الآية رقم (115) - وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا

كأنّ الحقّ تبارك وتعالى يُعزِّي رسوله صلّى الله عليه وسلّم ويُخفِّف عنه ما يعانيه من كفر القوم وعنادهم بقوله له: اقبلهم على عِلَّاتهم، واقبل نسيانهم، فهُمْ أولاد آدم، والعصيان أمر وارد فيهم، وسبق أن عهدنا إلى أبيهم فنسي، لذلك إذا أوصيتَ أحداً بعمل شيء فلم يَقُمْ به فلا تغضب، وأَرْجِع الأمر إلى هذه المسألة، والتمس له عُذْراً.

﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ﴾: أي: أمرنا ووصَّيْنا ووعظنا، وقلنا كلّ شيء.

﴿مِنْ قَبْلُ﴾: هذه الكلمة لها دَوْر في القرآن الكريم، وقد حسمتْ لنا مواقف عدّة، منها قوله هنا عن آدم عليه السلام، والمراد: خُذْ لهم أُسْوة من أبيهم الّذي كلّفه الله سبحانه وتعالى مباشرة، ليس بواسطة رسول من الله عزَّ وجلَّ، وكلّفه بأمر واحد، ثمّ نهاه أيضاً عن أمرٍ واحد: (كُلْ من الجنّة كُلِّها إلّا هذه الشّجرة)، هذا هو التّكليف، ومع ذلك نسي آدم ما أُمِر به.

كذلك جاءتْ ﴿مِنْ قَبْلُ﴾في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: من الآية 91].

﴿فَنَسِيَ﴾: أي: نسي العَهْد، هذه واحدة.

﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾: ليس عنده عزيمة قويّة تُعينه على المضيِّ والثّبات في الأمر.

فالحقّ تبارك وتعالى يريد أن يعطينا فكرة بأنّه سبحانه وتعالى حين يأمر بأمْر فيه نفع لنا نتهافت عليه، أمّا إذا أمر بشيء يُقيِّد شهواتنا تأبَّيْنا وخالفنا، ومن هنا احتاج التّكليف إلى عزيمة قويّة تعين على المضيّ فيه والثّبات عليه، والله سبحانه وتعالى سمَّى الرّسل أصحاب الدّعوات والرّسالات المهمّة في تاريخ البشريّة: ﴿أُولُو الْعَزْمِ﴾[الأحقاف: من الآية 35]؛ لأنّهم سيتحمّلون مشاقَّ ومهامَّ صعبة تحتاج إلى ثباتٍ وصبرٍ على التّكليف.

ومن ذلك أيضاً قوله سبحانه وتعالى: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: من الآية 63]؛ أي: عزيمة تدفع إلى الطّاعات، وتمنع من المعاصي.

والعهد الّذي أخذه الله عزَّ وجلَّ على آدم أنْ يأكل رَغَداً من نعيم الجنّة كلّها كما يشاء إلّا شجرة واحدة حذَّره من مجرّد الاقتراب منها هو وزوجه: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾[البقرة: من الآية 35]، وهذه المسألة تلفتنا إلى أنّ الحلال كثيرٌ جدّاً لا يُعَدُّ ولا يُحْصَى، أمّا المحرّمات فقليلة معدودة محصورة.

الآية رقم (116) - وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى

الحقّ تبارك وتعالى يقصُّ علينا قصّة آدم عليه السلام، لكن نلاحظ أنّه سبحانه وتعالى أعطانا مُجْمل القصّة ومُوجزها في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾، وأصلْ القصّة وترتيبها الطّبيعيّ أنّه سبحانه وتعالى يقول: خلقْتُ آدم بيديّ وصوَّرته، ثمّ أمرْتُ الملائكة بالسّجود له ثمّ قلت له: كذا… وعَرْض القصّة بهذه الطّريقة أسلوبٌ من أساليب التّشويق، ومن ذلك أسلوب القرآن الكريم في قصّة أهل الكهف، حيث ذكر القصّة مُوجَزة فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ﴾[الكهف]، ثمّ أخذ في عَرْضها تفصيلاً: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ﴾[الكهف: من الآية 13]، وقد جاء هذا الأسلوب كثيراً في قَصَص القرآن الكريم، ففي قصّة لوط عليه السّلام يبدأ بنهاية القصّة وما حاق بهم من العذاب: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ﴾ [القمر]، ثمّ يعود إلى تفصيل الأحداث: ﴿وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ﴾[القمر]، ومن أبرز هذه المواضع قوله سبحانه وتعالى في قصّة موسى وفرعون: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾[الأعراف]؛ أي: من بعد موكب الرّسالات إلى فرعون وقومه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين، هذا مُجمل القصّة، ثمّ يأخذ في قَصِّ الأحداث بالتّفصيل: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف]، وهكذا أسلوب القرآن الكريم في قصّة آدم عليه السلام، يعطينا مُجْمل القصّة، ثمّ يُفصِّلها:

﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ﴾: يعني: اذكر إذ قُلْنا للملائكة: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾، وقبل أن نخوضَ في قصّة أبينا آدم عليه السلام يجب أن نشير إلى أنّها تكرّرتْ كثيراً في القرآن الكريم، لكنّ هذا التّكرار مقصود لحكمة، ولا يعني إعادة الأحداث، بل هي لقطاتٌ لجوانب مختلفة من الحدَث الواحد تتجمّع في النّهاية لتعطينا القصّة الكاملة من جميع زواياها.

كما أنّ الهدف من قَصَص القرآن الكريم تثبيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّه سيمرُّ بكثير من الأحداث والشّدائد، سيحتاج في كلّ منها إلى تثبيت، وهذا الغرض لا يتأتَّى إذا سردنا القصّة مرّةً واحدة، كما في قصّة يوسف عليه السلام مثلاً.

﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾: بعضهم يعترض فيقول: كيف تسجد الملائكة لبشر؟ نعم، هم سجدوا لآدم، لكن لم يسجدوا من عند أنفسهم، بل بأمر الله عزَّ وجلَّ لهم، فالمسألة ليستْ سجوداً لآدم، بقدر ما هي إطاعة لأمر الله جل جلاله، وما معنى السّجود؟ السّجود معناه: الخضوع، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ [يوسف: من الآية 100]؛ أي: سجودَ تعظيم وخضوع، لا سجودَ عبادة.

وآدم عليه السّلام هو خليفة الله عزَّ وجلَّ في الأرض، لكنّه ليس الوحيد عليها، فعلى الأرض مخلوقاتٌ كثيرة منها المحَسّ، كالشّمس والقمر والنّجوم والهواء والماء والأرض والجبال، وكُلّ ما فيه مصلحة لهذا الخليفة، ومنها ما هو خفيّ كالملائكة الّتي تدير الأمور بخفاء في هذا الكون، ومنهم الحفظة والكتبة، ومنهم المكلَّفون بالرّيح وبالمطر.. إلى آخره من الأمور الّتي تخدم الخَلْق.

وقد يحلو لبعضهم أن يقول: لقد ظَلَمنا آدمُ حين عصى الله عزَّ وجلَّ، فأنزَلَنا من الجنّة إلى الأرض، وإلّا لبقينا في الجنّة! نقول: يجب أن نفهم عن الله سبحانه وتعالى، فالحقّ تبارك وتعالى لم يخلق آدم للجنّة الّتي هي دار الخُلْد، إنّما خلقه ليكون خليفةً له في الأرض، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة]، فقد خلق آدم عليه السّلام للأرض وليس للجنّة، والجنّة -وإن كانت تُطلَق على دار الخُلْد ودار النّعيم الأُخْرويّ- فهي تُطلَق أيضاً على حدائق وبساتين الدّنيا، كما جاء في قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ﴾[القلم]، فقد تحدّث الله سبحانه وتعالى عن آدم عليه السلام وعن علاقة الملائكة بآدم، وأنّ الله سبحانه وتعالى أمر مجموعة من الملائكة وكان إبليس من بينهم بالسّجود له، والجنّة الّتي كان فيها آدم هي مكان لتدريبه قبل أنْ يباشر مهمّته كخليفة لله عزَّ وجلَّ في الأرض، فأدخله الله جل جلاله في هذه التّجربة التّطبيقيّة، وأعطاه فيها نموذجاً للتّكليف بالأمر والنّهي، وحذَّره من عدوّه الّذي سيتربّص به وبذرّيّته من بعده، وهو إبليس الّذي رفض السّجود، ولكن كيف كان إبليس مع الملائكة؟ الجواب: لقد كان إبليس من الجنّ الطّائع.

وخلاصة منهج الله عزَّ وجلَّ في الأرض: أمر، ونهي، وتكليف، وتحذير من الشّيطان ووسوسته.. فهذه الأمور كلّها تتعلّق بجنّة التّجربة الّتي أُدخِلَها آدم عندما أُمِرَ ألّا يأكل من الشّجرة.

وبعضهم يقول: كيف عصى آدم عليه السّلام وهو نبيّ؟ ويذكرون قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾[طه: من الآية 121]، نقول: ما دام أنّ آدم عليه السلام هو خليفة الله عزَّ وجلَّ في أرضه، ومنه أَنْسَالُ النّاس جميعاً إلى أنْ تقوم السّاعة، ومن نَسله الأنبياء وغير الأنبياء، من نسله الرّسل والمرسل إليهم، فهو بذاته يمثّل الخَلْق الآتي كلّه، كما أنّ آدم عليه السلام مرَّ بهذه التّجربة قبل أن يُنبّأ، بدليل قوله جلّ جلاله: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ [طه: من الآية 121- الآية 122]، فكان الاجتباء والعصمة بعد التّجريب، ثمّ لـمّا أُهبِط آدم وعدوّه إلى الأرض خاطبه ربّه جل جلاله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[البقرة: من الآية 38].

وهكذا بدأت مرحلة جديدة في حياة آدم عليه السلام، ومثَّل آدم الدَّوْرَيْن: دَوْر العصمة والنّبوّة بعد ما اجتباه ربّه، ودَوْر البشر العاديّ غير المعصوم والمعرَّض للنّسيان وللمخالفة كأيِّ إنسانٍ من أناس الأرض، فينبغي أن نفهم أنّ آدم عليه السلام خُلِق للأرض وعمارتها، وقد هيَّأها الله سبحانه وتعالى لآدم وذرّيّته من بعده، وأعدَّها بمقوِّمات الحياة كُلِّها ومُقوِّمات بقاء النّوع.

لقد ذكرنا أنّ في الكون مُلكاً وملكوتاً: الملْك هو الظّاهر الّذي نراه ونشاهده، والملكوت ما خفي عنّا وراء هذا الملْك، الملكوت كالملائكة والجنّ لا نراهم، فمن الملكوت مثلاً الملائكة الموكّلون، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾[الرّعد: من الآية 11]، ومنهم الكَتَبة: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[ق]، فلمّا خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وخلق الملائكة الموكّلين بمصالحه في الأرض أمرهم بالسّجود له؛ لأنّهم سيكونون في خدمته، فالسّجود طاعة لأمر الله عزَّ وجلَّ، وخضوع للخليفة الّذي سيعمر الأرض.

﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى﴾: وفي آيةٍ أخرى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ﴾[ص: من الآية 74].

وقد أوضح الله سبحانه وتعالى سبب رَفْض إبليس للسّجود لآدم بقوله: ﴿أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾[ص: من الآية 75]؛ أي: لا سبب لامتناعك إلّا الاستكبار على السّجود، أو تكون من العالين؛ أي: الملائكة الّذين لم يشملهم الأمر بالسّجود، غير المكلّفين بالأرض.

ومَن أثار مشكلة أنّ إبليس مع الملائكة قوله مردود عليه؛ لأنّ الأمر يصدر للمجموع العامّ الأعلى ويشمل الأدنى، والله سبحانه وتعالى خلق الثَّقليْن: الجنّ والإنس، وإبليس كان من الطّائعين، لكنّه من الجنّ، وليس من الملائكة، وقد حسم القرآن الكريم هذه القضيّة حين قال: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: من الآية 50]، وهذا نصٌّ صريح لا جدال حوله، فإنْ قُلْتَ: فلماذا شمله الأمر بالسّجود، وهو ليس مَلَكاً؟ نقول: لأنّ إبليس قبل هذا الأمر كان طائعاً، وقد شهد عمليّة خَلْق آدم، وكان يُدْعَى: (طاووس الملائكة)؛ لأنّه ألزم نفسه في الأمور الاختياريّة فكان معهم في ذلك المجلس، فلمّا جاء الأمر للملائكة بالسّجود لآدم شمله الأمر ولزمه من ناحيتين: الأولى: إنْ كان أعلى منهم منزلةً بسبب أنّه ألزم نفسه الطّاعة مع اختياره، والملائكة ليس لهم اختيار، فهو أَوْلَى بطاعة الأمر منهم، ولماذا يعصي هذا الأمر بالذّات؟

الأخرى: أنّ الأمر للأعلى يشمل الأدنى.

الآية رقم (117) - فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى

﴿وَلِزَوْجِكَ﴾: كلمة الزّوج لا تعني اثنين كما يظنّ بعضهم، الزّوج فرد واحد معه مثله؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾[الذّاريات: من الآية 49].

مَلْحَظ آخر في قوله جل جلاله: ﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾: الخطاب لآدم وزوجه يُحذِّرهما من إغواء إبليس وكَيْده، ثمّ يقول: ﴿فَتَشْقَى﴾ بصيغة الإفراد، ولم يقُل: (فتشقيَا)، وهذه لفتة مهمّة في موضوع حقوق المرأة، فما أعطاه الإسلام للمرأة لم يستطع أحدٌ في الكون أن يعطيها إيّاه.

الآية رقم (118) - إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى

فقد أعددْتُ لك الجنّة، وجعلتُ لك فيها كلّ ما تحتاجه، وأبَحْتُ لك نعيمها كلّه، ونهيتُك عن شيءٍ واحدٍ منها، ولك علينا: ﴿أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى﴾، فلن تجوع فيها، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ [البقرة: من الآية 35].

ونلحظ هنا أنّ الله سبحانه وتعالى تكفَّل لهما بشيء ظاهر يُلبِّي غريزة ظاهرة هي اللّباس والتّستُّر، وغريزة باطنة هي غريزة الطّعام.

الآية رقم (119) - وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى

﴿تَظْمَأُ﴾: يعني: تعطش.

﴿تَضْحَى﴾: أي: لا تتعرّض لحرارة الشّمس اللّافحة، فتكفّل لهما ربّهما أيضاً بغريزة باطنة هي العطش، وغريزة ظاهرة هي ألَّا تلفحك حرارة الشّمس.

الآية رقم (110) - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا

﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾: ما أمامهم، ويعلم ما خلفهم، أمّا نحن فلا نحيط به عِلْماً، ولا نعرف إلّا ما يُخبرنا به، إلّا أن تكون هناك مقدّمات نستنبط منها؛ لأنّ ما ستره الحقّ جل جلاله في الكون كثير، منه ما جعل له مقدّمات، فمَنْ ألـمَّ بهذه المقدّمات وصل إلى النّتائج، لكن هناك أشياء استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها، وقد يعطيها لمن أحبَّ من عباده، ويُطلِعهم عليها، أو تظلّ في علم الله عزَّ وجلَّ لا يعرفها أحد.

الآية رقم (101) - خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا

﴿وَسَاءَ﴾: قبح ذلك الحمل يوم القيامة؛ لأنّ الحمل قد لا يكون قبيحاً إنْ كان خيراً، وإن كان شرّاً فقد يحمله صاحبه في الدّنيا ويزول عنه، أمّا الوزر فحِمْل سيّىء قبيح؛ لأنّه في دار الخُلْد الّتي لا نهايةَ لها، فمتى يكون ذلك؟

الآية رقم (102) - يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا

﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾: وهو يوم القيامة.

﴿الصُّورِ﴾: هو البوق الّذي يُنفخ فيه النّفخة الأولى والثّانية، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾[الزّمر].

﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾: أي: نجمعهم ونسوقهم زُرْقاً، والزُّرْقة هي لونهم، كما ترى شخصاً احتقن وجهه، وازرقَّ لونه بسبب شيء تعرَّض له، هذه الزُّرْقة نتيجة لعدم السّلام والانسجام في كيميائيّة الجسم من الدّاخل، فهو انفعال داخليّ يظهر أثره على البشرة الخارجيّة، فكأنّ هَوْلَ القيامة وأحداثها تُحدِث لهم هذه الزّرقة.

وبعضهم يفسّر: ﴿زُرْقًا﴾؛ أي: عُمْياً، ومن الزُّرْقة مَا ينشأ عنها العمى، ومنها المياه الزّرقاء الّتي تُصيب العين.

الآية رقم (103) - يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا

﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ﴾: أي: يُسِرُّون الكلام، ويهمس بعضهم إلى بعض، لا يجرؤ أحدٌ منهم أنْ يجهر بصوته من هَوْل ما يرى، فبِمَ يتخافتون؟

﴿إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا﴾: يقول بعضهم لبعض: ما لبثنا في الدّنيا إلّا عشرة أيّام، ثمّ يُوضِّح القرآن الكريم بعد ذلك أنّ العشرة هذه كلامهم السّطحيّ، بدليل قوله سبحانه وتعالى في الآية بعدها: ﴿إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا﴾، فانتهت العشرة إلى يوم واحد، ثمّ ينتهي اليوم إلى ساعة في قوله سبحانه وتعالى حكاية عنهم: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾[الرّوم: من الآية 55]، فكُلُّ ما ينتهي فهو قصير، فأقوال متباينة تميل إلى التّقليل، كأنّ الدّنيا على سَعة عمرها ما هي إلّا ساعة: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾[الأحقاف: من الآية 35]، وما هذا التّقليل لمدّة لُبْثهم في الدّنيا إلّا لإفلاسهم وقِلَّة الخير الّذي قدَّموه فيها، لقد غفلوا فيها، فخرجوا منها بلا ثمرة؛ لذلك يلتمسون لأنفسهم عُذْراً في انخفاض الظّرف الزّمنيّ الّذي يسَع الأحداث، كأنّه لم يكُنْ لديهم وقت لعمل الخير.

الآية رقم (104) - نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا

الحقّ تبارك وتعالى يقصُّ على رسوله صلّى الله عليه وسلّم في الدّنيا ما سيكون من أمر هؤلاء المجرمين في الآخرة، فإذا ما وقعتْ القيامة جاءت الصّورة كما حكاها الله سبحانه وتعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا القول الّذي حكاه القرآن الكريم عنهم أمر في اختيارهم، وقد سمعوا ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبوسعهم ألَّا يقولوا، لكن إذا جاءت القيامة فسوف يقولونه بالحرف الواحد لا يُغيِّرون منه شيئاً.

﴿أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً﴾: يعني: أحسنهم حُكْماً.

الآية رقم (105) - وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا

تكلّمنا عن: ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ في قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾[البقرة: من الآية 219]، والسّؤال استفهام، يعني: طلب فَهْم يحتاج إلى جواب، والسّؤال إمّا أن يكون من جاهل لعالم، كالتّلميذ يسأل أستاذه ليعلم الجواب، أو: من عالم لجاهل، كالأستاذ يسأل تلميذه ليمتحنه.

وقد كانوا يسألون النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أسئلة كثيرة، مثل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ [البقرة: من الآية 222]، وحينما استعرضنا ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾  في القرآن الكريم وجدنا جوابها مسبوقاً بـ ﴿قُلْ﴾، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾[البقرة: من الآية 219]، وقوله جلّ جلاله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: من الآية 189]، وهكذا في الآيات كلّها، ما عدا قوله سبحانه وتعالى هنا: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾، فاقترن الفعل ﴿قُلْ﴾ بالفاء، لماذا؟ قال العلماء: لأنّ السّؤال في كُلِّ هذه الآيات سؤال عن شيء وقع بالفعل، فكان الجواب بـ ﴿قُلْ﴾، مثل: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ [البقرة: من الآية 222]، أمّا: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ﴾، قال في الجواب: ﴿فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾؛ لأنّه حَدَثٌ لم يقع بَعْد، والحقّ سبحانه وتعالى يُخبر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أنّه سيُسأل هذا السّؤال، فكأنّ (الفاء) هنا دَلَّتْ على شرط مُقدّر، بمعنى: إنْ سألوك بالفعل، فقُلْ: كذا وكذا، فالسّؤال عن الجبال لم يكُنْ وقت نزول الآية، أمَّا الأسئلة الأخرى فكانت موجودة، وسُئِلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل نزول آياتها.

وقد تأتي إجابة السّؤال دون: ﴿قُلْ﴾، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾[البقرة: من الآية 186]، ولم يقُلْ هنا: ﴿قُلْ﴾ أو ﴿فقُلْ﴾؛ لأنّها تدلُّ على الواسطة بين الله سبحانه وتعالى وبين عباده، وكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يُوضّح أنّه قريب من عباده.

والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهاهم عن السّؤال، فقال: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ»([1]).

﴿فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾: تكلّمنا عن هذا المعنى في قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا﴾[طه: من الآية 97]، فالمراد: نُفتِّتها ونذروها في الهواء، وأكَّد النّسف، فقال: ﴿نَسْفًا﴾ [طه: من الآية 97]، ليؤكّد أنّ الجبل سيتفتّت إلى ذرّات صغيرة يذروها الهواء، فقد يتصوَّر بعضهم أنّ الجبال تُهَدُّ، وتتحوّل إلى كُتَل صخريّة كما نُفجِّر الصّخور الآن إلى قطع كبيرة؛ لذلك أكّد على النّسف، وأنّ الجبال ستكون ذرّات تتطاير؛ لذلك قال في آيةٍ أخرى: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ﴾[القارعة]؛ أي: كالصّوف المندوف، لكن لماذا ذكر الجبال بالذّات؟ الجبال يُضرب بها المثل في الثّبات، كما في قوله الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾[إبراهيم]، فالجبال مظهر للثّبات، وقد يتساءل الإنسان عن هذا الخلْق الثّابت المستقرّ، ماذا سيفعل الله سبحانه وتعالى به؟

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الِاعْتِصَامِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَابُ الِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، الحديث رقم (7288).

الآية رقم (106) - فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا

﴿قَاعًا صَفْصَفًا﴾: أرضاً مستوية مَلْساء لا نباتَ فيها ولا بناء، والضّمير في: ﴿فَيَذَرُهَا﴾، يعود على الأرض لا على الجبال؛ لأنّ الجبال لا تكون قاعاً صفصفاً، أمّا الأرض مكان الجبال فتصير ملساء مستوية، لا بناءَ فيها ولا جبال، فالأرض شيءٌ والجبال فوقها شيء آخر.

وقد حُذِف العائد في ﴿فَيَذَرُهَا﴾ اعتماداً على ذِهْن السّامع ونباهته إلى أنّه لا يكون إلّا ذلك، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص]، فلم يذكر عائد الضّمير ﴿هُوَ﴾؛ لأنّه إذا قيل لا ينصرف إلّا إلى الحقّ سبحانه وتعالى، وإنْ لم يتقدّم اسمه.

الآية رقم (107) - لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا

أي: كأنّها مُسْتوية على ميزان الماء، لا ترى فيها اعوجاجاً ولا:

﴿أَمْتًا﴾: منخفض ومرتفع، فهي مستوية استواءً تامّاً، كما نفعل نحن في الجدار، ونحرص على استوائه.

الآية رقم (108) - يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا

﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ﴾: الدّاعي: المنادي، كالمؤذِّن الّذي كثيراً ما دعا النّاس إلى حضرة الله سبحانه وتعالى في الصّلاة، فمنهم مَنْ أجاب النّداء، ومنهم مَنْ تأبَّى وأعرض، أمّا الدّاعي في الآخرة، وهو الّذي ينفخ في الصّور فلن يتأبَّى عليه أحد، ولن يمتنع عن إجابته أحد.

﴿لَا عِوَجَ لَهُ﴾: لأنّنا نرى داعي الدّنيا حين يُنادِي في جَمْع النّاس، يتّجه يميناً ويتّجه يساراً، ويدور ليُسمع في الاتّجاهات كُلِّها، فإذا لم يَصِلْ صوته إلى الآذان كلّها استيعاباً يستعمل مُكبِّر الصّوت مثلاً، أمّا الدّاعي في الآخرة فليس له عوج هنا أو هناك؛ لأنّه يُسمِع الجميع، ويصل صوته إلى الآذان كلّها، دون انحرافٍ أو ميْل.

﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾: هذا الهمْسُ الّذي قال عنه في الآيات السّابقة: ﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ﴾[طه: من الآية 103]، ونعرف أنّ كل تجمُّع كبير لا تستطيع أنْ تضبط فيه جَلبة الصّوت، فما بالك بجَمْع القيامة من لَدُنْ آدم عليه السلام حتّى قيام السّاعة، ومع ذلك: ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾، فلماذا كتمت هذه الأصوات الّتي طالما قالتْ ما تحبّ، وطالما كان لها جلبة وضجيج؟ الموقف الآن مختلف، والهَـوْل عظيم، لا يجرؤ أحد من الهَوْل على رَفْع صوته، وكُلٌّ منشغل بحاله، مُفكّر فيما هو قادم عليه، فإنْ تحدّثوا تحدّثوا سِرّاً: ماذا حدث؟ ماذا جرى؟

الآية رقم (109) - يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا

﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ﴾: والشّفاعة تقتضي مشفوعاً له وهو الإنسان، وشافعاً وهو الأعلى منزلةً، ومشفوعاً عنده: وهو المولى سبحانه وتعالى، والمشفوع عنده لا يسمح بالشّفاعة هكذا، إنّما لا بُدَّ أنْ يأذنَ لك بها، وأنْ يضعَك في مقام ومرتبة الشّفاعة، وهذا شَرْطٌ في الشّافع.

﴿وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾: هذه للمشفوع له، أن يقول قولاً يرضى الله سبحانه وتعالى عنه، يقول سبحانه وتعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: من الآية 255]، والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّداً الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ»([1]).

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الأَذَانِ، بَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ النِّدَاءِ، الحديث رقم (614).

الآية رقم (99) - كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا

وفي موضعٍ آخر قال سبحانه وتعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود: من الآية 120]، فكأنّ فؤاده صلّى الله عليه وسلّم كان في حاجة إلى تثبيت؛ لأنّه سيتناول أحداث الحياة كلّها، وسيتعرّض لما تشيب لهَوْله الرّؤوس، ألم يَقُلْ الحقّ سبحانه وتعالى عن الرّسل قبله: ﴿وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ﴾[البقرة: من الآية 214].

﴿كَذَلِكَ﴾: أي: كما قصصنا عليك قصّة موسى وهارون وفرعون والسّامريّ نقصُّ عليك قصصاً أخرى من أنباء مَنْ سبقُوك من الرّسل.

﴿أَنْبَاءِ﴾: جمع نبأ، وهو الخبر المهمّ العظيم، فلا يُقال للأمر التّافه: نبأ، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى عن يوم القيامة: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ [النّبأ].

﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا﴾: وأكّد الإتيان بأنّه: ﴿مِنْ لَدُنَّا﴾؛ أي: من عندنا، فلم يَقُلْ مثلاً: (آتيناك ذِكْراً)، وهذا له معنى؛ لأنّ الكتب كلّها الّتي نزلت على الرّسل السّابقين نزلت ورُويتْ بالمعنى، ثمّ صاغها أصحابها بألفاظ من عند أنفسهم، أمَّا القرآن الكريم فهو الكتاب الوحيد الّذي نزل بلفظه ومعناه؛ لذلك قال: ﴿مِنْ لَدُنَّا﴾؛ أي: مباشرة من الله سبحانه وتعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم.

﴿ذِكْرًا﴾: للذّكْر معان متعدّدة، فيُطلق الذّكر، ويُراد به القرآن الكريم، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر]، ويُطلَق ويُراد به الصِّيت والشَّرف والجاه في الدّنيا، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[الأنبياء: من الآية 10]؛ أي: شرفكم ورِفْعتكم بين النّاس، وقال جلّ جلاله: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾[الزّخرف: من الآية 44].

وقد يقول قائل: كيف يكون القرآن الكريم ذكراً وشرفاً للعرب، وقد أبان عجزهم، وأظهر ما فيهم من عيٍّ؟ وهل يكون للمغلوب صِيت وشَرف؟ نقول: كونهم مغلوبين للحقّ شهادة بأنّهم أقوياء، فالقرآن الكريم أعجز العرب وهم أمّة فصاحة وبلاغة وبيان، والحقّ سبحانه وتعالى حين يتحدّى لا يتحدّى الضّعيف، إنّما يتحدّى القويّ، فكان البيان في القرآن الكريم مُعجِز.

وكذلك يُطلَق الذّكْر على كلّ كتاب أنزله الله سبحانه وتعالى، كما قال لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[النّحل: من الآية 43]؛ أي: أهل الذّكر قبلكم، وهم أهل التّوراة وأهل الإنجيل.

ويُطلَق الذّكر، ويُراد به فعل العمل الصّالح والجزاء من الله سبحانه وتعالى عليه، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾[البقرة: من الآية 152]؛ أي: اذكروني بالطّاعة أذكركم بالخير.

ويأتي الذّكْر بمعنى التّسبيح والتّحميد، وبمعنى التّذكُّر والاعتبار، فله معانٍ متعدّدة يُحدِّدها السّياق.

لكن لماذا اختار سبحانه وتعالى كلمة: ﴿ذِكْرًا﴾، ولم يقل مثلاً: كتاباً؟ قال العلماء: لأنّ الذّكْر معناه أن تذكر الشّيء بداية؛ لأنّه أمر مهمّ لا يُنسَى، وهو ذِكْر؛ لأنّه يُسْتلهم، ومن الذّكر الاعتبار والتّذكير، والشّيء لا يُذكر إلّا إذا كان له أهمّــيّة، هذه الأهمّــيّة تتناسب مع الأمر من حيث مُدّة أهمّــيّته ومقدارها، وكلّ ذكر لشيء في الدّنيا قصارى أمره أنْ يعطيك خير الدّنيا، أمّا القرآن الكريم فهو الذّكر الّذي يعطيك خيري الدّنيا والآخرة؛ لذلك فهو أهمّ ذكر يجب أنْ يظلَّ على بال الإنسان لا يُنسى أبداً، فالقرآن الكريم ذِكْر ذُكر أوّلاً، وذِكْر يُذكَر ثانياً، ويستلهم ذكراً يشمل الزّمن كلّه في الدّنيا وفي الآخرة.

الآية رقم (100) - مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا

﴿أَعْرَضَ﴾: ابتعد عن القرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى سمّى القرآن الكريم ذكراً، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر]، وبذلك يكون أعرض عن كذا، يعني: تركه وذهب بعيداً عنه، أو: أعطاه ظهره وانصرف عنه.

﴿وِزْرًا﴾: الوِزْر: الحِمْل الثّقيل، وليْتَه في الدّنيا فيمكنه أن يتخلّص منه، إنّما الوِزْر هنا في الآخرة؛ لذلك فهو وزرٌ ثقيل لا ينحطّ عن الإنسان، فهو حِمْلٌ لا نهايةَ له ولا أملَ في الخلاص منه، فهو ثقيلٌ ممتدّ الإيلام.

الآية رقم (93) - أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي

الآية رقم (94) - قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي

فصاحبَ خطاب موسى لأخيه هارون فعْلٌ نزوعيٌّ وحركة، فهمناها من قول هارون عليه السلام: ﴿يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي﴾، ثمّ ذكر العلّة:

﴿إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾: يقصد قول أخيه: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾[الأعراف: من الآية 142]، فذكّره بالتّفويض الّذي أعطاه إيّاه، وقد اجتهد هارون حَسْب رؤيته للموقف، ونأى بالقوم عن معركة ربّما انتهتْ بالقضاء على خلِيّة الإيمان في بني إسرائيل، اجتهد في إطار ﴿وَأَصْلِحْ﴾ [الأعراف: من الآية 142]، فأثار موسى هذه القضيّة مع أخيه، لا ليسمع الرّدّ، وإنّما ليُسمع الدّنيا كلّها على مَرِّ التّاريخ، ثمّ ينقل موسى عليه السّلام الخطاب إلى رأس هذه الفتنة:

الآية رقم (95) - قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ

﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ﴾: أي: ما شأنك؟ وما قصّتك؟ والخَطْب: يُقال في الحدَث المهمّ الّذي يُسمُّونه الحدَث الجلَل، وليس الحدث العابر الّذي لا يقف عنده أحد، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ﴾[يوسف: من الآية 51]، وما حكاه القرآن الكريم من قول موسى عليه السلام لابنتَيْ شعيب: ﴿مَا خَطْبُكُمَا﴾[القصص: من الآية 23]. ثمّ يقول الحقّ سبحانه وتعالى عن السّامريّ: