الآية رقم (69) - وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ

﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ﴾: أي نحن، لا المجتمع ولا البيئة الّتي يعيش فيها؛ لذلك كانت الأمّيّة في رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفاً؛ لأنّه لو لم يكُنْ أمّيّاً لكانت ثقافته من الخَلْق، أمَّا أمّيّته فتعني أنّه أخذ ثقافته وعلمه من الله عز وجل، والحقّ سبحانه وتعالى يقرّر هذه الحقيقة بقوله:

﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ﴾: لَكُنَّا علّمناه غير الشّعر، فرسول الله صلى الله عليه وسلم مُعلَّمٌ من ربّه جل جلاله، لم يأخذ شيئاً من البشر، وقد يُظَنُّ أنّ الله سبحانه وتعالى لم يُعلِّمه الشّعر؛ لأنّ الشّعر يحتاج إلى ثقافةٍ لغويّةٍ وعِلْمٍ بالأوزان والقوافي، ولا بُدَّ له من الحِسِّ المرهف والأذن الموسيقيّة إلى آخر هذه الأدوات الّتي يحتاجها الشّاعر، وربّما لم تتوفّر هذه الأدوات لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنّها لم تتوفّر لكثيرين غيره، فيردّ الله سبحانه وتعالى هذا الظّنّ، ويقول:

﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾: يعني لم نُعلّمه الشّعر لنقصٍ في إمكانيّاته، فلو أراد أنْ يقول شعراً لَقَالَ الشّعر على أحسن مَا يُقَال، لكن لا ينبغي له ذلك؛ لأنّ مهمّة الرّسول خلاف مهمّة الشّاعر، فأغلب الشّعر يكون في الخيال، فإذا دخل في الخير ضَعُفَ ولَانَ؛ ذلك لأنّ طبيعة الشّعر أن ينطلق ويُحلِّق في الخيال، وأن يقول الشّاعر ما يحلو له أيّاً كانت غايته، أمّا أصحاب الرّسالات فهم أصحاب القيم والأخلاق، ولا يمكن أنْ يحصروا أنفسهم في شعرٍ أبداً، وسيّدنا حسّان بن ثابت رضي الله عنه، كان شاعراً مجيداً في الجاهليّة، فلمّا أسلم أصبح يلتزم بما يأمره به النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ دفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الاتّهام بأنّ طبيعته ليست شاعريّة، أو أنّه غير مُرْهف الحسّ، وأنّ أذنه غير موسيقيّة، إلى آخر هذا الهراء، وكيف يُتَّهم بهذا مَنْ علَّمه الله جلّ وعلا؟ والنّبيّ صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن الكريم، وهذا ما امتاز به صلى الله عليه وسلم: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النّجم]، ومهمّة الرّسول صلى الله عليه وسلم بلاغ القرآن الكريم عن الله سبحانه وتعالى.

﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ﴾: (إن) هنا بمعنى (ما) النّافية، يعني: ما هذا القرآن إلّا تذكيرٌ لمن يعقل.

﴿وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾: أي بيِّنٌ واضحٌ يُتلَى، وقد يكون له نَغَمٌ ألذّ في أذن الوَرع من الشّعر، لذلك بعض النّاس يسمع القرآن الكريم فيأخذه إعجابٌ، ولو سألته تجده لا يعرف ما يحدث له؛ لأنّ الّذي يتكلّم هو الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى يتكلّم بالكلام الّذي يؤثّر ويستميل المخلوق لله الّذي ما يزال على فطرته الّتي فطر النّاس عليها، فإنْ خرج عن هذه الفطرة لم يؤثّر فيه القرآن الكريم هذا التّأثير؛ ذلك لأنّ القرآن الكريم واحدٌ، أمَّا الفطرة المستقبلة فتختلف، والحقّ سبحانه وتعالى يشرح لنا هذه المسألة في قوله جل جلاله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾[محمّد: من الآية 16]، فأمره الله سبحانه وتعالى أنْ يردّ عليهم: ﴿ قُلْ هُوَ ﴾ [فصّلت: من الآية 44]؛ أي القرآن، ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فصّلت: من الآية 44]؛ ذلك لأنّ فاعلَ الشّيء غير القابل له، فالله سبحانه وتعالى جعله رحمةً وهدىً للمؤمنين، فمَنْ تلقّى كلام الله سبحانه وتعالى بفطرةٍ سليمةٍ فهمه وتأثّر به، ومن لا يستقبل القرآن الكريم بصفاء قلبٍ فهو عليه عمىً، ويكون على قلبه ران، فلا يفهم عن الله سبحانه وتعالى ولا يتأثّر بكلامه.

الآية رقم (59) - وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ

بعد أن تحدّث سبحانه وتعالى عن أصحاب الجنّة، انتقل الحديث إلى الكافرين، وأطلق عليهم صفة الإجرام

﴿ وَامْتَازُوا ﴾: أي تميّزوا.

يجب أن يكون هناك علامة فارقة بين المجرمين والمؤمنين.

فبماذا يتميّز أهل الإجرام في ذلك الوقت؟ يجب أن نقرأ في القرآن الكريم كلّه، يجب أن ننتقل من آيةٍ إلى أخرى حتّى نبلغ مرادات كلام الله تبارك وتعالى، والقرآن الكريم هو كنوزٌ وخزائن، كلّما اقتربنا من آيةٍ فُتِحَت لنا خزينةٌ لننظر ونبحث ما فيها من كنوز، نقرأ في سورة طه قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [طه: من الآية 102]، لونهم أسود ممزوجٌ بأزرق، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾ [القيامة]؛ أي مسودّة، ويقول جل جلاله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [آل عمران: من الآية 106]، آيةٌ تقول: وجوهٌ باسرة، وآيةٌ تقول: وجوهٌ مسودّة، وآيةٌ تقول: ونحشر المجرمين زرقاً، فعلامة التّميّز واضحة، أمّا أهل الإيمان فهناك أنوارٌ من الله سبحانه وتعالى انعكست: ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ [التّحريم: من الآية 8]، أمّا عندما يقول: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾، فيتميّز المجرمون بسواد وجوههم وزرقتها وكلاحتها.

الآية رقم (60) - أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ

ألم أعهد إليكم يا بني آدم أنّني خلقت النّار من أجل أن أعذّب بها من يكفر، لكنّني قلت لكم.

﴿ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ ﴾: أوصيكم.

قلت لكم: ألّا تعبدوا الشّيطان، إنّه لكم عدوٌّ مبين، وعداوته كانت واضحةً، بيّنها الله سبحانه وتعالى لنا في كثيرٍ من الآيات، وقد ورد في القرآن الكريم أنّه منذ أن رفض إبليس السّجود لآدم عليه السلام والله سبحانه وتعالى ينبّه بني آدم منه، ويوصيهم ألّا يعبدوا الشّيطان.

﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾: هنا المولى سبحانه وتعالى يقرّع هؤلاء، ويقول للنّاس جميعاً: بأنّني قلت لكم، وبيّنت لكم وجود صراطٍ مضروبٍ على جهنّم لا تتوازنون عليه إلّا بقدر تمسّككم بالصّراط المستقيم في الدّنيا، والصّراط المستقيم هو الّذي قعد عليه إبليس: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف]، لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾، وعبادة الرّحمن هي طاعة أوامره، فهي ليست صلاة وصيام وزكاة فقط، وإنّما هي طاعةٌ، فعبادة الشّيطان هي طاعته، فعندما تطيع الشّيطان يصبح معبودك.

المولى سبحانه وتعالى في هذه اللّحظات الّتي يكون فيها الإنسان قد أصبح أمام الجنّة وأمام النّار يقول للنّاس ويبيّن لهم: إنّه عهد لهم ألّا يعبدوا الشّيطان، ولا يطيعوا شهواتهم، هذا هو الموقف الفاصل.

﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾: وعداوة الشّيطان ظاهرةٌ منذ البداية.

﴿ مُبِينٌ ﴾: واضح.

وذكرنا في سورة الكهف: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: من الآية 34]، فإبليس هو العدوّ المبين لنا جميعاً وكان من الكافرين، عادى بني آدم عليه السلام وأقسم على ذلك، ولكنّه لا يستطيع أن يُعادي الله جل جلاله، فلا يستطيع أحدٌ أن يُعادي الله عز وجل

الآية رقم (50) - فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ

﴿ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ﴾: فعند بعثة النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال للنّاس: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ التَقَمَ القَرْنَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَسَّمَّعُ مَتَى يُؤْمَرُ، فَيَنْفُخُ؟»([1])، فمنذ بُعِث النّبيّ صلى الله عليه وسلم وإسرافيل عليه السلام أحنى رأسه والتقم الصّور منتظراً الأمر الإلهيّ، فالأمر بين لحظةٍ وأخرى، وإيّاك أن تنتظر السّاعة؛ لأنّ ساعة الإنسان هي يوم موته، وعندها ينتهي الاختيار وينتهي الأمر ويصبح بين يدي الله سبحانه وتعالى، فعندما أبهم الله سبحانه وتعالى الموت عن النّاس فهذا الإبهام هو عين البيان، قال عز وجل: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾ [النّساء: من الآية 78]، فأنت محاطٌ بالموت من كلّ جانب، وبأيّ لحظةٍ سيأتي الموت وينتهي الأمر.

﴿ وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴾: حتّى ولا هذه يستطيعونها.

([1]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: ومن مسند بني هاشم، مسند عبد اللّه بن العبّاس 8، الحديث رقم (3008).

الآية رقم (61) - وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ

﴿ وَأَنِ اعْبُدُونِي ﴾: أي أطيعوني في أوامري.

﴿ مُسْتَقِيمٌ ﴾: المستقيم: هو أقصر مسافة بين نقطتين.

والصّراط المستقيم يوصلك إلى الجنّة فإبليس أراد أن يبعد بني آدم عن الجنّة بالغواية: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص]، بعزّتك؛ أي باستغنائك عن عبادة خلقك، هذا هو مدخل الشّيطان، فالشّيطان لا يجلس على أبواب الملاهي، وإنّما يجلس عند الطّاعات: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف]، كي يمنع النّاس من الاستقامة، فهدف إبليس هو الاعوجاج.

يبيّن الله سبحانه وتعالى لنا هنا ما يجري مع أهل الإجرام؛ لأنّه أخذ العهد على بني آدم: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف]، وإبليس لا يستطيع أن يدخل على الإنسان إلّا من باب استغناء الله عز وجل عن عبادة خلقه

الآية رقم (51) - وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ

﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾: أي البوق الّذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، وهذه هي نفخة البعث، وتسبقها نفخة الصَّعْق الّتي تُميتهم وتخمدهم.

أعطانا سبحانه وتعالى المنظر والمنظر الثّاني: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزّمر]، هذه مشاهد للكيفيّة وليس للزّمن، نفخ متى وأين وكيف؟ لم يعطِ، فالمشهد هو ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾.

﴿ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ﴾: ما معنى الأجداث؟ ولماذا يستخدم القرآن الكريم لفظ الأجداث في مواضع بينما يستخدم لفظ القبور في مواضع أخرى؟ الاستعمال في القرآن الكريم استعمالٌ دقيقٌ.

﴿ الْأَجْدَاثِ ﴾: هي القبور، وعندما يتحدّث عن الأجداث فإنّه يتحدّث عن ساعة الخروج، بينما عندما يتحدّث عن القبر فإنّه يتحدّث عن المكث، والفارق أنّ كثيراً من النّاس عندما تقوم السّاعة لا يكونون في قبور، فلا تبقى مقابر، قال سبحانه وتعالى: ﴿مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾، وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ﴾ [القمر]، وقال جل جلاله: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ [المعارج]، فعند النّفخ في الصّور تُستَخدم كلمة الأجداث، أمّا القبور فقد ذُكِرَت في ستّ آيات في حالة السّكون والهمود: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [الحجّ]، ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾ [الممتحنة]، ﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ﴾ [الانفطار]، ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ [التّكاثر]، ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ﴾ [العاديات]، والبعثرة غير الخروج، الخروج فيه حركة، أمّا البعثرة فهي بفعل فاعلٍ.

﴿ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ﴾: يعني يُسرعون.

وأصل كلمة: ﴿يَنْسِلُونَ﴾ من نسل الخيوط بعضها عن بعض، نقول: ينسل الثّوب؛ أي تخرج بعض الخيوط من أماكنها من اللُّحْمة أو السُّدَّة، وهكذا يخرجون من التّراب.

الآية رقم (62) - وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ

﴿ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ ﴾: أضلّ إبليس كثيراً من النّاس، وعندما يقول المولى سبحانه وتعالى هنا: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ﴾؛ أي من بني آدم.

﴿ جِبِلًّا كَثِيرًا ﴾: وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: من الآية 13]، فكثيرٌ من النّاس ضلّوا بسبب إغواء إبليس.

﴿ جِبِلًّا ﴾: الجبل: هو شيءٌ قويٌّ وراسخ؛ أي ناسٌ أشدّاء وأقوياء، كالفراعنة، والأكاسرة… وغيرهم من العظماء، فعندما يستخدم المولى سبحانه وتعالى كلمة ﴿جِبِلًّا﴾، كأنّه يقول: أين فرعون؟ أين كسرى؟ أين قيصر؟ أين هامان؟ أين نمرود؟ أين الأقوياء…؟ أصبحوا كلّهم تحت التّراب، يقول الإمام عليّ كرّم الله وجهه: “لو كُشِف عنّي الحجاب لما ازددت من الله قرباً”.

﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾: لو استخدمتم العقل وفكّرتم قليلاً بالأدلّة لتبيّن بأنّ إبليس هو العدوّ المبين.

الآية رقم (52) - قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ

فإذا ما خرجوا من الأجداث ورأوا الحقيقة الّتي طالما كذَّبوها قالوا:
﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ﴾: يا: أداة نداء، هم ينادون للويل، فهذا أوانه، فهم الّذين يدْعُون على أنفسهم بالويل والثّبور، لا أحد يقول لهم: ويلكم، إنّما يقولونها لأنفسهم، وهذا بيانٌ للحسرة على ما فاتهم.

وعجيبٌ منهم أنْ يقولوا الآن: ﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ فعلموا في هذه اللّحظة أنّ الموت لم يكن النّهاية، وإنّما الموت مرقد، وهنا يوجد سكتةٌ لطيفةٌ عند القراءة بين كلمة ﴿مَرْقَدِنَا﴾ وبين ﴿هَذَا﴾، فلمَ تأتي السّكتة هنا؟ لأنّهم عندما قاموا مباشرةً أوّل كلمة قالوها: ﴿يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾، فنسكت، ثمّ يأتي الجواب: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾، فمن الّذي أجاب؟ هل الله سبحانه وتعالى؟ أو أجابوا أنفسهم؟ هل بعضهم أجاب بعضهم الآخر؟ الله سبحانه وتعالى أعلم، المهمّ أنّ هذا هو الجواب، لذلك جاء مبنيّاً للمجهول، والقرآن الكريم لا يبيّن لنا مَن الّذي أجاب؛ لأنّه قرآنٌ، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النّساء: من الآية 82].

﴿ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾: أي في البلاغ عن الله عز وجل.

الآية رقم (53) - إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ

﴿ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾: لا تتكرّر؛ لأنّ البشر هم الّذين يُكرّرون الفعل، ومعنى تكراره؛ أي أنّ الفعل الأوّل لم يكُنْ كافياً ولم يَفِ بالغرض منه، أمَّا هنا فالفاعل الله عز وجل.

﴿ فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾: لو عُدنا إلى الآية السّابقة: ﴿ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ [يس]، التّأكيد الّذي جاء بها، وهنا في قوله: ﴿فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾، إذا هنا فجائيّة، فبمجرّد الصّيحة أُحْضِروا جميعاً رغماً عنهم، ومن غير اختيارهم.

ومُحضر: اسم مفعول من أحضر، يعني: أُجبر على الحضور والمثول بين يدي الله سبحانه وتعالى للحساب. وفي الآية السّابقة قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾[يس]، فزادتْ ﴿كُلٌّ﴾ الدّالّة على شمول الأفراد، وقد يكون شمول الأفراد تتابعاً مجموعة تلوْ الأخرى، لكن هنا يأتون مجموعين ليشاهد التّابع متبوعه، والضّالّ مَنْ أَضلَّه… إلخ.

الآية رقم (54) - فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

﴿ فَالْيَوْمَ ﴾: اليوم؛ أي يوم القيامة، وهو اليوم الّذي يحاسَب فيه النّاس جميعاً.

كأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يُطمئِن أهل الإيمان والعمل الصّالح، لا تخافوا من هَوْل القيامة؛ لأنّنا لا نظلم أحداً، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾[الأنبياء]، والجزاء عندنا من جنس العمل:

﴿وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: هذا ليس الحساب وإنّما أعطى صورةً، ولا تظلم نفسٌ شيئاً، فأيّ إنسانٍ عمل عملاً سيرى جزاء عمله إن خيراً أو شرّاً، قال جل جلاله: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزّلزلة]. ثمّ يحدّثنا الحقّ سبحانه وتعالى عن جزاء أصحاب الجنّة، فيقول:

الآية رقم (55) - إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ

﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ﴾: هذا المشهد المقابل لمشهد الّذين طغوا وتجبّروا، وانتقل إلى مشهدٍ آخر، إلى الّذين آمنوا.

﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ﴾: الصّاحب يختار صاحبه ولا يفارقه، فأنت تختار الجنّة أو النّار، فهم أصحاب الجنّة؛ لأنّهم اختاروا الجنّة بعملهم، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ»([1]).

﴿ الْيَوْمَ ﴾: أي يوم القيامة.

﴿ فِي شُغُلٍ ﴾: نتوقّف عند هذه الكلمة، فبماذا هم مشغولون طالما أنّهم في الجنّة، وأهل الجنّة يُنَعّمون فيها كما وصف الحقّ سبحانه وتعالى؟ وإذا خطر ببالهم شيءٌ حضر أمامهم مباشرةً، فما هو الشّغل؟ جاءت هذه الكلمة مبهمة.

﴿ فَاكِهُونَ ﴾: يقال: فَاكِه وفَكِه يعني: متلذّذ ومُتنعِّم، ومنها: الفاكهة، فهي ليست من الضّروريّات، إنّما من التّفكُّه والتّلذّذ.

فعندما يتحدّث المولى سبحانه وتعالى عن الجنّة، فإنّه يتحدّث بما يقرّب للإنسان ما يحدث معه في الدّنيا، يقول سبحانه وتعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾[الرّعد: من الآية 35]؛ لأنّها ليست الجنّة بل كالجنّة، والجنّة كما وصفها النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»([2])، فلا يمكن للإنسان أن يعلم ما فيها إلّا بما أخبر به الله سبحانه وتعالى.

([1]) صحيح مسلم: كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها، الحديث رقم (2822).

([2]) صحيح مسلم: كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها، الحديث رقم (2825).

الآية رقم (56) - هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ

﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ﴾: حتّى يطمئنّ الإنسان، فالرّجل وزوجته لا يفترقان، وسيكونان معاً في الجنّة بإذن الله سبحانه وتعالى، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الرّوم: من الآية 21].

﴿ فِي ظِلَالٍ ﴾: الظّلّ يكون في الدّنيا من حرّ الشّمس، فكيف يكون في الجنّة؟ فإذا الشّمس كوّرت، وكلّ شيءٍ تغيّر، وأشرقت الأرض بنور ربّها فأصبح الإنسان يعيش مع الخالق سبحانه وتعالى، مع المسبِّب مباشرةً، فما هي الظّلال الّتي يتحدّث عنها؟ نقرأ قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ…»([1])، فهي ظلال الله سبحانه وتعالى؛ أي أنت في فَيءٍ من الله جل جلاله، والفيء يؤدّي إلى راحة الإنسان، لكن نحن نتحدّث عن جنّةٍ فيها ما لا يخطر على بال البشر، لذلك يقرّبها المولى سبحانه وتعالى.

﴿مُتَّكِئُونَ﴾: الاتّكاء حالةٌ وهيئةٌ للإنسان، فهو: إمَّا قائمٌ، أو قاعدٌ، أو متّكئٌ، والاتّكاء أَمتع هذه الحالات؛ لأنّ القائم قائمٌ لعمل، والقاعد يقعد لِـهَمٍّ يفكِّرُ فيه، فلا هو قادرٌ على القيام للعمل، ولا هو قادرٌ على الاتّكاء للرّاحة، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿مُتَّكِئُونَ﴾، يعني تمام الرّاحة لهم، لذلك قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالاً اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَاماً حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ»([2]).

والأرائك: جمع أريكة.

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصّلاة وفضل المساجد، الحديث رقم (660).

([2]) سنن التّرمذيّ: كتاب العلم، باب ما نُهي عنه أن يقال عند حديث النّبيّ ,، الحديث رقم (2664).

الآية رقم (57) - لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ

﴿لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ﴾: جاء في سورة الواقعة قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾ [الواقعة]، أمّا هنا فلم يذكر اللّحم، فذِكْرُ الفاكهة فيه إشارةٌ إلى التّلذّذ والتّنعّم.

﴿وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ﴾: أي ما يطلبون، وقال بعضهم: ﴿مَا يَدَّعُونَ﴾ يعني: لا يدَّخر الله سبحانه وتعالى لهم دعوة؛ لأنّه جل جلاله يعطيهم قبل أن يدعوا.

الآية رقم (58) - سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ

﴿ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾: سلامٌ من الله سبحانه وتعالى، عندما يقول: السّلام؛ أي أضمن لك سلاماً تامّاً واطمئناناً تامّاً منّي ألّا يصيبك مكروهٌ، وهذا معنى السّلام العامّ، وعندما نقول: إنّ الإسلام هو دين سلامٍ، فهو دين عطاءٍ وخيرٍ ورحمةٍ، هذا هو المعنى العامّ للسّلام الحقيقيّ، أهل الإيمان هم أهل السّلام الحقيقيّ، فكيف إذا كان السّلام من الله سبحانه وتعالى، فهو اطمئنانٌ وأمانٌ وعطاءٌ، والله سبحانه وتعالى أعطى هذا السّلام ليس مناولةً عن طريق الملائكة، ولكن قولاً مباشراً منه جل جلاله، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَا أَهْلُ الجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ، إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَإِذَا الرَّبُّ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜﱝ»([1])، وتتبيّن أنوار الله سبحانه وتعالى لأهل الإيمان في ذلك الوقت، فأهل الجنّة مشغولون بأنوار الله سبحانه وتعالى وبتسبيحه وبحمده جل جلاله، مشغولون بسلام الله سبحانه وتعالى، يقول سبحانه وتعالى: السّلام عليكم يا أهل الجنّة، فعندما يعطي السّلام منه فإنّنا نفهم السّلام على قدره سبحانه وتعالى، سبحان الله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشّورى: من الآية 11].

بهاتين الآيتين أجمل المولى سبحانه وتعالى كلّ ما يتعلّق من نعيمٍ وعطاءٍ ورحمةٍ تظلّل أهل الجنّة بما قدّموا في الحياة الدّنيا، لذلك يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل أحدكم الجنّة بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله منه برحمة وفضل»([2])، وهناك من يقول: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ [النّجم]، هذا الكلام صحيح، فعلى حسب العمل يكون الميزان والحساب والجزاء، لكن أن تدخل الجنّة فهذا برحمةٍ من الله سبحانه وتعالى؛ لأنّه جعل جزاء العمل الصّالح الجنّة، فهذه هي الرّحمة، فكيف إذا دخل الإنسان الجنّة وهو ينعّم فيها، وامتنّ الله سبحانه وتعالى بالسّلام: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾؟!

([1]) سنن ابن ماجه: افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصّحابة والعلم، باب فيما أنكرت الجهميّة، الحديث رقم (184).

([2]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: مسند أبي هريرة t، الحديث رقم (7473).

الآية رقم (38) - وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ

﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي﴾: الواو: واو عطف.

الشّمس هي آلة الضّوء، وعندما اخترع أديسون المصباح الكهربائيّ حدثت جلبة وتكريم، وأنّ هذه لحظة عظيمة، والله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الإنسان خلق لنا الشّمس مقوّم الحياة الأساسيّة الّتي تنتج لنا كلّ شيءٍ.

وتعاقب اللّيل والنّهار وتعاقب الفصول وخروج الزّرع والنّبات وحياة الإنسان وحركته وبصره كلّ ذلك يتعلّق بشمس الله عز وجل، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: من الآية 12]، من الّذي يرى؟ هذا الإبصار كيف هو؟ النّهار الّذي يرى وليس الإنسان، بدليل لو كان ظلامٌ فإنّنا لن نرى شيئاً، لا نرى من غير إشعاع، ﴿وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾، آية النّهار الشّمس، فالشّمس هي المبصرة ولست أنت.

﴿ تَجْرِي ﴾: تجري؛ أي تتحرّك، وقد تتبّع العلماء هذا الأمر، وإذا هناك مجموعةٌ شمسيّةٌ كاملة تتكوَّن من تسعة كواكب، هذه الشّمس تجري وتتحرّك في مسار، والأرض والكواكب تتحرّك حول المجرّة، والمجرّة تتحرّك.. وهكذا.

والشّمس تحتاج إلى قوّةٍ وطاقةٍ ووقودٍ حتّى تجري، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر]، تبقى تجري إلّا إذا طرأ شيءٌ فأوقفها، وفي علم الحركة قانونٌ اسمه قانون العطالة، وهو أنّ كلّ متحرّك يظلّ على حركته، إلى أنْ تُوقفه، وكلّ ساكنٍ يظلُّ على سكونه إلى أنْ تُعطيه قوّةً فتُحرّكه، وهذا القانون فسَّر لنا حركة الأقمار الصّناعيّة ومراكب الفضاء الّتي تظلّ متحرّكة لفترات طويلة، فكلّ الّذي احتاجته هذه الآلات من الطّاقة هي طاقة الصّاروخ الّذي يحملها إلى أنْ يعبر بها مجال الجاذبيّة الأرضيّة، أمّا هي فتظلّ دائرة بلا طاقة وبلا وقود.

﴿لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾: الشّمس ليس لها مستقرّ، تنتهي إليها الأمور يوم القيامة: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ [التّكوير]، قال العلماء: هي تجري لمستقرّ؛ أي لنهاية.

ثمّ يُذكِّرنا الحقّ سبحانه وتعالى بفضله في هذه الحركة، فيقول:

﴿ ذَلِكَ ﴾: أي ما سبق من حركة اللّيل والنّهار وجريان الشّمس.

﴿ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾: يعني هذا الجريان كلّه، وهذه الحركة إنّما هما بتقدير الله سبحانه وتعالى.

وكلمة ﴿ الْعَزِيزِ ﴾ هنا مناسبة تماماً، فالمعنى أنّه سبحانه وتعالى العزيز الّذي لا تغلبه القوانين؛ لأنّه سبحانه وتعالى خالق القوانين.

وهناك قراءةٌ أخرى قرأها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (والشّمس تجري لا مستقرّ لها)، فكيفما قرأت القرآن الكريم تجد الإعجاز.

والسّؤال هنا: لماذا لم يقل: (ذلك تقدير العليم الخبير)؟ أو (الحكيم العليم)؟ نجد في سورة الأنعام قوله عز وجل: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [الأنعام]، فما علاقة (العزيز) هنا؟ العزيز هو الّذي لا يُغلب، وهنا المراد العزيز الّذي لا تغلبه القوانين، بل هو يغلب القوانين؛ لأنّنا نعتقد أنّ هناك قانوناً، هذا القانون لا يمكن أن نسير إلّا وفقه، الأمور هكذا بالنّسبة إلى البشر، ولكن بالنّسبة إلى ربّ البشر فهو الّذي يضع القانون ويخرق القوانين متى شاء، وأينما شاء، ﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾.

الآية رقم (49) - مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ

أجابهم عن كيفيّة ما يجري بكلماتٍ سريعة خاطفة لثلاثة مشاهد مباشرة من غير أن يقول لهم: متى، ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾ [النّازعات]، فلم يعطهم موعد قيام السّاعة، فهو تبارك وتعالى لم يعط علم السّاعة لأحد، ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ [الأحزاب]، أجاب على سؤالهم: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ بقوله: ﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾؛ أي يختصمون، ولننظر إلى عظمة القرآن الكريم، هم يستبطئون السّاعة، فيقولون: متى هذا الوعد؟ فيجيبهم إجابات سريعة حتّى في كلمة: يختصمون، فقُلِبت التّاء صاداً، وأدغمت في الصّاد للدّلالة على المبالغة.

﴿تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾: يعني تفاجئهم وهم في جدالهم وخصامهم، والأَخْذُ يدلّ على الشّدّة، قال سبحانه وتعالى: ﴿أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: من الآية 42].

الآية رقم (39) - وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ

بعد أنْ تكلَّم الله سبحانه وتعالى عن الشّمس وهي آلة الضّوء، تكلّم عن القمر؛ لأنّ له مهمّة يؤدّيها حين تغيب الشّمس.

﴿ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ﴾: قدَّرنا سَيْره في منازل ومسافات، هذه المنازل نشاهدها كلّ شهرٍ في حركة القمر: التّربيع الأوّل، والتّربيع الثّاني ثمّ البدر..

﴿ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴾: لنتأمّل دِقَّة الأداء القرآنيّ المبني على الهندسة العليا في قوله سبحانه وتعالى: ﴿حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾، فهذه صورةٌ توضيحيّة لمنازل القمر مأخوذةٌ من البيئة العربيّة، فالعرجون هو عذْق النّخلة الّذي يحمل الثّمار، ونسمّيه (السُّباطة)، وهي مكوَّنة من عدّة شماريخ رفيعة، لكن قاعدتها عند اتّصالها بجذع النّخلة عريضة ومفلطحة، هذا العذق يَيْبَس ويضمر كلّما تقادم ويعوجّ كلّما جفَّتْ منه المائيّة، وهذه الصّورة توضّح تماماً حركة القمر حيث يضمر إلى أنْ يتلاشى آخر الشّهر.

وهنا قد بيّن المولى سبحانه وتعالى منازل القمر وشكل القمر حتّى عاد كالعرجون القديم.

الآية رقم (40) - لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ

﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ﴾: القضيّة تجعل الإنسان يسجد لله سبحانه وتعالى ويقف حائراً، فهذا القرآن الكريم بيّن كلّ شيءٍ، ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾ لقد اكتشف العلم الحديث كثيراً من الأمور المتعلّقة بهذه الآيات، فالقمر أسرع في حركته من الشّمس؛ لكنّه لا يدرك الشّمس؛ لأنّهما في خطّين متوازيين لا يلتقيان، ولو كانت الشّمس أسرع من القمر لكان في الشّهر الواحد صيفٌ وشتاءٌ، ولاختلط نظام الكون، فالشّمس أبطأ من القمر، وجميع الكواكب تسير، فالشّمس ﴿تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، فقد كانوا يعتقدون أنّ اللّيل يسبق النّهار، وأنّ الأصل هو اللّيل، فهو قبل النّهار، وبعد الدّراسة لم يجدوا شيئاً من ذلك، فلا اللّيل يسبق النّهار، ولا النّهار يسبق اللّيل، والله سبحانه وتعالى لا يريد أن يصدم العقل البشريّ، فكيف سيقول للنّاس عند نزول القرآن الكريم: بأنّ الأرض تتحرّك، وأنّها كرويّة، وأنّ الشّمس تتحرّك وجميع الكواكب تتحرّك؟ لن تتقبّلها العقول أوّل ما نزل القرآن الكريم، فقال كلمةً واحدةً فقط تناسب العلم بعد ملايين السّنين: ﴿وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ﴾، كيف يتمّ ذلك؟ لا يتمّ إلّا إذا كانت هناك حركةٌ، وكانت الأرض كرويّةً، ففي الوقت ذاته يكون قسمٌ منها ليلٌ وقسمٌ نهار، الشّمس تدور حول نفسها، والأرض تدور حول الشّمس، وكلّ شيءٍ مسخّر للإنسان، ولو كانت الأرض بشكلٍ غير كرويّ لكان هناك مكان تبقى فيه الشّمس والآخر لا تأتيه الشّمس، لكن طالما أنّها كرويّة وتدور فمستحيل أن يسبق اللّيل النّهار أو يسبق النّهار اللّيل، بل يبقيان متعاقبين باستمرار، وكلّ ذلك آياتٌ علميّةٌ فالمعلومات الّتي توصّلت إليها العلوم الفضائيّة والتّقنيّة والعلميّة في هذه الآيات.

﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾: الكواكب كلّها تسبح في مدارات الفضاء، لماذا قال سبحانه وتعالى: ﴿ يَسْبَحُونَ ﴾ ولم يقل: (يتحرّكون)؟ هناك فرقٌ كبيرٌ بين السّباحة والحركة، السّباحة هي انتقالٌ سهلٌ على الماء، أمّا الحركة فهناك ثقل، وجاذبيّة أرضيّة بالجوّ، فقال: ﴿ يَسْبَحُونَ ﴾؛ لأنّه لا يوجد جاذبيّة أرضيّة، بينما لو قال: يتحرّكون، لاختلف الأمر، يحتاج إلى قوّة وثقل، فعندما أطلقوا الأقمار الصّناعيّة بدأت تسبح، وكلّ ما يُطلَق إلى الفضاء الخارجيّ خارج نطاق الجاذبيّة الأرضيّة يسبح، وكلّ شيءٍ يسبّح بحمد الله سبحانه وتعالى، وكلّه يدور حول العرش.

الآية رقم (41) - وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ

﴿ وَآيَةٌ لَهُمْ ﴾: من العجائب الّتي تدلّ على صنع الله سبحانه وتعالى.

﴿ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾: هي عجيبةٌ كيف أنّ الله سبحانه وتعالى أنجى نوحاً عليه السلام في الفلك المشحون.

﴿ الْفُلْكِ ﴾: السّفينة.

﴿ الْمَشْحُونِ ﴾: المملوء.

والمراد: سفينة سيّدنا نوح عليه السلام الّتي كانت معجزة كبيرة للبشريّة، وكلمة الفلك في اللّغة العربيّة تطلق على الجمع وعلى المفرد، فلو كان سيّدنا نوح عليه السلام بنى عدّة سفن لقال: (الفلك المشحونة)، لكنّه قال: ﴿ الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾، فهي سفينةٌ واحدةٌ.

﴿ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾: هل حمل ذرّيّتهم أو آباءهم وأجدادهم؟ انظروا إلى الدّقّة: لم يقل: (حملنا آباءهم وأجدادهم في الفلك المشحون)، بل قال: ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى عندما يقول فالله سبحانه وتعالى له كمالاتٌ مطلقةٌ، فالإنسان أوّل ما ينظر إلى الذّريّة: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ [إبراهيم: من الآية 40]، ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ [الفرقان: من الآية 74]، ينظر الإنسان بطبعه إلى المستقبل، ينظر إلى الامتداد، إلى البقاء، وبقاء الإنسان في الذّريّة، في الأولاد وليس في الآباء والأجداد، وإنّما الآباء والأجداد هم من السّابقين، وهم من الأصول، ولكنّ الله سبحانه وتعالى عندما أراد أن يخاطبهم أراد أن يلفت النّظر إلى قضيّة علميّة، ففي كلّ كلمة قانون، ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾، نعم، حملنا أولادهم؛ لأنّ كلّ إنسان ذرّيّته مطمورةٌ فيه، من سيّدنا آدم عليه السلام: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ [الأعراف: من الآية 172]، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يمتنّ عليهم فقال: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾؛ لأنّه لو انقطع الآباء والأجداد لقضي عليكم، ولم يكن هناك ذرّيّة، والإنسان جزيءٌ حيٌّ، هذا الجزيء الحيّ من آدم عليه السلام مطمورٌ في ظهر آدم عليه السلام لأفراد الدّنيا كلّها، وهو الّذي ينتقل عبر الأجيال، هذا بيانٌ قرآنيٌّ عظيم.

﴿ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾: هذا كلام ربٍّ وليس كلام عبدٍ، ليس فقط هناك طوفان غطّى الأرض كاملةً وأنقذ الله سبحانه وتعالى النّاس بهذه السّفينة، ولكن هناك آية في السّفينة، معجزة، حمل الذّرّية في الفلك المشحون: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[هود]، وقد كان قومه يسخرون منه عليه السلام، وقد كان نوح عليه السلام يصنع الفلك الّذي هو معجزة بأمر الله سبحانه وتعالى، ولم يأمره فقط بجمع المؤمنين، ولكن أن يحمل معه من كلٍّ زوجين اثنين، حتّى يكون هناك استمرارٌ للحياة، فأخذ من الطّير اثنين، ومن الحيوانات اثنين، ومن النّباتات اثنين، لسنا في صدد قصّة نوح عليه السلام، لكن هذه المعجزة بيّنها الله سبحانه وتعالى في هذه الآية.

الآية رقم (42) - وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ

﴿وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ﴾: وسائل المواصلات في الماء الّتي يصنعونها في كلّ فترة مثل البواخر وغيرها، وإيّاكم أن تعتقدوا أيّها النّاس أنّها وسائل نجاة، وإنّما هي وسائل مواصلات