الآية رقم (1-2-3) - الْقَارِعَةُ - مَا الْقَارِعَةُ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ

﴿الْقَارِعَةُ﴾: من أسماء يوم القيامة، سُمِّيت بذلك؛ لأنّها تقرع القلوب والأسماع بأهوالها الشّديدة، من القرع: وهو الضّرب بشدّةٍ.

يتحدّث المولى سبحانه وتعالى عن مرحلةٍ أخرى من مراحل الحساب، ولم تأت بعد مسألة الجزاء، فالحساب سيكون على مراحل، حيث تتطاير الصّحف ويقرأ كلّ إنسانٍ صحيفة أعماله، ليجد أنّ ما فيها مُطابقٌ تماماً لما كان منه في الدّنيا، والحساب هنا لا يعني الجزاء، وإنّما مجرّد البيان لما كان والإدانة، ثمّ تأتي مرحلة وزن الأعمال، ثمّ الجزاء إمّا الجنّة وإمّا النّار. ويستهلّ المولى هذه السّورة بالاستفهام: ﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾ كرّرها ثلاث مرّاتٍ، القارعة الأولى فيها إبهامٌ يحتاج إلى بيانٍ، يدعو الإنسان لئن يسأل: ما القارعة؟ فهي أمرٌ مبهمٌ يجب أن نسأل عنه، والسّؤال يتطلّب جواباً، يأتي قول الحقّ: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾، كأنّه يقول: الجواب ليس عندك أنت، بل نحن سنخبرك به أمام إبهامٍ ثمّ تهويلٍ: ﴿مَا الْقَارِعَةُ﴾، ثمّ بيانٌ لعِظَم المسؤول عنه: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾ ، المولى سبحانه وتعالى  كأنّه يعطينا الفرق بين المعنى اللّغويّ والمعنى الاصطلاحيّ، واللّفظ في اللّغة قد يُستعار للتّعبير عن معنىً آخر يختلف عن اللّغويّ، كما في كلمة (النّحو) مثلاً، فالنّحو في اللّغة: القصد والاتّجاه، نحن نقول: سرت نحو كذا، فلمّا قعّد علماء اللّغة القواعد استعاروا هذا اللّفظ للدّلالة على قواعد اللّغة، وأطلقوا على هذا العلم علم النّحو بحيث إذا قلنا: (النّحو)، لا ينصرف هذا اللّفظ إلّا إلى المعنى الاصطلاحيّ الجديد، وكذلك كلمة (الحجّ) لها معنىً في اللّغة ومعنىً في الاصطلاح، معناها اللّغويّ: القصد إلى شيءٍ معظّمٍ، أمّا في الاصطلاح فهو: القصد إلى بيت الله الحرام في وقتٍ معلومٍ لأداء شعائرَ معلومةٍ، وكذلك كلمة (الفقه)، وهكذا.

الآية رقم (4) - يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ

﴿كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾: كالفراش الـمُنتشر الـمُتفرّق في الكثرة والانتشار، والذّلة والاضطراب.

القارعة تحدث في يومٍ يكون النّاس فيه كالفراش المبثوث، ففي أوّل أمرهم يكونون كالفراش حين يموجون فزعين يخرجون من الأجداث، لا يهتدون إلى أين يتوجّهون، وقد خرجوا لتوّهم من قبورهم: ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ﴾ [القارعة]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ [المعارج]، فهم سراعٌ عند الخروج من أجداثهم، كالفراش المبثوث، وحين التّوجّه إلى الحشر يكونون كالجراد المنتشر، يقول سبحانه وتعالى: ﴿خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾ [القمر]، انظر إلى الفارق، اختار الله سبحانه وتعالى في المقام الأوّل الفراش، وهي حشراتٌ ذات أجنحةٍ هشّةٍ تتفتّت بين الأصابع وتتهشّم، هذا حال الموتى أوّل خروجهم من القبور، فهم في أضعف حالاتهم حيارى هائمين يموجون في بعضهم، وتجد الفراش يطير مُتداخلاً، أمّا الجراد فيطير في أسرابٍ منتظمةٍ، هذا هو الفرق، أوّل الخروج شيءٌ وبعده شيءٌ آخر.

الآية رقم (5) - وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ

﴿كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾: كالصّوف المندوف في خفّة سيرها وتبدّدها، حتّى تستوي مع الأرض.

الجبال أقوى شيءٍ ظاهرٍ في نظر الإنسان، فإذ بها تصير يوم القيامة كالصّوف المندوف، فهي ستتفتّت إلى ذرّاتٍ صغيرةٍ تتطاير وتتناثر في الهواء.

الآية رقم (6) - فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ

﴿ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾: رجحت حسناته على سيّئاته.

حساب الحقّ سبحانه وتعالى دقيقٌ عادلٌ، فالّذين ثقُلت كفّة أعمالهم الحسنة هم الفائزون المفلحون بالفردوس، أمّا الّذين باعوا أنفسهم للشّيطان وهوى النّفس فقد ثقلت كفّة أعمالهم السّيّئة فصاروا من أصحاب النّار.

ونلحَظُ أنَّ الحقَّ سبحانه وتعالى قالَ: ﴿مَوَازِينُهُ﴾بالجمع، ولـم يقل: (ميزانه)، لماذا؟ الجواب: لأنّه يمكن أن يكون لكلّ جهة عملٍ ميزانٌ، الصّلاة لها ميزانٌ، المال له ميزانٌ، الحجّ له ميزانٌ، ثمّ تُجمَع هذه الموازين كلّها.

فيقول المولى سبحانه وتعالى: من غلبت حسناته ذهب إلى الجنّة، فهو في عيشةٍ راضيةٍ، ومعنى ثقلت موازينه: أنّ الأعمال يصبح لها ثقلٌ وكثافةٌ ليُروا أعمالهم.

الآية رقم (7) - فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ

وصف الله سبحانه وتعالى العيشة بأنّها راضيةٌ، والمعروف في اللّغة وفي أعراف النّاس أنّ الرّضا يُنسب لأصحاب العقول والإرادة، لكنّ الله سبحانه وتعالى  عدَل عن الأسلوب الشّائع في لغات البشر إلى أسلوبٍ يناسب بلاغة كلامه وعظمة نعمه وأفضاله علينا، فإنّنا نلحظ مُرجِّحات الأسلوب الإعجازيّ القرآنيّ على أسلوب البشر، فالنّاس في الحياة الدّنيا يحبّون النّعيم وأسباب السّعادة، لكن ينغّص عليهم الخوف من فوات النّعمة وزوال السّعادة، هذا الشّعور يجعل الإنسان يعيش لحظات السّعادة الحاضرة وهو قلقٌ على المستقبل متوجِّسٌ منه، أيدوم هذا الحال أم لا؟ فكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يريد أن يقول لنا: إنّ هذا الشّعور الّذي يُقلق صاحب النّعمة في الدّنيا لا وجود له في الآخرة؛ لأنّ نعمة الآخرة تكون متعلّقةً بك، فهي لا تملك أن تزول عنك ولا أن تتركك، فهي مُسخّرةٌ تُلازمك وتعيش معك وتدوم لك دوام الرّاضي، والرّاضي عن الشّيء يحبّه ولا ينفكّ عنه، فاطمئنّ ولا تقلق، نعيم الجنّة دائمٌ مستمرٌّ لا يزول. وقد ذكرنا أنّ الإمام عليّاً كرّم الله وجهه لـمّا قرأ قول الحقّ: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا منْظَرِين﴾ [الدّخان]، قال: نعم تبكي وتفرح، وما دام أنّ الحقّ سبحانه وتعالى قرّر أنّ السّماوات والأرض لا تبكي على آل فرعون، فمعنى ذلك أنّها تبكي على فراق الـمُقابل وهو المؤمن، وإذا مات ابن آدم بكى عليه موضعان، موضعٌ في الأرض، وموضعٌ في السّماء، أمّا موضع الأرض فموضع السّجود، وأمّا موضع السّماء فهو الّذي يصعد إليه العمل، وهذا قمّة الرّضا.

بعض المفسّرين يُفسّرون ﴿رَاضِيَةٍ﴾بمعنى: (مرضيّة)، فهم لم يصلوا إلى بقيّة المعاني الـمُرادة لله سبحانه وتعالى في قرآنه، ولم يحصلوا على بلاغة كلام الله سبحانه وتعالى، لذلك ينبغي على من يُفسّر القرآن أن يغوص في أعماق هذه المعاني، وأن يستنبط ما في القرآن الكريم من كنوز البلاغة وفنون البيان، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ وصف العيشة بأنّها راضيةٌ وليس الشّخص.

الآية رقم (8) - وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ

﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾: رجحت سيّئاته على حسناته.

هذا إعجازٌ تعبيريٌّ، فمن خفّت موازين أعماله ورجحت سيّئاته على حسناته فأمّه هاويةٌ.

نحن أمام نوعين من البشر، أُناسٌ ثقُلت كفّة الخير في ميزان حسابهم، وأُناسٌ ثقُلت كفّة السّيّئات في ميزان حسابهم، فالميزان يثقل بالحسنات ويخفّ بالسّيّئات، وليس بالنّقود.

لنلحظ أنّ القسم العقليّ لوجود وزنٍ وموزونٍ يقتضي ثلاثة أشياء: أن تُثقّل كفّةٌ، وتخفّ الأخرى، أو أن يتساويان، لكنّ هذه الحالة غير موجودةٍ هنا في هذه السّورة.

الآية رقم (9) - فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ

﴿فَأُمُّهُ﴾: أمّه؛ أي مرجعه ومآله الّذي يؤول إليه، ومـأواه الّذي يأوي إليه، كما يأوي الطّفل إلى حضن أمّه.

﴿هَاوِيَةٌ﴾: الهاوية: اسمٌ من أسماء جهنّم، والعياذ بالله، يهوي فيها أهلها.

ثمّ هوّل هذا الأمر فقال:

الآية رقم (10) - وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ

كقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾ [القارعة]،  عظمة هذا الأسلوب تتجلّى في أنّه سبحانه وتعالى  غيّر الأمر الـمُفزع بعمليّةٍ نفسيّةٍ بأسلوبٍ قرآنيٍّ عظيمٍ، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: من الآية 21]، ﴿وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوُجُوهَ﴾ [الكهف: من الآية 29]، هنا يقول: ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾، ولم يقل: مصيره أو جزاؤه، بل جاء بلفظ الأمّ، وحين يسمع الإنسان هذه الكلمة يستشفّ العطف والحنان وطيب المعاملة، فالتّعبير القرآنيّ: ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾ تعبيرٌ دقيقٌ يجول في أنحاء النّفس الإنسانيّة بمعانٍ شتّى تُفزع الإنسان.

الآية رقم (11) - نَارٌ حَامِيَةٌ

في الآيات تقابلٌ يوضّح المعنى بين مَن ثقُلت موازينه ومَن خفّت موازينه، بين العيشة الرّاضية والنّار الحامية، وهذا التّقابل الإخباريّ بأمرٍ غيبيٍّ المقصود منه أن ينعم المؤمن نعمتين: الأولى: أن يعرف منزلته في الآخرة من رضا ربّه ورضا النّعمة الّتي تصاحبه، والثّانية: بأنّه يرى مصير الظّلمة والكفرة الـمُعاندين ينتهي إلى النّار الحامية، إذاً نعمةٌ في نفسه، ونعمةٌ في انتقام الله سبحانه وتعالى من خصمه.