثماراً مختلفةً، وكلّ ثمرةٍ لها نظامٌ خاصٌّ؟

﴿وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ﴾: ما دمنا نفضّل بعضاً على بعضٍ فهذا يعني أنّ كلّاً منهما مُفضّلٌ في ناحيةٍ ومفضولٌ عليه في ناحيةٍ أخرى.

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾: فهذه آياتٌ دالّةٌ على وجود الله سبحانه وتعالى، وهنا توجيهٌ للتّعاون بين العقول لتبحث في آيات ربّ العقول، فكلّ إنسانٍ يستفيد من عقل الآخر، ومن شاور النّاس شاركهم في عقولهم.

([1]) سنن التّرمذيّ: كتاب المناقب، باب مناقب العبّاس بن عبد المطّلب t، الحديث رقم (3758).

الآية رقم (5) - وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ

﴿ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾: هنا الخطاب موجّهٌ لرسول الله ,، وقد كانوا يقولون عنه قبل البعثة: بأنّه الصّادق الأمين، وعندما جاءه الوحي أصبحوا يقولون عنه: ساحرٌ كذّابٌ، فكيف يكون صادقاً أميناً ببشريّته وذاتيّته وعندما أمّده الله سبحانه وتعالى بالمدد الرّساليّ أصبحوا يتّهمونه بالكذب؟ فكان يتعجّب النّبيّ , من بعض مواقفهم وأقوالهم، وهنا التّعجّب بأنّهم أنكروا البعث بعد الموت، مع أنّ الله سبحانه وتعالى أوضح الأدلّة على ذلك، لكنّ المؤمنين هم الّذي استقبلوا أمر البعث بعد الموت بالتّصديق بمجرّد أن أبلغهم به رسول الله ,، وقد أبلغنا سبحانه وتعالى أنّه لم يعجز عن الخلق الأوّل، لذلك لن يعجز عن الخلق في المرّة الثّانية، فالمسرف على نفسه يُنكر البعث؛ لأنّه لا يستطيع أن يضبط نفسه، ويظنّ أنّه بإنكار البعث لن يلقى مصيره الأسود الّذي ينتظره في الآخرة، ولو أنّ الإنسان وضع مسألة البعث في يقينه لانصرف عن شهواته وطغيانه وفساده، والجزاء في اليوم الآخر عمليّةٌ عقليّةٌ لازمةٌ، قال سبحانه وتعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ ]البقرة[، فإن كنت تعجب يا محمّد من الكفّار وما يثيرونه من أقضيةٍ فلك أن تعجب؛ لأنّها أمورٌ تستحقّ العجب، والله سبحانه وتعالى حين يُخاطب الخلق فهو يخاطبهم إمّا في أمرٍ يشكّون فيه أو في أمرٍ لا يشكّ فيه أحدٌ، وقد وجدنا بعضاً من النّاس ينكرون البعث والحساب والله سبحانه وتعالى يُذكّرهم به عبر الرّسول الكريم ,، ويؤكّد لهم بقوله: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾]آل عمران: من الآية 185[، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: “مارأيت يقيناً أشبه بالشّكّ من يقين النّاس بالموت، ثمّ لا يستعدّون له”، فكلّهم يعلمون أنّهم سيموتون، لكنّهم يظلّون شاكّين، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾]المؤمنون[، هذا تأكيدٌ لأمرٍ يُجمع عليه النّاس على أنّه واقعٌ، لكنّ الغفلة أنستهم، لذلك خاطبهم خطاب المنكرين، فقال بعدها: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ ]المؤمنون[، ولم يقل: (ولتبعثنّ)؛ لأنّ البعث مسألةٌ لاتحتاج إلى تأكيدٍ، فأمر الموت واضحٌ جدّاً مع غفلة النّاس عنه، أمّا البعث فهو واقعٌ لا محالة بحيث لا يحتاج إلى تأكيدٍ.

﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ﴾: هؤلاء قد كفروا بالله سبحانه وتعالى عندما أنكروا البعث وأنكروا كلام الله جل جلاله.

﴿وَأُولَٰئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾: يعطينا تصوّراً عن هؤلاء يوم القيامة، والأغلال: هي الّتي تقيّد الإنسان، والغلّ هو طوق حديدٍ يوضع في كلّ يدٍ للتّقييد، وطرفٌ منه معلّقٌ في الرّقبة ليقلّل من مساحة الحركة.

﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾: كلمة (صاحب) تُطلق على من اختار صاحبه، فأنتم الّذين اخترتم وصاحبتم النّار وأردتم دخولها بعملكم وكفركم وإشراككم بالله عز وجل.