الحقّ تبارك وتعالى يقصُّ علينا قصّة آدم عليه السلام، لكن نلاحظ أنّه سبحانه وتعالى أعطانا مُجْمل القصّة ومُوجزها في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾، وأصلْ القصّة وترتيبها الطّبيعيّ أنّه سبحانه وتعالى يقول: خلقْتُ آدم بيديّ وصوَّرته، ثمّ أمرْتُ الملائكة بالسّجود له ثمّ قلت له: كذا… وعَرْض القصّة بهذه الطّريقة أسلوبٌ من أساليب التّشويق، ومن ذلك أسلوب القرآن الكريم في قصّة أهل الكهف، حيث ذكر القصّة مُوجَزة فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ﴾[الكهف]، ثمّ أخذ في عَرْضها تفصيلاً: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ﴾[الكهف: من الآية 13]، وقد جاء هذا الأسلوب كثيراً في قَصَص القرآن الكريم، ففي قصّة لوط عليه السّلام يبدأ بنهاية القصّة وما حاق بهم من العذاب: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ﴾ [القمر]، ثمّ يعود إلى تفصيل الأحداث: ﴿وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ﴾[القمر]، ومن أبرز هذه المواضع قوله سبحانه وتعالى في قصّة موسى وفرعون: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾[الأعراف]؛ أي: من بعد موكب الرّسالات إلى فرعون وقومه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين، هذا مُجمل القصّة، ثمّ يأخذ في قَصِّ الأحداث بالتّفصيل: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف]، وهكذا أسلوب القرآن الكريم في قصّة آدم عليه السلام، يعطينا مُجْمل القصّة، ثمّ يُفصِّلها:
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ﴾: يعني: اذكر إذ قُلْنا للملائكة: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾، وقبل أن نخوضَ في قصّة أبينا آدم عليه السلام يجب أن نشير إلى أنّها تكرّرتْ كثيراً في القرآن الكريم، لكنّ هذا التّكرار مقصود لحكمة، ولا يعني إعادة الأحداث، بل هي لقطاتٌ لجوانب مختلفة من الحدَث الواحد تتجمّع في النّهاية لتعطينا القصّة الكاملة من جميع زواياها.
كما أنّ الهدف من قَصَص القرآن الكريم تثبيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّه سيمرُّ بكثير من الأحداث والشّدائد، سيحتاج في كلّ منها إلى تثبيت، وهذا الغرض لا يتأتَّى إذا سردنا القصّة مرّةً واحدة، كما في قصّة يوسف عليه السلام مثلاً.
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾: بعضهم يعترض فيقول: كيف تسجد الملائكة لبشر؟ نعم، هم سجدوا لآدم، لكن لم يسجدوا من عند أنفسهم، بل بأمر الله عزَّ وجلَّ لهم، فالمسألة ليستْ سجوداً لآدم، بقدر ما هي إطاعة لأمر الله جل جلاله، وما معنى السّجود؟ السّجود معناه: الخضوع، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ [يوسف: من الآية 100]؛ أي: سجودَ تعظيم وخضوع، لا سجودَ عبادة.
وآدم عليه السّلام هو خليفة الله عزَّ وجلَّ في الأرض، لكنّه ليس الوحيد عليها، فعلى الأرض مخلوقاتٌ كثيرة منها المحَسّ، كالشّمس والقمر والنّجوم والهواء والماء والأرض والجبال، وكُلّ ما فيه مصلحة لهذا الخليفة، ومنها ما هو خفيّ كالملائكة الّتي تدير الأمور بخفاء في هذا الكون، ومنهم الحفظة والكتبة، ومنهم المكلَّفون بالرّيح وبالمطر.. إلى آخره من الأمور الّتي تخدم الخَلْق.
وقد يحلو لبعضهم أن يقول: لقد ظَلَمنا آدمُ حين عصى الله عزَّ وجلَّ، فأنزَلَنا من الجنّة إلى الأرض، وإلّا لبقينا في الجنّة! نقول: يجب أن نفهم عن الله سبحانه وتعالى، فالحقّ تبارك وتعالى لم يخلق آدم للجنّة الّتي هي دار الخُلْد، إنّما خلقه ليكون خليفةً له في الأرض، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة]، فقد خلق آدم عليه السّلام للأرض وليس للجنّة، والجنّة -وإن كانت تُطلَق على دار الخُلْد ودار النّعيم الأُخْرويّ- فهي تُطلَق أيضاً على حدائق وبساتين الدّنيا، كما جاء في قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ﴾[القلم]، فقد تحدّث الله سبحانه وتعالى عن آدم عليه السلام وعن علاقة الملائكة بآدم، وأنّ الله سبحانه وتعالى أمر مجموعة من الملائكة وكان إبليس من بينهم بالسّجود له، والجنّة الّتي كان فيها آدم هي مكان لتدريبه قبل أنْ يباشر مهمّته كخليفة لله عزَّ وجلَّ في الأرض، فأدخله الله جل جلاله في هذه التّجربة التّطبيقيّة، وأعطاه فيها نموذجاً للتّكليف بالأمر والنّهي، وحذَّره من عدوّه الّذي سيتربّص به وبذرّيّته من بعده، وهو إبليس الّذي رفض السّجود، ولكن كيف كان إبليس مع الملائكة؟ الجواب: لقد كان إبليس من الجنّ الطّائع.
وخلاصة منهج الله عزَّ وجلَّ في الأرض: أمر، ونهي، وتكليف، وتحذير من الشّيطان ووسوسته.. فهذه الأمور كلّها تتعلّق بجنّة التّجربة الّتي أُدخِلَها آدم عندما أُمِرَ ألّا يأكل من الشّجرة.
وبعضهم يقول: كيف عصى آدم عليه السّلام وهو نبيّ؟ ويذكرون قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾[طه: من الآية 121]، نقول: ما دام أنّ آدم عليه السلام هو خليفة الله عزَّ وجلَّ في أرضه، ومنه أَنْسَالُ النّاس جميعاً إلى أنْ تقوم السّاعة، ومن نَسله الأنبياء وغير الأنبياء، من نسله الرّسل والمرسل إليهم، فهو بذاته يمثّل الخَلْق الآتي كلّه، كما أنّ آدم عليه السلام مرَّ بهذه التّجربة قبل أن يُنبّأ، بدليل قوله جلّ جلاله: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ [طه: من الآية 121- الآية 122]، فكان الاجتباء والعصمة بعد التّجريب، ثمّ لـمّا أُهبِط آدم وعدوّه إلى الأرض خاطبه ربّه جل جلاله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[البقرة: من الآية 38].
وهكذا بدأت مرحلة جديدة في حياة آدم عليه السلام، ومثَّل آدم الدَّوْرَيْن: دَوْر العصمة والنّبوّة بعد ما اجتباه ربّه، ودَوْر البشر العاديّ غير المعصوم والمعرَّض للنّسيان وللمخالفة كأيِّ إنسانٍ من أناس الأرض، فينبغي أن نفهم أنّ آدم عليه السلام خُلِق للأرض وعمارتها، وقد هيَّأها الله سبحانه وتعالى لآدم وذرّيّته من بعده، وأعدَّها بمقوِّمات الحياة كُلِّها ومُقوِّمات بقاء النّوع.
لقد ذكرنا أنّ في الكون مُلكاً وملكوتاً: الملْك هو الظّاهر الّذي نراه ونشاهده، والملكوت ما خفي عنّا وراء هذا الملْك، الملكوت كالملائكة والجنّ لا نراهم، فمن الملكوت مثلاً الملائكة الموكّلون، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾[الرّعد: من الآية 11]، ومنهم الكَتَبة: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[ق]، فلمّا خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وخلق الملائكة الموكّلين بمصالحه في الأرض أمرهم بالسّجود له؛ لأنّهم سيكونون في خدمته، فالسّجود طاعة لأمر الله عزَّ وجلَّ، وخضوع للخليفة الّذي سيعمر الأرض.
﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى﴾: وفي آيةٍ أخرى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ﴾[ص: من الآية 74].
وقد أوضح الله سبحانه وتعالى سبب رَفْض إبليس للسّجود لآدم بقوله: ﴿أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾[ص: من الآية 75]؛ أي: لا سبب لامتناعك إلّا الاستكبار على السّجود، أو تكون من العالين؛ أي: الملائكة الّذين لم يشملهم الأمر بالسّجود، غير المكلّفين بالأرض.
ومَن أثار مشكلة أنّ إبليس مع الملائكة قوله مردود عليه؛ لأنّ الأمر يصدر للمجموع العامّ الأعلى ويشمل الأدنى، والله سبحانه وتعالى خلق الثَّقليْن: الجنّ والإنس، وإبليس كان من الطّائعين، لكنّه من الجنّ، وليس من الملائكة، وقد حسم القرآن الكريم هذه القضيّة حين قال: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: من الآية 50]، وهذا نصٌّ صريح لا جدال حوله، فإنْ قُلْتَ: فلماذا شمله الأمر بالسّجود، وهو ليس مَلَكاً؟ نقول: لأنّ إبليس قبل هذا الأمر كان طائعاً، وقد شهد عمليّة خَلْق آدم، وكان يُدْعَى: (طاووس الملائكة)؛ لأنّه ألزم نفسه في الأمور الاختياريّة فكان معهم في ذلك المجلس، فلمّا جاء الأمر للملائكة بالسّجود لآدم شمله الأمر ولزمه من ناحيتين: الأولى: إنْ كان أعلى منهم منزلةً بسبب أنّه ألزم نفسه الطّاعة مع اختياره، والملائكة ليس لهم اختيار، فهو أَوْلَى بطاعة الأمر منهم، ولماذا يعصي هذا الأمر بالذّات؟
الأخرى: أنّ الأمر للأعلى يشمل الأدنى.