الآية رقم (1) - وَالْعَصْرِ

الواو: واو القَسَم.

العصر: مُقسَمٌ به، والله سبحانه وتعالى يُقسم بما يشاء على ما يشاء؛ لأنّه خالق الأشياء، يعلم سبحانه وتعالى ما خلق وسرّ ما خلق، أمّا نحن فلا نعرف مدى عظمة الشّيء ولا خطورته لجهلنا بما حولنا من المخلوقات.

والقسم في القرآن الكريم إمّا مُثبتٌ كما في قوله: ﴿وَالْعَصْرِ﴾، وإمّا منفيٌ كقوله سبحانه وتعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة]، والمؤدّى واحدٌ وهو تأكيد الـمُقسَم عليه، لكن في القسم المثبت توجد شبهةٌ يريد سبحانه وتعالى  أن يزيلها بالقسَم، فيأتي القسَم مثبتاً، أمّا المنفي فلا توجد شبهةٌ؛ لأنّه أمرٌ واضحٌ لا يحتاج معه إلى قسَم، ولو كنتُ مُقسماً لأقسمت به.

﴿وَالْعَصْرِ﴾: أقسم سبحانه وتعالى بالعصر ليؤكّد الـمُقسَم عليه، وهو قوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، والمناسبة بين العصر والـمُقسَم عليه، قالوا: العصر حيثيّةٌ مُقدّمةٌ لهذا الحُكم، بأنّ الإنسان في خسرٍ، فالعصر قد يكون زمناً، وقد يكون معنىً اصطلاحيّاً؛ أي صلاة العصر، وهي الصّلاة الوسطى الّتي قال سبحانه وتعالى فيها: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ﴾ [البقرة: من الآية 238]، والعصر بشكلٍ عامٍّ يُطلق على فترةٍ زمنيّةٍ، ومن ذلك: العصر العبّاسيّ، العصر الأمويّ، عصر الذّرّة، عصر التّكنولوجيا، فله أحوالٌ وله أشخاصٌ.

الآية رقم (2) - إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ

هذه الآية هي الـمُقسَم عليه.

﴿الْإِنْسَانَ﴾: تُطلق هذه اللّفظة على الفرد، أو يراد بها الجماعة، وبما أنّه سبحانه وتعالى استثنى منها جماعةً فالمقصود ليس الإنسان الفرد، وإنّما النّاس كلّهم؛ لأنّنا لا نستثني الجماعة من الفرد.

أقسم المولى سبحانه وتعالى بالعصر ليُعلّمنا أنّ المبدّأ العامّ لبقاء الأمم والحضارات يكمن في ثلاثة شروطٍ ولو توفّرت في المجتمع لساد وازدهر، ولو تخلّف منها شرطٌ واحدٌ لتخلّف المجتمع: العقيدة الرّاسخة، العمل الصّالح، والتّواصي بالحقّ والتّواصي بالصّبر.

الآية رقم (3) - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ

العقيدة هي مبدأٌ يترسّخ في النّفس ويستقرّ في الوجدان وينعقد في القلب، وأوضحنا سابقاً أنّ العقيدة خاصّةٌ بأمرٍ غيبيٍّ لا دخل لها في المحسوسات، نؤمن بالله سبحانه وتعالى  وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرّه، كلّها غيبيّاتٌ، والإيمان بهذه الغيبيّات هو ما يُميّز المؤمن عن الكافر، أمّا المحسوسات فيستوي بها الجميع المؤمن والكافر؛ لأنّ الإنسان يؤمن بما يراه ويقع تحت إدراكه، وليس معنى أنّي لا أرى الشّيء ولا أدركه أنّه غير موجودٍ، يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذّاريات]، فنحن أمام أمرٍ عظيمٍ وجليلٍ هو إصلاح العقيدة.

﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: العقيدة لا تكون إلّا في الأمور الغيبيّة، وأوّل هذه الأمور الغيبيّة أن نؤمن بالله سبحانه وتعالى ، وهو الأصل في الإيمان، فإذا آمنّا بالإله الواحد الأحد الفرد الصّمد، وأنّه موجودٌ له صفات الجلال والكمال والقدرة والحكمة وإليه المرجع والمآل، بعد ذلك تأتي باقي الغيبيّات الّتي يكون مصدرها الإله الّذي آمنّا به، فالعقيدة نوعان: عقيدةٌ في الأساس والأصل والقمّة، وهي الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ثمّ نوعٌ آخر يترتّب على الإيمان بالله سبحانه وتعالى ، وهو ما أخبرك الله سبحانه وتعالى به، افعل كذا ولا تفعل كذا، فالمصدر الّذي أستمدّ منه العون والقوّة وأواجه به صعوبات الحياة كلّها هو الإيمان بالإله الواحد الحقّ جلَّ جلاله ، وثقتي فيه سبحانه وتعالى ، فالأسباب تفنى وتخدع وتخون، ولن يبقى سندٌ إلّا المسبِّب، بينما الإيمان يُثري النّفس ويُغنيها، فيستقبل المؤمن أحداث الحياة بنفسٍ راضيةٍ مطمئنّةٍ إلى قضاء الله عزَّ وجل وقدره، لا يحزن إن أصابه مكروهٌ، ولا يغترّ بالنّعمة، يؤمن أنّ النّعمة والنّقمة امتحانٌ من الله سبحانه وتعالى ، هكذا تنتقل من الإيمان والعقيدة النّظريّة إلى ترجمتها إلى عملٍ صالحٍ.