الآية رقم (78) - فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً﴾: بزغَتِ الشّمس، وبزغ القمر: بدأ طلوعُه.
﴿قَالَ هَذَا رَبِّي﴾: ولم يقل: هذه ربّي، مع أنّ الشّمس مؤنّثة، انظروا إلى الدّقّة، أوّلاً: هذا تنزيهٌ من علامة التّأنيث، ثانيّاً: لأنّ الشّمس مؤنثٌ مجازيٌّ.
﴿هَذَآ أَكْبَرُ﴾: الشّمس أكبر من القمر.
﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾: عندما أفلت الشّمس وأفل الكوكب وأفل القمر قال إبراهيم عليه السَّلام: ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾، الشّمس والقمر والكواكب والأصنام الّتي صنعتموها لهم كلّها لا تساوي شيئاً، وهي تأفل ولا تضرّ ولا تنفع ولا تُعبد، هم ورثوا هذه العبادات عن آبائهم، فلا يمكن إخراج النّاس ممّا ألفوه إلّا بالحجّة والبرهان العقليّ والدّليل السّاطع، لهذا السّبب استخدم إبراهيم عليه السَّلام هذا الطّريق، طريق الحوار والنّقاش، والآن بعد أن أثبت بالحجّة بطلان ما يدّعون، أعلن تبرّؤه ممّا يُشركون.
الآية رقم (94) - وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾: أي كلّ فردٍ وحده؛ لأنّه عندما خُلق الإنسان أوّل مرّةٍ خُلق فرداً أو كما خلقناكم أوّل مرّةٍ جئتمونا من غير أن يكون معكم أموالٌ ولا أتباعٌ ولا أحسابٌ ولا أنسابٌ ولا مناصب ولا أيّ شيءٍ.
﴿وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ﴾: ما خوّلناكم إمّا من أولادٍ، وإمّا من أموالٍ، وإمّا من أتباعٍ، ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ﴾ [الشّعراء]، في هذه اللّحظات يأتي الإنسان فرداً أمام الله سبحانه وتعالى ليس له شفيعٌ، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء﴾، أين الّذين كنتم تستنصرون بهم؟ أين الّذين كنتم تعتزّون بهم؟ أين المال الّذي كنتم تنفقونه من أجل إقامة الظّلم بين النّاس أو سرقتهم أو الاعتداء عليهم وانتهاك حرماتهم؟ كلّ ذلك لن يشفع لكم إلّا العمل الصّالح.
﴿وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾: أي تقطّع الّذي كان يصل بينكم وبين أموالكم أو بين جاهكم أو بين أحسابكم أو بين أنسابكم.
﴿وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾: تاه وضاع.
الآية رقم (79) - إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾: أي توجّهت بكلّيّتي.
﴿لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾: أتى على خلق السّماوات والأرض؛ لأنّ خلق السّماوات والأرض أكبر من خلق النّاس.
﴿حَنِيفًا﴾: الحنيف: هو المائل عن الشّرك، والمائل عن الشّرك مستقيمٌ على الطّريق، لذلك اسمه حنيف؛ لأنّ عادة القوم كانت الإشراك.
﴿وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾: فأعلن إبراهيم عليه السَّلام التّبرّؤ من عبادة الأصنام والأوثان وما كان عليه قومه، وأنذر قومه من خلال الحجّة والبرهان والدّليل السّاطع، وأحرج القوم من خلال هذه الحوارات الّتي كانت تتمّ.
الآية رقم (80) - وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ
﴿وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ﴾: حاجّه: أي حاججه، والحِجاج: هو الجدل المبطل لرأي الآخر.
﴿قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ﴾: بعد أن تحدّث عن الكواكب وعن القمر وعن الشّمس.. وكيف أنّها لا تضرّ ولا تنفع، وبيّن لهم أنّه مؤمنٌ بالله تبارك وتعالى الّذي فطر السّماوات والأرض، وقدّم الحجّة والبرهان على ذلك، ردّ على قومه عندما جادلوه وناقشوه بالباطل: ﴿أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ﴾، أنتم تحاجّون في أمر الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
﴿وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا﴾: أي أنّهم خوّفوه.
﴿إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا﴾: لماذا استثنى هنا؟ والجواب: معنى هذا كأنّه يقول: بأنّكم تخوّفونني بالأدوات والوسائل، وقد يعتقد بعض النّاس أنّ الأسباب تفعل بمشيئتها، والواقع أنّ الأسباب تفعل بمشيئة الخالق سبحانه وتعالى، لذلك كان علماؤنا الأجلّاء يقولون: لا تقلق من تدابير البشر، فإنّ أقصى ما يستطيعون فعله معك هو تنفيذ إرادة الله سبحانه وتعالى فيك، أي لا تقلق من تدابير البشر؛ لأنّها لن تكون فاعلةً إلّا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.
﴿أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ﴾: أفلا تتعظون.
الآية رقم (81) - وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ﴾: كيف: للتّعجب.
﴿وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾: هناك تحديدٌ لمحل النّزاع، ما هي الغاية من الحجاج والنّقاش؟ هل الغاية فقط أن أنتصر عليك في الحجّة والبرهان؟ بالتّأكيد لا، فأنا أعرض وجهة نظر أو فكرةً معيّنةً وأنت تعرض الفكرة المضادّة، والمهمّ أن نصل إلى الحقّ، وليس المهمّ أن أنتصر أنا أو تنتصر أنت، المهمّ القضيّة الّتي نبحث عنها والّتي نتحاور من أجلها، فلذلك قال الخليل عليه السَّلام: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾، سلطان العلم، والعلم قضيّةٌ واقعيّةٌ تستطيع أن تدلّل عليها عقليّاً، هذا سلطان العلم والحجّة والبرهان.
﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾: هنا المساواة الّتي وضعها الخليل بينه وبين من يحاججه، والأمن: هو كلّ ما يتعلّق بسلام الإنسان الدّاخليّ والمجتمعيّ والأخرويّ، لذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدّنيا»([1]).
([1]) سنن التّرمذيّ: كتاب الزّهد، الحديث رقم (2346).
الآية رقم (82) - الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ
عن عبد الله رضي الله عنه قال: لـمّا نزلت هذه الآية: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ﴾، شقّ ذلك على النّاس وقالوا: يا رسول الله، فأيّنا لا يظلم نفسه؟ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنّه ليس الّذي تعنون! ألم تسمعوا ما قال العبد الصّالح: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: من الآية 13]، إنّما هو الشّرك»([1])، إذاً المقصود هو الإشراك بالله سبحانه وتعالى، والإشراك بالله سبحانه وتعالى ليس فقط أن تعبد صنماً أو قمراً.. الإشراك بالله سبحانه وتعالى أن تعتقد أنّ أحداً يضرّ وينفع، ويعطي ويمنع، ويصل ويقطع، ويخفض ويرفع، غير الله عزَّ وجلّ، الإنسان يشرك أحياناً هواه، قال تبارك وتعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الفرقان: من الآية 43].
﴿أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾: لأنّهم لم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ، أي أنّه إيمانٌ صافٍ خالصٌ، اعتقادٌ أنّ الله سبحانه وتعالى يملك مقادير الحياة والموت، والله جلّ وعلا لا غالب لأمره وسلطانه.
([1]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مسند المكثرين من الصّحابة، مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، الحديث رقم (3589).
الآية رقم (83) - وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾: إذاً حتّى الأنبياء جاؤوا بالحجج حتّى يقنعوا العقول؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى هو خالق العقل، والعقل هو مناط التّكليف، فهذا هو الاحترام الكبير للعقل البشريّ، لذلك نرى أنّ الله سبحانه وتعالى عندما خلق آدم عليه السَّلام: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة]، احتجّ بالعلم، والعقل هو مناط العلم والتّكليف، وهذا هو الإسلام الّذي يتحدّث عنه فلا يزايدنّ أحدٌ علينا بموضوع العلم والإيمان والعقل البشريّ، فهذا أمرٌ من أسس الشّريعة الإسلاميّة، وهو واضحٌ تماماً، وهنا قال سبحانه وتعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا﴾ أراد الله سبحانه وتعالى أن تؤمن بالعقل، بالعلم، بالحجّة، بالبرهان، لذلك أعطى تبارك وتعالى الأنبياء عليهم السَّلام الحجج والبراهين.
﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾: واستخدم الله سبحانه وتعالى هنا صفة العلم والحكمة؛ لأنّ الموضوع يتعلّق بالحجّة والعقل والبرهان والحكمة في وضع الأمور في نصابها وفي مكانها.
الآية رقم (84) - وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
يتابع المولى سبحانه وتعالى عن تكريمه لإبراهيم الخليل عليه السَّلام:
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ﴾: الله سبحانه وتعالى وهب له إسحاق وإسماعيل، لكنّ الله سبحانه وتعالى قال هنا: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ﴾ لماذا؟ الجواب: لأنّ يعقوب ابن ابنه أي حفيده الّذي جاء منه أنبياء بني إسرائيل، فمعظم الأنبياء الّذين جاؤوا بعد إبراهيم الخليل عليه السَّلام جاؤوا من نسل إسحاق وليس من نسل إسماعيل، بينما اُختصّ إسماعيل بنبيٍّ واحدٍ هو النّبيّ محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم فقط، أمّا كلّ الأنبياء الّذين سيأتي ذكرهم الآن جاؤوا من نسل يعقوب بن إسحاق.
﴿كُلاًّ هَدَيْنَا﴾: إسحاق عليه السَّلام كان نبيّاً، ويعقوب عليه السَّلام كذلك، لكن لكي لا يعتقد أحدٌ أنّ الهداية محصورةٌ بهم فقط، وأنّها بدأت من إبراهيم الخليل ومن أبنائه إسحاق ويعقوب، فقال: ﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ﴾، فمن قبل أيضاً أرسلنا بهدايتنا وبرسالتنا أنبياء آخرين، وعلى رأسهم نوح، فلم بدأ من عند نوح عليه السَّلام؟ الجواب: لأنّ البشريّة قد تعرّضت للفناء في الطّوفان الّذي حدث، فنوحٌ عليه السَّلام ومن نجا معه هم الّذين يتحدّث القرآن الكريم عنهم وعن الهداية.
الآية رقم (85) - وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ
﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ﴾: كلّهم من النّسل ذاته، وهنا هؤلاء الأنبياء الأربعة اجتمعوا بقضيّةٍ واحدةٍ، وهي الزّهد، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾.
الآية رقم (86) - وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ
﴿وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾: الملائكة من ضمن العالمين، إذاً الأنبياء مفضّلون على الملائكة.
الّذي يجمع هؤلاء الأربعة: إسماعيل واليسع ويونس ولوط عليهم السَّلام، هو أنّهم لم يبق لهم أتباعٌ.
ذكر المولى سبحانه وتعالى هنا ثمانية عشر نبيّاً، وجاء في مواضع أخرى: آدم وإدريس وهود وذو الكفل وصالح وشعيب ونبيّنا محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم، هذه كلّ أسماء الأنبياء الواردة في كتاب الله عزَّ وجلّ، وعددهم خمسةٌ وعشرون نبيّاً.
الآية رقم (87) - وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ﴾: أي أنّ الله سبحانه وتعالى جعل هذا الصّلاح في آبائهم وذرّيّتهم وإخوانهم.
﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ﴾: قرّبناهم.
﴿وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾: صراط الله سبحانه وتعالى وهو الإسلام، والإسلام كما قلنا: هو الاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى، وكلّ الأنبياء جاؤوا بالإسلام بمعناه العامّ، وليس بشريعته، أمّا بشريعته فجاء به النّبيّ محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم، ﴿وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أنعم الله سبحانه وتعالى على هؤلاء الأنبياء بأنّهم كانوا هم الهداة الّذين يهدون البشريّة إلى هذا الصّراط، والصّراط المستقيم هو أقصر طريقٍ يوصل إلى الغاية، والغاية هي الوصول إلى رضوان الله سبحانه وتعالى وإلى جنّات الخلد، نردّد في كلّ صلاةٍ: ﴿اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ [الفاتحة]، صراط الّذين أنعم الله سبحانه وتعالى عليهم من النّبيّين والصّديقين والشّهداء والصّالحين.
الآية رقم (88) - ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
﴿ذَلِكَ هُدَى اللّهِ﴾: أي ما مرّ هو هدى الله سبحانه وتعالى، وقلنا: بأنّ الهداية لها نوعان: إمّا هداية دلالةٍ، أو هداية معونةٍ، هداية الدّلالة كُلّف بها الأنبياء عليهم السَّلام، فهُدى الله سبحانه وتعالى هو الرّسالات السّماويّة، والبلاغ عن الله سبحانه وتعالى الّذي كُلّف به الأنبياء عليهم السَّلام.
﴿يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ﴾: قد تقول: لم يشأ الله سبحانه وتعالى أن يهديني، الله سبحانه وتعالى لم يشأ عندما لم تختر، وهو ترك لك الخيار ووضع لك مشيئةً، لو لم يشأ لم تكن لك مشيئةٌ، ولأجبرك على الاختيار، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس]، والإنسان يُحاسَب على اختياره، ولا يُحاسَب على علم الله سبحانه وتعالى باختياره، وهذا هو مناط التّكليف، ومناط الثّواب والعقاب، وهو واضحٌ للنّاس جميعاً، وأمرنا الله سبحانه وتعالى أن نأخذ بهذا الطّريق ولكنّنا نحن اخترنا الطّريق الآخر، لذلك: ﴿يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ﴾، فمشيئة الله سبحانه وتعالى بأن جعل لك مشيئةً، ولو أراد سبحانه وتعالى لما جعل لك مشيئةً.
﴿وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾: فكلّ عملٍ مع الإشراك لا يغني.
الآية رقم (89) - أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ
﴿أُوْلَئِكَ﴾: أولئك الأنبياء عليهم السَّلام الّذين ورد ذكرهم سابقاً.
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾: منهم من آتاه الله سبحانه وتعالى الكتاب، كسيّدنا موسى عليه السَّلام آتاه الله سبحانه وتعالى التّوراة، وسيّدنا عيسى عليه السَّلام آتاه الإنجيل، وسيّدنا داود عليه السَّلام آتاه الزّبور، وسيّدنا إبراهيم عليه السَّلام آتاه الصُّحُف.
﴿وَالْحُكْمَ﴾: وهما سليمان وداود عليهما السّلام.
﴿وَالنُّبُوَّةَ﴾: وهم بقيّة الأنبياء عليهم السَّلام.
﴿فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء﴾: من هؤلاء؟ هم مشركو الجزيرة العربيّة، وهم اليهود الّذين حاربوا وناصبوا النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم العَداء، فإن يكفروا بهذه الرّسالات السّماويّة، وبرسالتك يا محمّد، ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ﴾: قال العلماء: هم الأنصار أهل المدينة المنوّرة والمهاجرون الّذين هاجروا مع النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، وهم ليسوا كافرين بكلّ هذه الرّسالات السّماويّة؛ لأنّهم آمنوا بالنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وبرسالته، هذه الرّسالة الّتي وحّدت الرّسالات جميعها.
الآية رقم (74) - وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
أراد الله سبحانه وتعالى أن يحاجج القوم الّذين يعدّون أنفسهم أنّهم ينتسبون إلى إبراهيم عليه السَّلام، وأن يسلّي قلب النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويضع الحجّة على هؤلاء القوم الّذين كانوا يعبدون اللّات والعُزّى والأصنام في ذلك الوقت، فقال جلّ وعلا: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾: عندما تجد كلمة (إذ) أي حين، ظرف زمانٍ، أي اذكر يا محمّد الزّمن الّذي كان فيه إبراهيم.
﴿لأَبِيهِ آزَرَ﴾: لماذا ذكر القرآن الكريم اسم الأب؟ وعادةً لا يذكر القرآن الكريم أسماءً في الآيات إلّا إذا كان هناك مدلولٌ معيّنٌ بالنّسبة لهذه الأسماء، ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ﴾ [آل عمران: من الآية 35]، ﴿قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ﴾ [يوسف: من الآية 51]، ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ﴾ [القصص: من الآية 9]، هنا حدّد اسم الأب، ونجد بأنّ النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول في الحديث: «لم أزل أنقل من أصلاب الطّاهرين إلى أرحام الطّاهرات»([1])، فكيف يكون والد إبراهيم عليه السَّلام من عبدة الأصنام والأوثان، والقرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التّوبة: من الآية 28]، فوالد إبراهيم عليه السَّلام يجب أن يكون موحّداً، توقّف العلماء عند هذه الآية، فوجدوا أنّ اسم الأب يطلق في القرآن الكريم على الجدّ وعلى جدّ الجدّ وعلى الأب وعلى العمّ أيضاً، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة]، يعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم جدّ الجدّ، وإسحاق الجدّ، ويعقوب هو الأب، لكن ذُكر بينهم إسماعيل، وهو عمّ يعقوب، وأخو إسحاق، فإذاً العمّ يطلق عليه اسم الأب في القرآن الكريم، وقد قال السّادة العلماء: بأنّ القرآن الكريم عندما بيّن الاسم آزر، فالمقصود منه عمّ سيّدنا إبراهيم عليه السَّلام الّذي ربّاه، أمّا والد سيّدنا إبراهيم فاسمه تارخ وليس آزر، وقد كان في كنف عمّه الّذي ربّاه؛ لأنّ والده كان ميّتاً، ففي اللّغة العربيّة مثلاً عندما يطرق شخصٌ ما الباب ويفتح له طفلٌ يقول له: نادِ أباك، ولا يقول له: نادِ أباك أحمد؛ لأنّه عندما يسمّي الاسم يقصد غير الأب، هو يعرف أنّ أباه اسمه أحمد، إذاً يقصد عمّه.
الآية رقم (75) - وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ
الملكوت صيغة مبالغةٍ للمُلك، مثل رحموت صيغة مبالغةٍ من الرّحمة، الـمُلك دائماً يتعلّق بالأشياء الظّاهرة الّتي لا تغيب عنك، أمّا الملكوت فهو عالم الغيب، فعندما قال سيّدنا إبراهيم عليه السَّلام لقومه وأبيه آزر: إنّكم تضلّون الطّريق في الغاية الموصلة، أراه الله سبحانه وتعالى وأطلعه على ملكوت السّماوات والأرض، أي ما يتعلّق بعالم ما وراء الأسباب، وقد تعرّض سيّدنا إبراهيم للكثير من الابتلاءات، ولكنّه كان يؤمن إيماناً مطلقاً بعالم ما وراء الأسباب، فعندما أُلقي في نيران النّمرود اعترضه جبريل عليه السَّلام: “هل لك من حاجةٍ يا إبراهيم؟”، فقال له: “أمّا لك فلا، وأمّا إلى ربّي فعلمه بحالي يكفي عن سؤالي”، فجعل الله سبحانه وتعالى النّار برداً وسلاماً عليه.
الملكوت كما ذكرنا هو العالم الغائب عنّا، والله سبحانه وتعالى يدلّ بالشّيء الظّاهر على الشّيء الغائب، فعندما يتحدّث عن الموت، وهو شيءٌ غائب، يضرب المثال بالنّوم: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الزّمر]، ويقول صلَّى الله عليه وسلَّم: «والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، وإنها الجنّة أبداً أو النّار أبداً»([1]). دائماً عالم الملكوت يُقَرَّب بما هو في عالم الـمُلك.
([1]) الرّحيق المختوم: المرحلة الثّانية: الدّعوة جهراً، المجلّد الأوّل، ص 59.
الآية رقم (60) - وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ﴾: لماذا سمّى المولى سبحانه وتعالى النّوم وفاة؟ وهل قانون النّوم هو ذاته قانون الوفاة؟ وما هي العلاقة بين النّوم والوفاة؟ الجواب: أوّلاً لنفهم ما هو النّوم، النّوم ليس عمليّةً اختياريّةً من الإنسان، بدليل أنّ الله سبحانه وتعالى إذا سلّط هموماً على بعض النّاس فإنّهم لا يستطيعون النّوم، إذاً النّوم عمليّةٌ قصريّةٌ خلقها الله سبحانه وتعالى في الإنسان لتردعه عن الحركة، أمّا الوفاة فهي خروج الرّوح من الجسد، وكأنّ الله سبحانه وتعالى يقول لنا: إيّاكم أن تظنّوا أنّ وجود الرّوح في الجسد هو الّذي يعطي للإنسان الحياة والحركة والتّصرّف، إنّي سأحتفظ بالرّوح في الجسد، ولن يستطيعَ الجسدُ التّصرّف الاختياريّ، فعند النّوم لا تستطيع أن تتصرّف اختياريّاً، فلا تحرّك يدك ولا قدمك ولا تقوم بأيّ فعلٍ باختيارك، إذاً النّوم نعمةٌ من الله سبحانه وتعالى، ولذلك إن أردت أن تنام فذلك ليس بمقدورك، ولكنّه بمقدور الحقّ سبحانه وتعالى، يقول العلماء: النّوم ضيفٌ إذا طلبته أتعبك، وإن طلبك أراحك، النّوم آيةٌ كاملةٌ بمفردها، ولا يأتي النّوم فقط باللّيل، وإنّما قد يكون بالنّهار؛ لأنّ هناك أناساً يعملون في اللّيل، وفي النّوم نرى أحلاماً وألواناً، ولكن بماذا نرى الألوان والأحلام؟ العين مغلقةٌ فكيف نرى؟ هناك قانونٌ للنّوم يختلف عن قانون اليقظة، عندما نقوم بفعلٍ أو بحركةٍ نحتاج إلى زمنٍ، بينما أثناء النّوم نسافر إلى أقصى الأرض ونعود، ونقوم بعمليّاتٍ كثيرة ولا نستغرق أكثر من سبع ثوانٍ فقط، فنحن نخرج من قانون الزّمان أيضاً، وهذا يدلّنا أنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يبيّن لنا بأنّ للنّوم قانوناً، وهو يقرّب إلينا الأمر، فقد ترك الرّوح في الجسد، وعطّل الحركات الاختياريّة الّتي نفعلها حال اليقظة، كتحريك اليد، فهذه حركةٌ اختياريّةٌ وليست حركةٌ اضطراريّةٌ، بينما دقات القلب حركةٌ اضطراريّةٌ لا نستطيع أن نتحكّم بها، إذاً سمّى الحقّ سبحانه وتعالى النّومَ وفاةً، وسمّى الاستيقاظ بعثاً؛ لذلك قال النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، وإنها الجنّة أبداً أو النّار أبداً»([1]).
الآية رقم (76) - فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ
﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾: جنّ: ستر، أي ستره اللّيل بظلامه.
﴿رَأَى كَوْكَبًا﴾: الكوكب هو الّذي يُنار من غيره، أمّا النّجم فمضيءٌ من ذاته، وهذا هو الفارق بينهما، فالقمر كوكبٌ والشّمس نجمٌ، والإضاءة تأتي من الشّمس والقمر يعكسها.
﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾: أي غاب.
﴿قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾: طالما غاب فهذا ليس ربّاً.
قال المستشرقون: أنتم تقولون: إنّ إبراهيم كان يُنكر عليهم عبادة الأصنام، وهو يقول عن الكوكب: هذا ربّي، بدليل هذه الآية، فما هذا التّناقض؟! بالتّأكيد لا يوجد تناقضٌ، فهم لا يعرفون أساليب استخدام اللّغة العربيّة، مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدّخان]، هو يعذّبه ويقول له: أنت العزيز الكريم، فهل هو عزيزٌ كريمٌ؟ الجواب: لا، فسيّدنا إبراهيم عليه السَّلام يستنكر عقليّاً قولهم: هذا ربي! لأنّهم هم من يعبدون الكواكب والشّمس والقمر، وعندما أفل قال: لا أحبّ الآفلين، هل من المعقول أن يكون هذا ربّي؟! هذا هو المعنى باللّغة العربيّة، وإبراهيم عليه السَّلام كان يعلم بأنّ الكوكب سيأفل، فعندما أفل قال: هل يعقل أن يكون هذا ربّي؟ فهو إذاً نقاشٌ عقليٌّ، وحجّةٌ وبرهانٌ على قومه، وليس معنى هذا أنّ سيّدنا إبراهيم كان متردّداً.
الآية رقم (61) - وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ
﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ﴾: أي المتحكّم بقدرةٍ فائقةٍ.
﴿فَوْقَ عِبَادِهِ﴾: الفوقيّة ليست الفوقيّة المكانيّة، وإنّما هي فوقيّة قدرة وفوقيّة علوّ، والحمد لله أنّه القاهر فوق عباده، فعندما يقهر إنسانٌ إنساناً فهناك إلهٌ قاهرٌ فوق عباده يُلجأ إليه، وما دام هو قاهر سبحانه وتعالى فكلّ ما سواه مقهورٌ له، كيف؟ الجواب: الله سبحانه وتعالى أوجد الوجود وقهره، فقهر الغنى فأفقر، وقهر الفقر فأغنى، وقهر الصّحّة فأمرض، وقهر المرض فشفى.. كلّ شيءٍ في الوجود مقهورٌ لله سبحانه وتعالى، حتّى الرّوح هي مقهورةٌ تُفارق الجسد فيموت الإنسان.
﴿حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ﴾: وكأنّ الموت هو الّذي يجيء، لذلك يقول القرآن الكريم: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ [الجمعة: من الآية 8]، أنتم تفرّون منه إلى الأمام، وهو ملاقيكم من الأمام، أبهم الله سبحانه وتعالى زمان ومكان الموت بالنّسبة للإنسان، وقد قيل:
هَبْ أنّك قد ملكت الأرض طُرّاً
أليس غداً مصيرك جوف قبرٍ
|
|
ودانَ لك البلاد فكان ماذا؟!
ويحثو التّرب هذا ثمّ هذا؟!
|
الآية رقم (77) - فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ
عمليّاً هو يستدرج قومه عقليّاً، رأى القمر فقال: هذا ربّي؛ لأنهم صنعوا أصناماً للشّمس وللقمر والكواكب، صنعوها؛ لأنّها تغيب.
﴿قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾: وهذا دليلٌ على ما أقول، انظروا إلى دقّة الكلام في القرآن الكريم، فهو يؤمن بالله سبحانه وتعالى، لكنّه في عمليّة نقاشٍ، ويستنكر أن يقول القوم: بأنّ القمر هو ربّهم، هذا معنى الآية، وليس معناها أنّه متردّدٌ، تارةً يقول: القمر، وتارةً يقول: الكوكب، ثمّ يقول: الشّمس. وعندما قال: ﴿قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ وكأنّه يخاطبهم: بأنّكم تحتاجون إلى إمدادات الله سبحانه وتعالى، وإلّا فإنّكم ستضلّون الطّريق ولن تصلوا إلى معرفة الخالق سبحانه وتعالى.
الآية رقم (62) - ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ
﴿ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ﴾: أي إنّهم كانوا من الله سبحانه وتعالى إيجاداً ثمّ ردّوا إليه حساباً، ثواباً أو عقاباً.
﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾: يحسب لكلّ إنسان، ويحاسب كلّ إنسان على عمله، نجد أنّ النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقةٌ جاريةٌ، وعلمٌ يُنتَفع به، وولدٌ صالحٌ يدعو له»([1])، وكأنّ العمل يبقى كظاهر نصّ الحديث، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ ]النّجم[، والإنسان يُحاسب كما قال سبحانه وتعالى عن نفسه: ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾، فهل يُحاسب النّاس على أعمالهم؟ وعندما يموت الإنسان لا ينقطع عمله ويبقى العمل؟ هكذا يقول النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فهل هناك تعارضٌ بين النّصّ القرآنيّ ونصّ الحديث النّبويّ؟ والجواب: الّذي لا يعرف أصول التّفسير، ولا علوم الحديث النّبويّ الشّريف، ولا علوم اللّغة العربيّة لا يمكن له أن يتصدّى لتفسير كتاب الله سبحانه وتعالى، ولا أن يعرف فقه التّفسير والدّلالات الّتي تأتي، صحيحٌ أنّ الله سبحانه وتعالى قال: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ ]النّجم[، لكنّ النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يخالف النّصّ القرآنيّ؛ لأنّنا إذا قرأنا الحديث: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقةٌ جاريةٌ، وعلمٌ يُنتَفع به، وولدٌ صالحٌ يدعو له»، الصّدقة الجارية هي من عمل الإنسان قبل أن يموت، والعلم الّذي يُنتفع به أليس هو العلم الّذي اكتسبه في حياته؟ والولد الصّالح أليس من تربيته؟ فإذاً هو من عمله، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النّجم]، إذاً لا يوجد تعارضٌ ما بين الحديث النّبويّ وما بين صريح القرآن الكريم.
([1]) سنن التّرمذيّ: كتاب الأحكام، باب في الوقف، الحديث رقم (1376).