تفسير سورة التكاثر

ذكر الله سبحانه وتعالى في السّورة السّابقة القارعة بأوصافها الّتي أرادها سبحانه وتعالى وما سيحدث فيها من وزن الأعمال بشكلٍ دقيقٍ بمنتهى العدل، وأنّ كلّ إنسانٍ يلقى جزاء عمله، وإذا كانت المسألة هكذا فعلى العاقل أن يستقبل الأمور بما تستحقّه، لذلك جاءت سورة (التّكاثر) بعد سورة (القارعة) لتقول لنا:

الآية رقم (1) - أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ

﴿أَلْهَاكُمُ﴾: شغلكم، واللّهو: الانصراف إلى ما يدعو إليه الهوى.

أي شغلكم التّكاثر بالأموال والأولاد وغير ذلك من المقاييس والموازين، (تكاثر) على وزن: (تفاعل)، هذه الصّيغة تدلّ على المشاركة في الفعل من طرفين، كما نقول: تقابل الفريقان فكلٌّ منهما في هذه الحالة فاعلٌ ومفعولٌ، فاعلٌ من جهةٍ، ومفعولٌ من جهةٍ أخرى، نقول: تشاجر زيدٌ وعمرٌو فالشّجار حدث من كلٍّ منهما، وكذلك التّكاثر، نقول: تكاثر القوم؛ أي كاثر بعضهم بعضاً، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ ؛ أي شغلتكم الـمُكاثرة بما أنتم فيه من نعيم الدّنيا، وكلّ إنسانٍ يُكاثر الآخر، يقول: أنا مالي أكثر من مالك، أو: ولدي أكثر من ولدك، أو: آبائي أكثر من آبائك، وينصرف المجهود ونُشغل أنفسنا بهذه الـمُكاثرة، لكنّ الله سبحانه وتعالى أورد المعنى العامّ، فلم يقل: (ألهاكم التّكاثر فيما تملكون)، أو: (ألهاكم التّكاثر فيما تطلبون)، لا بل بكلّ شيءٍ.

﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾: ألهاكم ما لا يعنيكم، وشغلكم ما لا يفيد عمّا يفيد.

كلمة: ﴿أَلْهَاكُمُ﴾ من الإلهاء، وهو أن يكون هناك شيءٌ يسيطر على فكر الإنسان فيجعل غير المطلوب منه أهمّ من المطلوب فيوجّه طاقته إليه، واللّعب قريبٌ في معناه من الإلهاء؛ لأنّه انشغالٌ بشيءٍ آخر، والحقّ سبحانه وتعالى  عندما تعرّض لمسألة اللّهو في القرآن الكريم جاء باللّهو بعد اللّعب، فقال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ [محمّد: من الآية 36]، إلّا في موضعٍ واحدٍ سبق اللّهو اللّعبَ، قال جلَّ جلاله : ﴿وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ﴾ [العنكبوت: من الآية 64]، ولم يقل الحقّ سبحانه وتعالى: (لعبتم)، وإنّما قال: ﴿أَلْهَاكُمُ﴾ ، فاللّهو إذا كان يُشغل الإنسان بأمرٍ تافهٍ عن أمرٍ مهمٍّ فهو حرام.

الآية رقم (2) - حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ

لها سبب نزولٍ، ولكنّنا نقول دائماً: نأخذ عموم اللّفظ لا خصوص السّبب، عن ابن بريدة قال: نزلت في قبيلتين من الأنصار في بني حارثة وبني الحرث، تفاخروا وتكاثروا فقالت إحداهما: فيكم مثل فلان وفلان، وقال الآخرون مثل ذلك، تفاخروا بالأحياء، ثمّ قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطّائفتين تقول: فيكم مثل فلان ومثل فلان، يشيرون إلى القبر، وتقول الأخرى مثل ذلك، فأنزل الله: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ

﴿حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾: أي ظللتم في هذه الغفلة واللّهو، حتّى وصلتم إلى المفاخرة بمن في القبور، لكنّ المعنى العامّ لها: شغلكم التّفاخر والـمُكاثرة بالمال والأولاد حتّى جاء الأجل، وليس بعد الموت من مستعتبٍ، والمعنيان كلاهما صحيحٌ، فالغيب هنا أصبح يقيناً؛ لأنّ الإنسان أصبح في القبر، ولا يمكنه العودة إلى الدّنيا، لذلك قيل: “لا أرى يقيناً أشبه بالشّكّ من يقين النّاس بالموت”، النّاس جميعاً موقنون أنّهم سيموتون، واستقراء الحياة أمامهم بالتّجربة يؤكّد ذلك، لكنّنا نرى أنّ النّاس يبقون في شكٍّ، متعلّقين بالحياة، لاهين عن الموت، لذلك يُعالج القرآن الكريم هذا الدّاء في الإنسان فيقول:

الآية رقم (3) - كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ

﴿كَلَّا﴾: ردعٌ وزجرٌ، لهذا الّذي يحدث منكم من اللّهو والتّكاثر بالأموال والأولاد والمتاع والجاه في هذه الدّنيا حتّى متّم وصرتم في المقابر، يقول عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: “يا ساكن القبر غداً… ما الّذي غرّك من الدّنيا؟ هل تعلم أنّك تبقى أو تبقى لك؟ جاء الأمر من السّماء … جاء غالب القدر والقضاء… جاءه من الأجل ما لا يُمتنع منه، هيهات هيهات!”.

﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾: المولى سبحانه وتعالى يبيّن بأنّه سلوكٌ خاطئٌ لا يليق بالعاقل الّذي يتدبّر الأمور ويرتّبها على مشاهدها بشكلٍ طبيعيٍّ، لذلك قال: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ ، كأنّهم يشكّكون ولا يكفيهم ما يرون، فالإنسان في القبر تُعرض عليه دار الجزاء، إمّا الجنّة وإمّا النّار، والقبر إمّا روضةٌ من رياض الجنّة، أو حفرةٌ من حفر النّار، لكنّه لا يدخل الجنّة أو النّار في القبر، وإنّما بعد البعث والحساب يدخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النّار النّار، فينتقلون إلى مرحلة حقّ اليقين.

الآية رقم (4) - ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ

وعيدٌ بعد وعيدٍ، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: كلا سوف تعلمون، ما ينزل بكم من العذاب في القبر، ﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾: في الآخرة إذا حلّ بكم العذاب، فالأوّل في القبر، والثّاني في الآخرة، والله أعلم.

الآية رقم (5) - كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ

لو تعلمون ما أمامكم علماً يقينيّاً يصل إلى القلوب، لما ألهاكم التّكاثر، ولبادرتم إلى الأعمال الصّالحة.

الآية رقم (6) - لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ

﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾: أي ترونها عندما تكونون في القبر.

الآية رقم (7) - ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ

أي عند دخولكم فيها؛ لأنّ القبر هو المرحلة الأولى، والثّانية لها مُدّةٌ أطول ستأتي، لكن بعد الموت عند مرحلة عين اليقين، فالعلم اليقينيّ هو فيما أخبرَكم به المولى سبحانه وتعالى في الحياة الدّنيا، وينقل الله سبحانه وتعالى لنا الصّورة العلميّة الصّادقة لها، هذا ما سمّاه علم اليقين، أمّا في الآخرة فسوف نراها عين اليقين، صورةٌ عينيّةٌ ستتحقّق عندما نمرّ على الصّراط.

الآية رقم (8) - ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ

﴿النَّعِيمِ﴾: ما يُتلذّذ به في الدّنيا من الصّحة والفراغ والطّعام والشّراب وغير ذلك.

في هذا اليوم سيسأل المولى سبحانه وتعالى  الإنسانَ عمّا أخذ من نِعَمٍ في هذه الحياة، وحقّ النّعمة أن تحمد الـمُنعِم وتشكره عليها، حتّى لا تُسأل عنها يوم القيامة، والله سبحانه وتعالى سائل كلّ ذي نعمةٍ فيما أنعم عليه، عن عبد الله بن الزّبير ابن العوّام عن أبيه قال: لـمّا نزلت: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ ، قال الزّبير: يا رسول الله، فأيّ النّعيم نسأل عنه، وإنّما هما الأسودان التّمر والماء؟ قال: «أما إنّه سيكون»([1])، فالنّعيم صحّة الأبدان والأسماع والأبصار، يسأل الله سبحانه وتعالى  عباده يوم القيامة فيما استعملوه وهو أعلم بذلك، قال مُجاهد: كلّ لذّات الدّنيا نعيمٌ، فأوّل ما يُسأل عنه يوم القيامة أن يُقال له: ألم نصحّح لك جسمك؟ ونرويك من الماء البارد؟

 


([1]) سنن التّرمذيّ: كتاب تفسير القرآن، سورة التّكاثر، الحديث رقم (3356).