تفسيرسورة الفيل

عندما جاء أبرهة إلى مكّة بجيشٍ جرّارٍ ومعه الفيلة، وأراد أن يهدم الكعبة قبل مولد النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قال عبد المطّلب الّذي كان سيّد قريشٍ حينها: إنّ للبيت ربّاً يحميه، وهجم أبرهة بالفيلة على مكّة. وقد قصّ علينا المولى سبحانه وتعالى هذه الحادثة فانتقل من سورةٍ تتعلّق بالهمزة واللّمزة والعذاب في الآخرة الّذي يتحدّث عنه بشكلٍ غيبيٍّ إلى أمرٍ محسوسٍ يعلمه النّاس، فالكون مُلكٌ لله سبحانه وتعالى، وفي قبضته جلَّ جلاله يقول للشّيء: ﴿كُن﴾ فيكون.

الآية رقم (1) - أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ

قصّة أصحاب الفيل قصّةٌ واقعيّةٌ شهدها النّاس بأعينهم، وشاهدوا آثارها، والله سبحانه وتعالى أجرى بهذه الحادثة أموراً فوق متناول البشر والطّبيعة والأسباب.

﴿أَلَمْ تَرَ﴾: الخطاب لسيّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، كأنّ الله سبحانه وتعالى يقول له: ألم تعلم، فالله سبحانه وتعالى عندما يُخبر فهو أصدق من الحواسّ؛ لأنّه سبحانه وتعالى مصدر العلم، فخذ ما أخبرك به ربّك مأخذ ما تراه بعينك بل أوثق منه، قال سبحانه وتعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصّلت: من الآية 53].

﴿أَلَمْ﴾: فيها الحروف ذاتها الّتي بدأت بها سورة (البقرة): ﴿أَلَمْ﴾ [البقرة]، ولكن اختلف النّطق بينهما، فقراءة القرآن تختلف عن قراءة أيّ كتابٍ آخر، فهي توقيفيّةٌ من جبريل عليه السَّلام لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والقرآن الكريم كتابٌ له خصوصيّةٌ من أوجهٍ كثيرةٍ، أوّلاً: خصوصيّة التّناول، فتناول أيّ كتابٍ لا يحتاج إلى شروطٍ، أمّا القرآن الكريم فيُشترط لتناوله أن تكون طاهراً؛ لتربية المهابة في النّفوس، والأمر الآخر: القرآن الكريم له رسمٌ خاصٌّ يختلف عن قواعد الرّسم الاملائيّ للحروف، فمثلاً لو أخذنا البسملة نجد في كلّ سورةٍ من سور القرآن الكريم تُكتب﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة]، الباء موصولةٌ بالسّين من غير ألفٍ، لكنّها في قوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾  ]العلق[، نجدها بالألف، وكذلك كتابة التّاء في كلمة (شجرة)، فشجرة الزّقوم كُتبت مرّةً بالتّاء المبسوطة: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ﴾ [الدّخان]، ومرّةً بالتّاء المربوطة: ﴿أَذَٰلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ﴾ [الصّافّات]، فهناك نظمٌ خاصٌّ أملاه جبريل عليه السَّلام على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد بلّغه صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابه وقال لهم: اكتبوه هكذا، فكتبوه، فالحرف في القرآن الكريم له معنىً.

الآية رقم (2) - أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ

﴿كَيْدَهُمْ﴾: الكيد: هو التّبييت والتّدبير الخفيّ للانتصار على الخصم، وهو يأتي من ضعيفٍ، فهم جاؤوا بالفيلة، فماذا فعل بكيدهم؟ مكر بهم، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: من الآية 30].

﴿فِي تَضْلِيلٍ﴾: أي في ضياعٍ؛ لأنّ تبييتهم وكيدهم في خفاءٍ لا يراه المقابل، أمّا الله سبحانه وتعالى فيرى، لذلك جعل كيدهم في ضلالٍ وضياعٍ لا يؤدّي إلى الغاية التي جاؤوا من أجلها فلا قيمة لها ولا نتيجة.

الآية رقم (3) - وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ

﴿أَبَابِيلَ﴾: جمعٌ مشتقٌّ من المفرد إبّيل، الجماعات الكثيرة المتتابعة الآتية بعضها على إثر بعض.

وقيل: جمعٌ لا مفرد له.

الآية رقم (4) - تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ

﴿سِجِّيلٍ﴾: من طينٍ مُتحجّرٍ مُحرقٍ، كُتب وسُجّل عليها أن يُعذّبوا بها.

هذه الحادثة وُثّقت تاريخيّاً وأقرّ الجميع أنّها حدثت، والعام الّذي وقعت فيه يُقال له: عام الفيل، وهو العام الّذي وُلد فيه سيّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمّ بُعث عليه الصّلاة والسّلام بعد ذلك بأربعين عاماً، أهل مكّة منهم من كان عمره خمسين أو ستّين سنةً تقريباً، وكانوا شاهدين على الحادثة بأمّ العين، وكانوا يستطيعون تكذيب النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكن لم يكذّبه أحدٌ، وهم يعلمون جيّداً معنى هذه الكلمات ومدلولاتها فقد وقعت بالفعل، وأخبر الله سبحانه وتعالى عنها كما وصفها السّياق القرآنيّ بالطّير الأبابيل والحجارة من سجّيل والعصف المأكول.

الآية رقم (5) - فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ

بمجرّد أن رمتهم الطّير صاروا كعصفٍ مأكولٍ، لنلاحظ هذا الأمر الّذي حدث بقدرةٍ فوق قدرة البشر.

﴿كَعَصْفٍ﴾: العصف: التّبن الّذي تأكله الدّوابّ وتدوسه، أو هو ورقٌ جافٌّ متساقطٌ متفتّتٌ.

جعل الله سبحانه وتعالى أصحاب الفيل كالعصف المأكول، أي كتبنٍ أو نحو ما أكلته الدّوابّ وألقته روثاً، والعصف جاءت في آياتٍ أخرى وصفاً للرّيح المدمّرة، قال سبحانه وتعالى: ﴿جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ﴾ [يونس: من الآية 22]، فالرّيح العاصف هي المدمّرة، ويُقال: فلانٌ يعصف، فهي ريحٌ مدمّرةٌ مغرقةٌ عاصفةٌ.

فأبرهة وجنده وحاشيته صاروا عصفاً مأكولاً؛ أي مثل التّبن والفتات الّذي تذروه الرّياح.