فما دام القوم يُكذِّبون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم في مأمن من العذاب، فلا بُدَّ أن يتمادوا في تكذيبهم، ويستمرّوا في عنادهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّهم لم يروا العذاب؛ لذلك يتوجّه الحقّ سبحانه وتعالى إلى النّاحية الأخرى فيعطي رسوله صلّى الله عليه وسلّم المناعة اللّازمة لمواجهة هذا الموقف:
﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾: لأنّ لك بكلّ صبر أجراً يتناسب مع ما تصبر عليه، والصّبر قد يكون مَيْسوراً سهلاً في بعض المواقف، وقد يكون شديداً وصَعْباً ويحتاج إلى مجاهدة، فمرَّة يقول الحقّ سبحانه وتعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: (اصبر)، ومرّة يقول: (اصطبر)، فما الأقوال الّتي يصبر عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قولهم له: ساحر، وقولهم: شاعر، وقولهم: مجنون وكاهن، كما قالوا عن القرآن الكريم: أضغاث أحلام، وقالوا: أساطير الأوّلين، فاصبر يا محمّد على هذا كلّه؛ لأنّ كلَّ قول من أقوالهم يحمل معه دليل كذبهم، فقولهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ساحر)، فمَن الّذي سَحَره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ سحر المؤمنين به، فلماذا لم يسحرْكم أنتم أيضاً، وتنتهي المسألة؟ فبقاؤكم على عناده والكفر به دليل براءته من هذه التّهمة، وقولهم: (شاعر)، كيف وهم أمّة صناعتها الكلام، وفنون القول شعره ونثره، فكيف يَخْفى عليهم أسلوب القرآن الكريم؟ والشّعر عندهم كلام موزون ومُقفّى، فهل القرآن الكريم كذلك؟ ولو جاء هذا الاتّهام من غيركم لكان مقبولاً، أمّا أنْ يأتيَ منكم أنتم يا مَنْ تجعلون للكلام أسواقاً ومعارض فهذا غير مقبول منكم، أمّا قولهم: (مجنون)، فالمجنون لا يدري ما يفعل، ولا يعقل تصرّفاته ولا يُسأل عنها، ولا نستطيع أنْ نتّهمه بشيء فنقول عنه مثلاً: كذّاب أو قبيح؛ لأنّ آلة الاختيار عنده مُعطّلة، والمجنون ليس له خُلُق، والحقّ سبحانه وتعالى يخاطب رسوله صلّى الله عليه وسلّم: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم]، والخُلق هو الـمَلَكة المستقرّة للخير، فكيف يكون محمّد مجنوناً، وهو على خُلُقٍ عظيم؟ ثمّ هل جرَّبْتُم عليه شيئاً ممّا يفعله المجانين.
أمّا قولهم: إنّ رسول الله افترى هذا القرآن الكريم، كيف وأنتم لم تسمعوا منه قبل البعثة شِعْراً أو خطباً، ولم يسبق أن قال شيئاً مثل هذا؟ كيف يفتري مثل هذا الأسلوب المعجز، وليس عنده صنعة الكلام؟ وقد تحدّاهم الله عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾[يونس: من الآية 38].
﴿وَسَبِّحْ﴾: والتّسبيح هو التّنزيه لله عزَّ وجلَّ، وهو صفة لله سبحانه وتعالى قبل أنْ يخلق مَنْ يُسبِّحه ويُنزِّهه؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى في استهلال سورة (الإسراء): ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾[الإسراء: من الآية 1]، فقال: نزّه فعل الله سبحانه وتعالى عن أفعالك، فإذا كان التّسبيح ثابتاً لله عزَّ وجلَّ قبل أن يوجد المسبِّح، ثمّ سبّح لله أوّل خلقه، ولا يزالون يُسبِّحون، فأنت أيضاً سبِّح باسم ربّك الأعلى.
﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾: لأنّ من لوازم الخلق أن يكون مختلفاً في الأهواء والأغراض والمصالح، يتشاكلون ويتحاربون على عَرَضٍ زائل، فمنهم الظّالم والمظلوم، والقويّ والضّعيف، فلا بُدَّ من وجود واحد لا توجد فيه صفة من هذه الصّفات، ليضع للبشر القانون والقسطاس المستقيم الّذي يُنظِّم حياة الخَلْق، وهو الخالق سبحانه وتعالى، تنزَّه عن مشابهة الأحداث كلّها، وهذه نعمة يجب أن نشكر الله عزَّ وجلَّ ونحمده على وجودها فيه، نحمده على أنّه ليس كمثله شيء، والتّسبيح والتّنزيه يعني المقياس الّذي يضبط العالم، فساعةَ أن تُسبِّح الله اذكر أنّ التّسبيح نعمة، فاحمد الله سبحانه وتعالى على أنّه لا شيءَ مثلُه، سبِّح تسبيحاً مصحوباً بحمْدِ ربّك؛ لأنّ تنزيه المولى إنّما يعود بالخير على مَنْ خلق، وهذه نعمة تستحقّ أن تحمدَ الله سبحانه وتعالى عليها، فلا يحفظ التّوازن في الكون إلّا قوّة مغايرة للخَلْق.
﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾: أي: تسبيحاً دائماً مُتوالياً، كما أنّ نِعَم الله سبحانه وتعالى عليك متوالية لا تنتهي، فكلُّ حركة من حركاتك نعمة، النّوم نعمة، والاستيقاظ نعمة، الأكل نعمة، والشّرب نعمة، البصر والسّمع، كلّ حركة من حركات الأحداث نعمة تستحقّ الحمد، وكلّ نعمة من هذه ينطوي تحتها نِعَم، لذلك فالحقّ سبحانه وتعالى يعطينا زمن التّسبيح، فنعيشه في الوقت كلّه: ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ﴾.
﴿آنَاءِ﴾: جمع إنْي، وهو الجزء من الزّمن، وهذا الجزء يترقَّى حسْب تنبّه الإنسان لتسبيح التّحميد، فمعنى التّسبيح آناء اللّيل، يعني أجزاء اللّيل كلّه، فهل يعني هذا أن يظلّ الإنسانُ لا عملَ له إلّا التّسبيح؟ يمكن أن تُجزّىء اللّيل إلى ساعات، فتُسبِّح كلّ ساعة، أو تترقّى فتسبّح كلّ دقيقة، أو تترقّى فتُسبِّح كلّ ثانية، وهكذا حسْب مقامات المسبّح الحامد وأحواله، فهناك من عباد الله عزَّ وجلَّ مَنْ لا يفتر عن تسبيحه لحظة واحدة، فتراه يُسبِّح الله سبحانه وتعالى في كلّ حركة من حركاته؛ لأنّه يعلم أنّه لا يؤدّيها بذاته بدليل أنّها قد تُسْلَب منه في أيّ وقت، فأجزاء الوقت تختلف باختلاف المقامات والأحوال، ألَا تراهم في وحدة القياس يقيسون بالمتر، ثمّ بالسّنتيمتر، ثمّ بالملّيمتر، وفي قياس الوقت توصّل العلماء إلى أجهزة تُحدِّد جزءاً من سبعة آلاف جزء من الثّانية.
﴿وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾: ليستوعب الزّمن كلّه ليله ونهاره، والمقامات والأحوال كلّها؛ لذلك يقول بعض العارفين في نصائحه الّتي تضمن سلامة حركة الحياة: “اجعل مراقبتك لمن لا تخلو عن نظره إليك”، فهذا الّذي يستحقّ المراقبة، وعلى المرء أنْ يتنبّه لهذه المسألة، فلا تُكنْ مراقبته لمن يغفل عنه، أو ينصرف، أو ينام عنه، “واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك”، فإذا شربتَ كوب ماءٍ فقُلْ: الحمد لله أن أرواك، وساعةَ تشعر بنشاطها في نفسك قل: الحمد لله، وهكذا تكون موالاة حمد الله، والمداومة على شُكْره، “واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه”، فبما أنّك لا تستغني عنه، فهو الأَوْلَى بطاعتك، “واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن مُلْكه وسلطانه”، وإلَّا فأين يمكنك أن تذهب؟
أطلق زمن التّسبيح باللّيل، فقال: ﴿آنَاءِ اللَّيْلِ﴾، وحدّده في النّهار فقال: ﴿وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾؟ قالوا: لأنّ النّهار عادة يكون محلّاً للعمل والسَّعي، فربّما شغلك التّسبيح عن عملك، وربّنا يأمرك أن تضربَ في الأرض وتُسهِم في حركة الحياة، ألَا تقرأ قول الله عزَّ وجلَّ في سورة الجمعة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الجمعة]، أمّا في اللّيل فأنت مستريح، يمكنك التّفرّغ فيه لتسبيح الله سبحانه وتعالى في أيِّ وقتٍ من أوقاته.
ويلفتنا قوله سبحانه وتعالى: ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ﴾، فأيّ طلوع؟ وأيّ غروب؟ وأيُّ ليل؟ وأيّ نهار؟ أهي لسورية أم هي لمصر أم للجزائر أم للهند أم لليابان؟ إنّها ظواهر متعدّدة وممتدّة بامتداد الزّمان والمكان لا تنتهي، فالشّمس في أوقاتها كلّها طالعة غاربة، ففي هذا إشارة إلى أنّ ذِكْر الله سبحانه وتعالى وتسبيح الله عزَّ وجلَّ دائمٌ لا ينقطع.
ثمّ يذكر سبحانه وتعالى الغاية من التّسبيح، فيقول:
﴿لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾: ونلحظ أنّ الحقّ سبحانه وتعالى يحثُّ على العمل بالنّفعيّة، فلم يقُل: (لعلِّي أرضى)، قال: لعلّك أنت ترضى، فكأنّ المسألة عائدة عليك ولمصلحتك.
الرّضا: أنْ تصلَ فيما تحبّ إلى ما تؤمِّل، والإنسان لا يرضى إلّا إذا بلغ ما يريد، وحقّق ما يرجو، فرضا الإنسان له مراحل؛ لذلك فالحقّ سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسيّ كما روى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ؟ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَـمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً»([1])، فالغاية من التّسبيح الّذي كلّفك ربّك به أنْ ترضى أنت، وأن يعودَ عليك بالنّفع، وإلّا فالحقّ سبحانه وتعالى مُسبَّح قبل أن يخلق الكون كلّه، ولا يزيد تسبيحك في ملكه سبحانه وتعالى شيئاً.
([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الرِّقَاقِ، بَابُ صِفَةِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، الحديث رقم (6549).