الآية رقم (4) - وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ

﴿وَامْرَأَتُهُ﴾: هي من سادات قريشٍ، وكنيتها: أمّ جميلٍ، أروى بنت حربٍ بنت أميّة، أخت أبي سفيان.

ينتقل الحديث إلى زوجة أبي لهبٍ، حيث كانت لها منزلةٌ بين قومها، ولكنّها لم تكتفِ بدور زوجها في محاربة الرّسول الكريم ودعوته، بل لعبت دوراً كبيراً في مُصادمة الدّعوة وإيذاء النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، معتمدةً بذلك على مال زوجها وعلى أخيها الّذي كان من سادة القوم، وعزّ عليها إلّا أن تقوم هي بالذّات بالحقد والحسد للنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾: قال العلماء في تفسير هذه الآية: إنّها على الحقيقة، فقد كانت تحمل الحطب وترميه في طريق الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم وتؤذيه به، وكان أبو لهبٍ جاراً للرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وقال بعض العلماء: إنّ الحطب هنا كنايةٌ عن النّميمة، فكانت أروى بالفعل تمشي بين قومها بالنّميمة، وكأنّها تحمل الحطب الّذي تحرق به نفسها والنّاس من حولها، وقد كانت مشهورةً أيضاً بين القوم بالحسد والحقد والنّميمة، وهي من أهمّ أسباب إيقاد نار العداوة بين النّاس.

الآية رقم (2) - لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ

﴿لَا﴾: لا حالاً ولا في المستقبل، وسبب نزول هذه السّورة أنّ كفّار قريش عرضوا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى  سنةً، وهو يعبد آلهتهم سنةً، أو قالوا: تسجد لأصنامنا مرّةً ونحن نسجد لإلهك؛ أي تقسيم العبادة في الزّمن، فالمسألة متعلّقةٌ بالعبادة، والعبادة هي الأصل الأصيل في العقائد، وليست من التّشريعات الّتي يَطرأ عليها التّغيير بحسب الزّمان والمكان من قومٍ إلى قومٍ، والأمر بالعبادة لله وحده لا شريك له، أمرٌ يتّفق عليه الجميع من لدن آدم عليه السَّلام  إلى خاتم الرّسل :، ولا تتغيّر بتغيّر الظّروف والأحوال.

الآية رقم (5) - فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ

﴿فِي جِيدِهَا﴾: الجيد: العنق وموضع القلادة منه.

﴿مِنْ مَسَدٍ﴾: من ليفٍ خشنٍ، مُحكم الفتل والجدل.

والعرب تستخدم هذا اللّفظ في موضع المدح وذكر المحاسن، أمّا هذا الجيد فزينته ومكان قلادته حبلٌ من مسدٍ؛ أي ليفٍ، واللّيف بطبيعته خشنٌ فما بالك حينما يفتل فتلاً شديداً ويصير حبلاً يلفّ العنق؟!

لنتأمّل هذه السّورة وما تحمله من المهانة والذّلّة، فبعد المكانة والعزّة في قومها تصير إلى هذا الحال، وكأنّها أخذت الجزاء من جنس العمل، وكأنّ الحبل الّذي كانت تعقد به حزمة الحطب لتؤذي به الرّسول الكريم انتقل إلى عُنُقها فطوّقه، وتحمل أيضاً الإيقاع التّصويريّ، فنقف مثلاً عند كلمة: ﴿لَهَبٍ﴾ ، أبو لهبٍ كان اسمه عبد العُزّى، لكنّه كان أحمر الوجه كأنّه نارٌ ملتهبةٌ، فسمّوه أبا لهبٍ، ولم يختلف جزاؤه عن هذه الصّورة: ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾، كذلك زوجته: ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ ، كان جزاؤها: ﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾، وكلمة التّبّ: تعني القطع بشدّةٍ، فهي أشبه بالشّدة الّتي فُتل بها الحبل من مسدٍ، فالجمل والألفاظ متجانسةٌ منتظمةٌ مع أداء المعاني الـمُرادة في توافقٍ مُعجزٍ وبيانٍ بديعٍ.

الآية رقم (3) - وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ

الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم يلتزم بالبلاغ عن الله سبحانه وتعالى بهذا اللّفظ، قال لهم: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ هذا الحكم ليس من عند محمّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنّما بلاغٌ من الله سبحانه وتعالى.

﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ تعني في الحال لا من جهتي ولا من جهتكم، فلا مجال للتّلاقي أو التّفاهم؛ لأنّ منهجكم الاعتقاديّ والتّصوّر للألوهيّة مختلفٌ عن منهجي، منهجكم من عند أنفسكم ومنهجي من عند الله سبحانه وتعالى، لذلك لا يمكن أن نلتقي في منتصف الطّريق؛ لأنّ الالتقاء في منتصف الطّريق يكون بين أغيار النّاس أمثالكم، أمّا المنهج الإلهيّ فلا يمكن أن نلتقي مع من يُناقضه ويناقض أساسه، والله سبحانه وتعالى لا يتغيّر من أجل النّاس، لكن النّاس يجب أن يتغيّروا من أجل الله عزَّ وجل.

الآية رقم (1) - قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ

كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقرأ: سورة (الكافرون) في الرّكعة الأولى، وسورة (الإخلاص) في الثّانية، في سنّة الفجر، وفي سنّة الضّحى، وفي سنّة المغرب، وكذلك في صلاة المغرب ليلة الجُمُعة، وفي الصّبح يوم السّفر؛ ذلك لأنّ سورة (الكافرون) وسورة (الإخلاص) يكوِّنان معاً حقيقة التّوحيد الخالص؛ سلب الألوهيّة من غير الله سبحانه وتعالى، وإثباتها لله سبحانه وتعالى وحده، فقوله: ، ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون] سلبٌ، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ إيجابٌ، فكلمة التّوحيد عبارةٌ عن سلبٍ في: (لا إله)، وإيجابٌ في: (إلّا الله)، والإيجاب يأتي بعد السّلب؛ لأنّ الأصل في القاعدة الشّرعيّة: (درء المفاسد مقدّمٌ على جلب المصالح)، ولكلمة التّوحيد: (لا إله إلّا الله) أحوالٌ وأسرارٌ مع العارفين بالله سبحانه وتعالى ، فقد كان أحدهم يسأل الله جلَّ جلاله أن يُبقيَ عمره حتّى يكملها، مخافة أن يموت وهو يقول: (لا إله)؛ أي قبل أن يقول: (إلّا الله)، هذا من شدّة حرصهم عليها وخوفهم من مُباغتة الموت، وقال أحدهم: “العبادة تبدأ بـ (لا إله إلّا الله)”؛ أي هذه هي البداية العامّة.

﴿هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾: فالأحد تبارك وتعالى هو الّذي أخبرنا هذا الخبر، ليس له شريكٌ ولا مُنازعٌ يُنازعه هذا الحُكُم أو يردّه عليه، جاءت سورة (الإخلاص) تؤكِّد أنّ الحكم على أبي لهبٍ وامرأته حمّالة الحطب حكمٌ لا ينقضي.

الآية رقم (4-5) - وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ - وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ

أي في المستقبل، فلا أمل لاستئناف المفاوضات حول هذا الافتراق في الحال أو في المستقبل، فنفى الإيمان عنهم حتّى في المستقبل؛ لأنّهم سيموتون على هذه الحال.

الآية رقم (6) - لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ

فهؤلاء الّذين كانوا يُفاوضون الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم سيأتي من أصلابهم من يؤمن، كما بشّرت بذلك سورة (النّصر) الّتي جاءت بعد هذه السّورة، فبشّرت بأنّ النّاس سيُدخلون في دين الله سبحانه وتعالى أفواجاً، ومنهم أبناء هؤلاء الكفّار وأحفادهم، وهذا يعني أنّ معسكر الكفر لن يبقى بمواجهة معسكر الإيمان طوال الوقت؛ لأنّ الدّين دينٌ واحدٌ.

عن فروة بن نوفل عن أبيه: أنّ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام قال لنوفل: «اقرأ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ثمّ نَم على خاتمتها، فإنّها براءةٌ من الشّرك»([1]).

 


([1]) سنن أبي داوود: كتاب الأدب، باب ما يقول عند النّوم، الحديث رقم (5055).

الآية رقم (5) - الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ

﴿سَاهُونَ﴾: غافلون عن الصّلاة، يُؤخّرونها عن وقتها.

أي يذهبون إلى الصّلاة ويؤدّون شكلها من غير موضوعها ومضمونها، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: من الآية 45]، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى  بعباده أن جعل الويل لمن يسهو عن الصّلاة لا من يسهو في الصّلاة، لذلك عندما سمع الأعرابيّ هذه الآية قال: الحمد لله الّذي قال: ﴿عَنْ صَلَاتِهِمْ﴾، ولم يقل: في صلاتهم؛ لأنّنا جميعاً نسهو في صلاتنا، حتّى أهل الخشوع ومن يؤدّي الصّلاة بحقّها.

الآية رقم (6) - الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ

﴿يُرَاءُونَ﴾: في الصّلاة وغيرها، والرّياء: الـمُصانعة وفعل الشّيء لغير وجه الله سبحانه وتعالى، إرضاءً للنّاس.

والمرائي هو الّذي يؤدّي شكل الصّلاة على أكمل وجهٍ من غير الاهتمام بمضمونها، غايته فقط أن يُقال عنه في المجتمع: إنّه مصلٍّ، لكنّه في الحقيقة غير ذلك، فالمرائي يُراعي نظر النّاس ولا يُراعي نظر الله سبحانه وتعالى إليه، قال شدّاد بن أوس رضي الله عنه سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «أخوف ما أخاف على أمّتي الشّرك والشّهوة الخفيّة»، قلت: يا رسول الله، أتشرك أمّتك من بعدك؟، قال: «نعم، أما إنّهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً ولكن يراؤون بأعمالهم…»([1]).

 


([1]) مجمع الزّوائد ومنبع الفوائد: ج3، الحديث رقم (5226).

الآية رقم (7) - وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ

﴿الْمَاعُونَ﴾: كلّ ما يُستعان ويُنتفع به كالإبرة والفأس والقِدر والقصعة وغيرها من لوازم البيت الّتي تُستعار؛ لأنّها لا تتوفّر في البيوت كلّها، ولا يقتنيها الفقراء، وتأخذ أيضاً معنى معونة الخير للغير بشكلٍ عامٍّ.

هذه صفةٌ مادّيّةٌ أخرى لهؤلاء ترتبط بالّذي يدعّ اليتيم، وتجربة الإنسان في الأمور المادّيّة في الحياة هي تجربةٌ تتعلّق بحقيقة المنهج الإسلاميّ، والنّفس بطبعها مُحبّةٌ للمال حريصةٌ على جمعه، فإن هانت عليك أموالك أمام مطلوب الله سبحانه وتعالى منك فاعلم أنّك على المنهج الصّحيح، وإن كنت على خلاف ذلك فلتُراجع نفسك.

إذا نظرنا إلى هذه السّورة وجدناها تتضمّن أصولاً اقتصاديّةً بها قوام الحياة، وتتضمّن أيضاً أصلاً وجدانيّاً، وهو يتمثّل في حقيقة الصّلاة والقُرب من الله سبحانه وتعالى، وإذا استقام هذان الأمران استقام حال المجتمع، وإذا صلُحا صلُح بهما المجتمع؛ لأنّ الجميع يستشعر أنّ ربوبيّته لإلهٍ واحدٍ، وهنا تتضّح لنا العلاقة بين سورة (الماعون) وسورة (قريش) الّتي آخرها: ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [قريش]، فيتبيّن لنا بأنّ حقيقة الأمر وحقيقة الدّين تتعلّق بنقل الخير للغير.

الآية رقم (1) - إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ

﴿الْكَوْثَرَ﴾: الكثير من كلّ خير، وفي مقدمة ذلك النّهر الّذي في الجنّة.

هذه مُخاطبةٌ لنبيّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، وعطاءٌ عظيمٌ من الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم، وهي من السّور المكّيّة، ويريد الله سبحانه وتعالى في هذه السّورة أن يردّ مقاييس الأرض إلى مقاييس السّماء، ومعايير الخلق إلى معايير الحقّ سبحانه وتعالى، فمعايير الخلق كثيرةٌ متضاربةٌ، أمّا مقياس الحقّ فهو واحدٌ، ومنهجه واحدٌ، لا يتعارض ولا يتضارب بعضه مع بعض.

سبب نزول هذه السّورة يتضّح لنا بمعرفتنا لطبيعة الحياة العربيّة وما سادها من عاداتٍ جاهليّةٍ، أبرزها أنّهم كانوا يعتزّون بالبنين والتّكاثر بالذّريّة بعد موتهم، وأنّ الولد إنّما هو ذكرٌ لأبيه بعد موته، فشاع عنهم القول: من لا ولد له لا ذِكر له، لذلك اهتمّوا بالأنساب وحفظوها، ولـمّا مات أولاد النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم الذّكور فرح الكفّار لانقطاع عقِب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بموتهم، ظنّاً منهم أنّ الرّسالة ماتت، لكنّ هذا النّسب معترفٌ به عندهم، أمّا عند الله سبحانه وتعالى  فالنّسب لا يتعلّق بالنّسب البشريّ، فنسب النّبيّ : أبناء أمّته وأتباعه الّذين يأتمرون بأمره حتّى بعد موته إلى قِيام السّاعة، لذلك أحد المستشرقين غلبَه الحقّ فقال: إنّني أعجب لرجلٍ كمحمّدٍ لا يزال يحكم ملايين النّاس وهو ميّتٌ في قبره، هذا بنظره لأنّنا نعلم أنّ الله سبحانه وتعالى  قال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ [الحجرات: من الآية 7]، فأراد الله سبحانه وتعالى  أن يسلّي رسول الله ويخفّف عنه آثار هذه الأقوال في المجتمع المكّيّ فقال له: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾، الله سبحانه وتعالى  هو المتكلّم والـمُعطي، والـمُتلقّي للخطاب والـمُعطَى هو الرّسول الكريم، والعطاء هو الكوثر، فما هو الكوثر؟ كلمة (كوثر) تدلّ على الكثرة، نقول في التّعبير عن الكثرة: هذا كثيرٌ، وهذا أكثر، ثمّ بعد ذلك نقول: كوثر؛ أي أكثر كثرةً.

الآية رقم (2) - إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ

أي بسبب إلفهم الارتحال إلى اليمن في الشِّتاء، وإلى الشّام في الصّيف كلّ عامٍ للتّجارة، فقد كانوا يستعينون بهاتين الرّحلتين على المقام بمكّة وخدمة البيت الّذي هو فخرهم ومجدهم.

فلو ترك الله سبحانه وتعالى أبرهة وما يريد من هدم البيت لسقطت معه قريش، فمنزلة قريش بين الأمم والعرب كانت بسبب البيت الحرام الّذي حماه الله سبحانه وتعالى، فكانت القبائل تجتمع عنده في خدمة ورعاية قريش، فالسّياق بين السّورتين موصولٌ، جعلهم الله سبحانه وتعالى كعصفٍ مأكولٍ لإيلاف قريش.

الآية رقم (2) - فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ

﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾: فعل الأمر هنا طبيعيٌّ بعد: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾، فالعطاء من الله سبحانه وتعالى لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم يقتضي شكراً لهذه النّعمة، الـمُنعَم عليه هو الرّسول الكريم بالخير الكثير والوفير، صلّ: اتّصل بربّك واشكره، فبما أنّ هناك مُنعِماً مُتفضّلاً عليك فلا بدّ أن تذكر نعمته، وأن تُخلص له في العبادة والتّقرّب إليه، فلا أقلّ من أن تكون دائماً موصولاً بهذا الـمُنعِم تصلّي له شكراً وتقديراً.

﴿وَانْحَرْ﴾: النّحر: إنفاقٌ، كأنّ الله سبحانه وتعالى أنعم عليك لتُنعِم على غيرك، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النّور: من الآية 33]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: من الآية 77]، فكما أعطاك الله سبحانه وتعالى عُد بعطاءك يا محمّد إلى الغير، وفي الحديث الشّريف: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»([1])، وبعض النّاس يقولون: لقد عوّدت النّاس عادةً أن أعطيهم، والله سبحانه وتعالى  عوّدني عادةً، فلا أريد أن أقطع عادتي مع النّاس حتّى لا يقطع الله سبحانه وتعالى  عادته معي.

للعلماء في هذه الآية رأيان، بعضهم قال: إنّها عامّةٌ تُفيد مُطلق الصّلاة، ومُطلق النّحر؛ أي انحر ووزّع وأدِّ الحقّ للفقير، وبعض المفسّرين قال: إنّها نزلت في صلاة العيد ونحر الأُضحية، وهذا الرّأي رآه بعضهم أنّه يُضيّق واسعاً؛ لأنّ صلة الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم بربّه ليست صلةً محدودةً بصلاة العيد، والنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم دخل في مقام القربة والإحسان، وهذه من خصوصيّات النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، ومن هنا نقول: إنّ قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ تعني مطلق الصّلاة ومطلق النّحر، وما دام أنّ الله سبحانه وتعالى  أعطاه الكوثر وهو العطاء الّذي لا حدود له، فالصّلاة لا حدود لها، والعطاء يجب ألّا يكون له حدودٌ.

 


([1]) صحيح مسلم: كتاب الذّكر والدّعاء والتّوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذّكر، الحديث رقم (2699).

الآية رقم (3) - فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ

فيها إشارةٌ إلى أنّ إهلاك أبرهة وجيشه كان لحماية بيت الله جلَّ جلاله، تبع ذلك تأليف قريش، وإلفهم لرحلة الشّتاء والصّيف، وتوفّر لهم بذلك الرّزق الّذي لا جوع معه، والأمن الذي لا خوف معه.

﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ﴾: لأنّهم يدينون لربّ هذا البيت وللبيت، وجب عليهم ردّ الجميل وعبادة الله ربّ هذا البيت الّذي كان سبباً في أمنهم وسعادتهم.

﴿فَلْيَعْبُدُوا﴾: العبادة تطلق على معانٍ عدّةٍ، فكلّ سياقٍ للعبادة له معنىً، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذّاريات]، العبادة تكون في مناحي الحياة كلّها، فالعامل في مصنعه إذا أتقن فهو في عبادةٍ، والفلاح في حقله إذا أتقن فهو في عبادةٍ، والموظّف في وظيفته إذا أخلص في عمله فهو في عبادةٍ؛ لأنّ العبادات ليست فقط الصّوم والصّلاة والحجّ والزّكاة، فهذه أركان الإسلام، فالنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «بُني الإسلامُ على خمس: شهادة أنْ لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، وإقامِ الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، والحجّ، وصوم رمضان»([1])، أمّا الإسلام فهو كلّ ما أمر الله سبحانه وتعالى  به ونهى عنه، فالعبادة تكون في كلّ شيءٍ نافعٍ يعود على الإنسان وعلى مجتمعه ووطنه والإنسانيّة جمعاء، وهذه هي العبادة الّتي يأمر بها الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿فَلْيَعْبُدُوا﴾.

 


(([1] صحيح البخاريّ: كتاب الإيمان، باب الإيمان وقول النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «بني الإسلام على خمس»، الحديث رقم (8).

الآية رقم (3) - إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ

﴿شَانِئَكَ﴾: الشّانئ: هو الـمُبغض.

﴿الْأَبْتَرُ﴾: هو المقطوع النّسل والعقِب، أو الـمُنقطِع عن كلّ خيرٍ.

وقد ذكرنا أنّ هذه الآية نزلت لتعديل المعايير البشريّة وردّها إلى معيار الحقّ سبحانه وتعالى ، فالذّكر الحقيقيّ ليس ذكر النّسب والدّمّ، إنّما ذكر المعنى والأثر، وعلى هذا المعنى لا يكون الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم هو الأبتر؛ لأنّه موصول النّسب في أبناء أمّته جميعهم، والأبتر هو من اتّهمه هذا الاتّهام وأطلق عليه هذه المقولة، وسيظلّ رسول الله محمّدٌ مذكوراً حتّى بعد موته إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى  الأرض ومن عليها على ألسنة تابعيه وفي قلوبهم وفي أرواحهم، وفي كلّ أذانٍ وفي كلّ وقتٍ، فحيثما ذُكر اسمه الكريم : ذُكِر حُكمٌ من أحكام الله سبحانه وتعالى ، فكيف يكون محمّدٌ أبترَ؟ النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ذكره موصولٌ بالآخرة، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشّرح]،  ويرتفع يوم القيامة ارتفاعاً يشمل الإنسانيّة كلّها من آدم إلى قيام السّاعة، حيث يتراجع الأنبياء كلّهم عن الشّفاعة، ولا يتصدّى لها إلّا محمّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، فذكره يتعدّى أمّته ومن جاء قبله وبعده.

الآية رقم (4) - الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ

هذه الآية تدور حول ضروريّات الحياة الّتي لا بدّ منها، الطّعام والأمن، فالطّعام من مقوّمات الحياة، ولا يقلّ الأمن أهميّةً عنه، فالإنسان يخاف من زول النّعمة عنه، أو من مصيبةٍ تحلّ به، فمن أعظم النّعم على الإنسان أن يضمن الله عزَّ وجل له أن يطعمه من جوعٍ، وأن يؤمّنه من خوفٍ، وهذا تحقيقٌ لقول النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدّنيا»([1]).


([1]) سنن التّرمذيّ: كتاب الزّهد، باب 34، الحديث رقم (2346).

الآية رقم (1) - قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ

﴿قُلْ﴾: الـمُخاطب في هذه السّورة هو النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أي يا محمّد قل: ﴿يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾، وهذه أمانة البلاغ من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الله سبحانه وتعالى، والقرآن مُتعبّدٌ بتلاوته لا ينقص حرفاً.

﴿يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾: هم كفرةٌ مخصوصون، قد علِمَ الله سبحانه وتعالى منهم أنّهم لا يؤمنون، وهم زعماء الشّرك في مكّة.

فهؤلاء في جانبٍ ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الجانب المقابل.

النّداء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ للبعيد، وهذا النّداء يكون مرّةً للتّفخيم ومرّةً للتّحقير؛ لأنّ البُعد يأتي على معنيين، إمّا بُعد منزلةٍ وعلوّ مكانةٍ، أو بُعد مكانٍ عن الحضرة الطّاهرة، فحين يقول الحقّ سبحانه وتعالى في خطاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿يا أيُّها النَّبيّ﴾ [الأنفال: من الآية 64]، ﴿يا أيُّها الرَّسول﴾ [المائدة: من الآية 41]، فالنّداء هنا يُفيد علوّ المنزلة والمكانة، وعندما يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾، فالبُعد هنا عن الحضرة، فجهة النّداء مُنفكّة.

وقد ذهب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إليهم في ناديهم، ليُعلن عليهم هذا القطع بالعلاقة فيما يتعلّق بالعبادات ليسمع الجميع، لم يقل لهم: (يأيّها الّذين كفروا)؛ لأنّهم لم يكونوا مؤمنين قبل كفرهم، بل الكفر أصلٌ ملازمٌ لهم منذ البداية، وكلمة الكفر توحي بفطريّة الإيمان؛ لأنّ كفر الشّيء يعني ستره.

الآية رقم (1) - أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ

﴿أَرَأَيْتَ﴾: في هذه السّورة تحديداً يمكن أن تؤخَذ على حقيقتها؛ أي هل أبصرت يا محمّد مَن يكذّب بالدّين؟

قيل: سبب نزولها حادثةٌ فريدةٌ من أبي جهلٍ لـمّا ضرب اليتيم ودفعه، أو أبي سفيان، أو العاصّ بن وائل، والنّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد يكون شهد هذه الحادثة.

الهمزة في: ﴿أَرَأَيْتَ﴾ همزةٌ استفهاميّةٌ، وهي من أساليب القرآن الكريم، يأتي الخبر بصورة استفهامٍ؛ لأنّ الحقّ سبحانه وتعالى  يريد أن يُشرك الـمُخاطب في الحديث، فكأنّ الجواب ليس عن البشر، ولا بدّ أن يُخبر به؛ لأنّنا حين نسمع هذا السّؤال: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ ربّما نفهم أنّ الّذي يكذّب بالدّين هو الّذي لا يؤمن بالله سبحانه وتعالى  ولا برسوله :، ولا يصلّي ولا يصوم ولا يحجّ ولا يزكّي، لكنّ الحقّ سبحانه وتعالى  يريد أن يُخبرنا بأنّ التّكذيب بيوم الدّين ليس بالضّرورة التّكذيب بأصل الإيمان أو عدم الإيمان، إنّما الـمُكذّب قد يكون مؤمناً بالله سبحانه وتعالى  لكنّه لا يسير على منهجه جلَّ جلاله ، ولا يفعل الأوامر ولا ينتهي عن النّواهي؛ لأنّ العمل والتّطبيق هو الـمِحكّ للإيمان، فالإيمان هو: “ما وقر في القلب وصدّقه العمل”([1])، كما قال الحسن البصريّ رضي الله عنه، فمن السّهل أن يعتقد الإنسان، لكن من الصّعب أن يعمل ويطبّق ويحمل نفسه على المنهج الّذي يعتقده.

 


([1]) مصنّف ابن أبي شيبة: كتاب الإيمان والرّؤيا، الحديث رقم (30351).

الآية رقم (2) - فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ

إذاً هو مؤمنٌ بالله سبحانه وتعالى وبأصل الدّعوة إليه جلَّ جلاله ، لكن في سلوكه ضعفٌ وتشكيكٌ، وهذا لأنّه يغفل عن المنهج، وصورة الجزاء عنده باهتةٌ بيوم الآخرة، ولو استحضر صورة العذاب ما تجرّأ على أن يُخالف المنهج أو يقوم بمعصيةٍ، عن الحارث بن مالك رضي الله عنه: أنّه مرّ برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال له: «كيف أصبحت يا حارثة؟»، قال: أصبحت مؤمناً حقّاً، قال: «انظر ما تقول، إنّ لكلّ حقٍّ حقيقةً، فما حقيقة إيمانك؟»، قال: عزفت نفسي عن الدّنيا، وكأنّي أنظر إلى عرش ربّي بارزاً، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون فيها، وكأنّي أنظر إلى أهل النّار يتضاغون فيها، قال: «يا حارثة، عرفت فالزم» قالها ثلاثاً([1])، فهنا نجد أنّ الصّحابيّ  رضي الله عنه وصف إيمانه بالحقّ، وهذه مسألةٌ كبيرةٌ، فأراد رسول الله : أن ينبّه إلى خطورة هذا الجواب، وأنّ الكلام لا يُطلق هكذا.

الآية رقم (3) - وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ

﴿وَلَا يَحُضُّ﴾: لا يحثُّ.

فمن صفات الـمُكذّب بالدّين أنّه لا يحضّ على طعام المسكين، إذاً في الحالة الأولى: يدعّ اليتيم بالتّعدّي الفعليّ، والحالة الثّانية: لا يحضّ على طعام المسكين، فعندما يأتيك اليتيم أو المسكين وليس لديك ما تعطيه، فلا أقلّ من أن تحضّ غيرك على أن يُعطيه، وهذا أضعف الإيمان.

هذه عباداتٌ حدّثنا القرآن الكريم عنها، عباداتٌ اقتصاديّةٌ واجتماعيّةٌ، وكأنّ الحضّ على إطعام ومساعدة المساكين، ونقل الخير إلى الآخرين، وانتقال التّكافل الاجتماعيّ بين أفراد المجتمع هو أساسٌ من الأسس العقائديّة في العبادات الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

بعد هذه العبادات الاقتصاديّة والاجتماعيّة ينقلنا إلى عبادةٍ أخرى، هي الصّلاة الّتي هي عماد الدّين في العبادات المعروفة: