الآية رقم (1) - إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ

﴿الْكَوْثَرَ﴾: الكثير من كلّ خير، وفي مقدمة ذلك النّهر الّذي في الجنّة.

هذه مُخاطبةٌ لنبيّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، وعطاءٌ عظيمٌ من الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم، وهي من السّور المكّيّة، ويريد الله سبحانه وتعالى في هذه السّورة أن يردّ مقاييس الأرض إلى مقاييس السّماء، ومعايير الخلق إلى معايير الحقّ سبحانه وتعالى، فمعايير الخلق كثيرةٌ متضاربةٌ، أمّا مقياس الحقّ فهو واحدٌ، ومنهجه واحدٌ، لا يتعارض ولا يتضارب بعضه مع بعض.

سبب نزول هذه السّورة يتضّح لنا بمعرفتنا لطبيعة الحياة العربيّة وما سادها من عاداتٍ جاهليّةٍ، أبرزها أنّهم كانوا يعتزّون بالبنين والتّكاثر بالذّريّة بعد موتهم، وأنّ الولد إنّما هو ذكرٌ لأبيه بعد موته، فشاع عنهم القول: من لا ولد له لا ذِكر له، لذلك اهتمّوا بالأنساب وحفظوها، ولـمّا مات أولاد النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم الذّكور فرح الكفّار لانقطاع عقِب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بموتهم، ظنّاً منهم أنّ الرّسالة ماتت، لكنّ هذا النّسب معترفٌ به عندهم، أمّا عند الله سبحانه وتعالى  فالنّسب لا يتعلّق بالنّسب البشريّ، فنسب النّبيّ : أبناء أمّته وأتباعه الّذين يأتمرون بأمره حتّى بعد موته إلى قِيام السّاعة، لذلك أحد المستشرقين غلبَه الحقّ فقال: إنّني أعجب لرجلٍ كمحمّدٍ لا يزال يحكم ملايين النّاس وهو ميّتٌ في قبره، هذا بنظره لأنّنا نعلم أنّ الله سبحانه وتعالى  قال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ [الحجرات: من الآية 7]، فأراد الله سبحانه وتعالى  أن يسلّي رسول الله ويخفّف عنه آثار هذه الأقوال في المجتمع المكّيّ فقال له: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾، الله سبحانه وتعالى  هو المتكلّم والـمُعطي، والـمُتلقّي للخطاب والـمُعطَى هو الرّسول الكريم، والعطاء هو الكوثر، فما هو الكوثر؟ كلمة (كوثر) تدلّ على الكثرة، نقول في التّعبير عن الكثرة: هذا كثيرٌ، وهذا أكثر، ثمّ بعد ذلك نقول: كوثر؛ أي أكثر كثرةً.

الآية رقم (2) - فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ

﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾: فعل الأمر هنا طبيعيٌّ بعد: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾، فالعطاء من الله سبحانه وتعالى لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم يقتضي شكراً لهذه النّعمة، الـمُنعَم عليه هو الرّسول الكريم بالخير الكثير والوفير، صلّ: اتّصل بربّك واشكره، فبما أنّ هناك مُنعِماً مُتفضّلاً عليك فلا بدّ أن تذكر نعمته، وأن تُخلص له في العبادة والتّقرّب إليه، فلا أقلّ من أن تكون دائماً موصولاً بهذا الـمُنعِم تصلّي له شكراً وتقديراً.

﴿وَانْحَرْ﴾: النّحر: إنفاقٌ، كأنّ الله سبحانه وتعالى أنعم عليك لتُنعِم على غيرك، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النّور: من الآية 33]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: من الآية 77]، فكما أعطاك الله سبحانه وتعالى عُد بعطاءك يا محمّد إلى الغير، وفي الحديث الشّريف: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»([1])، وبعض النّاس يقولون: لقد عوّدت النّاس عادةً أن أعطيهم، والله سبحانه وتعالى  عوّدني عادةً، فلا أريد أن أقطع عادتي مع النّاس حتّى لا يقطع الله سبحانه وتعالى  عادته معي.

للعلماء في هذه الآية رأيان، بعضهم قال: إنّها عامّةٌ تُفيد مُطلق الصّلاة، ومُطلق النّحر؛ أي انحر ووزّع وأدِّ الحقّ للفقير، وبعض المفسّرين قال: إنّها نزلت في صلاة العيد ونحر الأُضحية، وهذا الرّأي رآه بعضهم أنّه يُضيّق واسعاً؛ لأنّ صلة الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم بربّه ليست صلةً محدودةً بصلاة العيد، والنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم دخل في مقام القربة والإحسان، وهذه من خصوصيّات النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، ومن هنا نقول: إنّ قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ تعني مطلق الصّلاة ومطلق النّحر، وما دام أنّ الله سبحانه وتعالى  أعطاه الكوثر وهو العطاء الّذي لا حدود له، فالصّلاة لا حدود لها، والعطاء يجب ألّا يكون له حدودٌ.

 


([1]) صحيح مسلم: كتاب الذّكر والدّعاء والتّوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذّكر، الحديث رقم (2699).

الآية رقم (3) - إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ

﴿شَانِئَكَ﴾: الشّانئ: هو الـمُبغض.

﴿الْأَبْتَرُ﴾: هو المقطوع النّسل والعقِب، أو الـمُنقطِع عن كلّ خيرٍ.

وقد ذكرنا أنّ هذه الآية نزلت لتعديل المعايير البشريّة وردّها إلى معيار الحقّ سبحانه وتعالى ، فالذّكر الحقيقيّ ليس ذكر النّسب والدّمّ، إنّما ذكر المعنى والأثر، وعلى هذا المعنى لا يكون الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم هو الأبتر؛ لأنّه موصول النّسب في أبناء أمّته جميعهم، والأبتر هو من اتّهمه هذا الاتّهام وأطلق عليه هذه المقولة، وسيظلّ رسول الله محمّدٌ مذكوراً حتّى بعد موته إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى  الأرض ومن عليها على ألسنة تابعيه وفي قلوبهم وفي أرواحهم، وفي كلّ أذانٍ وفي كلّ وقتٍ، فحيثما ذُكر اسمه الكريم : ذُكِر حُكمٌ من أحكام الله سبحانه وتعالى ، فكيف يكون محمّدٌ أبترَ؟ النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ذكره موصولٌ بالآخرة، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشّرح]،  ويرتفع يوم القيامة ارتفاعاً يشمل الإنسانيّة كلّها من آدم إلى قيام السّاعة، حيث يتراجع الأنبياء كلّهم عن الشّفاعة، ولا يتصدّى لها إلّا محمّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، فذكره يتعدّى أمّته ومن جاء قبله وبعده.