الآية رقم (131) - وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى

﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾: بعد أن قال الله سبحانه وتعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾، حذّره أن ينظر إلى هؤلاء الجبابرة والمعاندين على أنّهم في نعمة تمتدّ عينه إليها، ومعنى (مَدّ العين) ألَّا تقتصر على مجرّد النّظر على قَدَر طاقتها، إنّما يُوجّهها باستزادة ويوسّعها لترى أكثر ممّا ينبغي، ومَدُّ العين يأتي دائماً بعد شغل النّفس بالنّعمة وتطلّعها إليها، فكأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: لا تشغل نفسك بما هم فيه من نعيم؛ لأنّه زهرة الدّنيا الّتي سرعان ما تفنى.

﴿إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ﴾: الأزواج لا يُراد بها هنا الرّجل والمرأة، إنّما تعني الأصناف المقترنة، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [فصّلت: من الآية 25]، كلّ واحد له شيطان يلازمه لا يفارقه، هذه هي الزّوجيّة المرادة، كذلك في قوله سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ﴾[الصّافّات].

﴿زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾: والزَّهْرة إشارة إلى سرعة النّهاية والحياة القصيرة، وأيّ وصف لها أقلّ من كَوْنها دنيا؟ وهذا الّذي أعطيناهم من متاع الدّنيا الزّائل فأخذوا يزهُون به، ما هو إلّا فتنة واختبار:

﴿لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾: والاختبار يكون بالخير كما يكون بالشّرّ، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾[الأنبياء: من الآية 35]، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾[الفجر]، وهنا يُصحِّح لهم الحقّ سبحانه وتعالى هذه الفكرة، يقول: كلاكما كاذب في هذا القول، فليست النّعمة دليل الإكرام، ولا سلبها دليلُ الإهانة: ﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا﴾ [الفجر].

﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾: أي: لا تشغل بالك بما أعطاهم الله عزَّ وجلَّ؛ لأنّه سبحانه سيعطيك أعظم من هذا، ورِزْق ربّك خير من هذا النّعيم الزّائل وأبْقى وأخلد؛ لأنّه دائم لا ينقطع في دار البقاء الّتي لا تفوتها ولا تفوتك، أمّا هؤلاء فنعيمهم موقوت، إمّا أنْ يفوتهم بالفقر، أو يفوتوه بالموت.

الآية رقم (132) - وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى

هنا يعطينا الحقّ تبارك وتعالى منهجاً للإصلاح، يبدأ بالوحدة الأولى وهو ربُّ الأسرة، فعليه أنْ يُصلح نفسه أوّلاً، ثمّ ينظر إلى الوحدة الثّانية، وهي الخليّة المباشرة له وأقرب النّاس إليه وهم أهله وأسرته، فهو مركز الدّائرة فإذا أصلح نفسه، فعليه أنْ يُصلح الدّوائر الأخرى المباشرة له.

﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ﴾: لتستقيم الوحدة الأولى في بناء الكون، فإذا ما صَلُحَتْ الوحدة الأولى في بناء الكون، فأَمَرَ كلُّ واحدٍ أهلَه بالصّلاة، استقام الكون كلّه وصَلُح حال الجميع.

والمسألة هنا لا تقتصر على مجرّد الأمر وتنتهي مسؤوليّته عند هذا الحدِّ، إنّما:

﴿وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾: لأنّ في الصّلاة مشقّة تحتاج إلى صبر، فالصّلاة تحتاج إلى وقت تأخذه من حركة الحياة الّتي هي سبب الخير والنّفْع لنا، فلا بُدَّ من صبر عليها.

وفَرْقٌ بين (اصبرْ) و(اصطبرْ): (اصبر) الفعل العاديّ، إنّما (اصطبرْ) فيها مبالغة؛ أي: تكلَّف حتّى الصّبر وتعَمَّده، ومن ذلك أن تحرص على أداء الصّلاة أمام أولادك لترسّخ في أذهانهم أهمّــيّة الصّلاة.

﴿لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا﴾: فما الّذي يشغلك عن حَضْرة ربّك، الرّزق؟ ﴿لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا﴾، فالّذي لا يستطيع العمل نُوجِّه إليه من الأغنياء مَنْ يطرق بابه ويعطيه، فالغنيّ شَرْطٌ في إيمانه الفقيرُ، وليس شرطاً في إيمان الفقير الغنيّ، وكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يعطينا إشارة إلى ضرورة البحث عن الفقير، والطَّرْق على بابه لإعطائه حقَّه في مال الغنيّ، لا ينتظره حتّى يسأل، ويُريق ماء وجهه وهو يطلب حَقّاً من حقوقه في مجتمع الإيمان.

﴿نَحْنُ نَرْزُقُكَ﴾: أي: لا نسألك رزقاً ثمّ نتركك، إنّما لا نسألك ثمّ نحن نرزقك، فاطمئنّ إلى هذه المسألة.

﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾: لأنّك إذا تأزَّمَتْ معك أمور الحياة تلجأ إلى الله عزَّ وجلَّ، كما كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا حَزَبَهُ أمر قام إلى الصّلاة، وتأزُّم الأمور يأتي حينما نفقد نحن الأسباب المعطاة من الله عزَّ وجلَّ، فنلجأ إلى المسبِّب سبحانه وتعالى، كما يقول في آيةٍ أخرى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطّلاق: من الآيتين 2-3].

الآية رقم (133) - وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى

﴿وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾: مرّت بنا: ﴿وَلَوْلَا﴾ في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ﴾[يونس: من الآية 19]، وتعني: امتناع التّعذيب لوجود الكلمة، أمّا ﴿لَوْلَا﴾ هنا فتعني: هلّا، للحثِّ والطّلب، ﴿لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾كما في قوله جلَّ جلاله: ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾[الكهف: من الآية 39]، فكأنّ القرآن الكريم لا يعجبهم، مع أنّهم أمّةُ بلاغة وبيانٍ، وأمّة فصاحة وكلام، والقرآن الكريم يخجلهم لفصاحته وبلاغته، فأيُّ آيةٍ تريدونها بعد هذا القرآن الكريم؟

﴿لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾: كدليل صِدْق على بلاغه عن الله عزَّ وجلَّ كالمعجزات الحسّيّة الّتي حدثتْ لمن قبله من الرّسل، كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء]، فالآيات من الله سبحانه وتعالى لا دَخْلَ لي فيها ولا أختارها، لذلك يقول تبارك وتعالى بعدها:

﴿أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾: فالقرآن الكريم جاء جامعاً ومُهيْمناً على الكتب السّابقة، وفيه ذِكْرٌ لما حدث فيها كلّه من معجزات حسّيّة، وهل شاهد هؤلاء معجزة عيسى عليه السلام في إبراء الأكمه والأبرص؟ هل شاهدوا عصا موسى عليه السلام أو ناقة صالح عليه السلام؟ لقد عرفوا هذه المعجزات عندما حكاها لهم القرآن الكريم، فصارت خبراً من الأخبار، وليست مَرْأىً، والمعجزة الحسِّيّة تقع مرّة واحدة، مَنْ رآها آمن بها، ومَنْ لم يرهَا فهي بالنّسبة إليه خبرٌ، ولولا أنّ القرآن الكريم حكاها ما صدَّقها أحدٌ منهم، لكنّ هؤلاء يريدون معجزة حِسِّيّة تصاحب رسالة محمّد صلّى الله عليه وسلّم العامّة للزّمان والمكان، ولو كانت معجزَة محمّد صلّى الله عليه وسلّم حِسِّيّة لكانت لـمَنْ شاهدها فقط، والحقّ سبحانه وتعالى يريدها معجزة دائمة لامتداد الزّمان والمكان، لذلك كان القرآن الكريم معجزة للقرون كلّها، ولو أفنى القرآن الكريم معجزته مرّة واحدة للمعاصرين له فحسب لاستقبلتْه القرون الآتية بلا إعجاز، لكن شاءتْ إرادة الله سبحانه وتعالى أن يكون إعجاز القرآن الكريم سرّاً مطموراً فيه، وكلّ قرن يكتشف من أسراره على قدر التفاتهم إليه وتأمّلهم فيه، وهكذا تظلّ الرّسالة محروسة بالمعجزة.

الآية رقم (134) - وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى

﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ﴾: يقول سبحانه وتعالى: أنا قطعت عليهم الحجّة؛ لأنّني لو أهلكتُهم على فَتْرة من الرّسل لقالوا: لماذا لم تُبقِنا إلى أن يأتينا رسول؟ فلو جاءنا رسولٌ لآمنّا به قبل أن نقع في الذُّلِّ والخِزْي، فمعنى: ولو أنّا أهلكناهم بعذاب من قبل أن يأتي القرآن الكريم لقالوا: ربّنا لولا أرسلتَ إلينا رسولاً لآمنّا به واهتدينا، وكما قال عنهم الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: من الآية 28]، إنّها مجرّد كلمة تنقذهم من الإشكال.

﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾: الذّلّ: ما يعتري الحييّ ممّا ينشأ عنه انكساره بعد أنْ كان متعالياً، والذّلّ يكون أوّلاً بالهزيمة، وأذلّ من الهزيمة الأَسْر؛ لأنّه قد يُهزم ثمّ يفِرُّ، وأذلُّ منهما القتل، فالذّلّ يكون في الدّنيا أمام المشاهدين له والمعاصرين لانكساره بعد تعاليه.

﴿وَنَخْزَى﴾: يعني: يُصيبنا الخزي، وهو تخاذل النّفس بعد ارتفاعها، ومن ذلك يقولون: أنت خزيت، يعني: كنت تنتظر شيئاً فوجدت خلافه، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: من الآية 194]، فإنْ عُجِّل لهم الذّلُّ في الدّنيا، فإنّ الخزي مُؤخَّر للآخرة حتّى تكون فضيحتهم على رؤوس الأشهاد.

الآية رقم (135) - قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى

﴿قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا﴾: التّربُّص: التّحفُّز لوقوع شيء بالآخرين، تقول: فلان يتربّص بي، يعني: يلاحظني ويتابعني، ينتظر منّي هَفْوة أو خطأ، فقوله: ﴿قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا﴾؛ أي: فكُلٌّ مِنَّا يتربّص بالآخر؛ لأنّنا أعداء، كلٌّ منّا ينتظر من الآخر هفوة ويترقّب ماذا يحدث له، وما دام الأمر كذلك فتربَّصُوا بنا كما تحبّون، ونحن نتربّص بكم كما نريد؛ لأنّ تربّصنا بكم يفرحنا، وتربّصكم بنا يُؤلمكم ويُحزنكم.

ومعنى ﴿قُلْ﴾: هنا أنّ القول: ﴿كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ﴾ ليست من عند محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فليس في يده زمام الكون ولا يعلم الغيب، فهو قَوْل الله عزَّ وجلَّ الّذي قال له: ﴿قُلْ﴾ يا محمّد: ﴿قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا﴾، فقيلتْ مِمَّن يملك زمام الأمور وأعنّتها، ولايخرج شيء عن مراده جل جلاله، وربّما لو قُلْت لكم من عندي تقولون: كلام بشر لا يملك من الأمور شيئاً، فخذوها لا بمقياس كلام البشر، إنّما بمقياس مَنْ يملك زمام أقْضية البشر كلّها.

﴿فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى﴾: متى سيحدث هذا؟ ساعةَ تقوم السّاعة حيث الانصراف، إمّا إلى جنّة، وإمّا إلى نار، ساعتها ستعلمون مَنْ أصحاب الصّراط السّويّ، نحن أمْ أنتم؟ لكنّه سيكون عِلْماً لا ينفع ولا يُجدي، فقد جاء بعد فوات الأوان، جاء وقت الحساب لا وقت العمل وتلافي الأخطاء، إنّه عِلْمٌ لا يترتّب عليه عمل ينجيكم، فقد انتهى وقت العمل، وهكذا يكون عِلْماً يُزيد حسرتهم، ويُؤذيهم ولا ينفعهم.

﴿الصِّرَاطِ﴾: الطّريق المستقيم.

﴿السَّوِيِّ﴾: المستقيم الّذي لا عِوَجَ فيه ولا أَمْت.

﴿وَمَنِ اهْتَدَى﴾: لأنّه قد يوجد الصّراط السّويّ، ولا يوجد مَنْ يسلكه، فالمراد: الصّراط السَّويّ ومَن اهتدى إليه وسلَكه.

وقد يظنّ ظانٌّ أنّ مسألة التّربُّص هذه قد تطول، فيقطع الحقّ سبحانه وتعالى هذا الظّنّ بقوله في سورة الأنبياء الآتية بَعدْ: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾[الأنبياء: من الآية 1]، وهكذا تنسجم السُّورتان، ويتّصل المعنى بين الآيات.

الآية رقم (128) - أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى

﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾: الهداية: الدّلالة والبيان، وتهديه؛ أي: تدلّه على طريق الخير.

والاستفهام يَرِد مرّة لتعلم ما تجهل، أو يرد للتّقرير بما فعلتَ، فالمراد بقوله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾: أفلم ينظروا إلى الأمم السّابقة وما نزل بهم لـمّا كَذَّبوا رسُل الله عزَّ وجلَّ؟ كما قال جل جلاله في آيةٍ أخرى: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ﴾[الصّافّات]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ﴾[الفجر]، ألَا تروْنَ هذه الآيات كلّها في المكذّبين؟ ألَا ترون أنّ الله سبحانه وتعالى ينصر رسُلَه؟ ولم يكُنْ سبحانه وتعالى ليبعثهم ثمّ يتخلّى عنهم، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصّافّات]، وقال جلّ جلاله: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحجّ: من الآية 40]، وبعد هذا كلّه يُعرِض المكذّبون، وكأنّهم لم يروا شيئاً من هذه الآيات.

وساعة نرى: ﴿كَمْ﴾ فلنعلم أنّها للشّيء الكثير الّذي يفوق الحصر، كما تقول لصاحبك: كم أعطيتُك، وكم ساعدتُك؛ أي: مرّات كثيرة، فكأنّك وكلته ليجيب بنفسه، ولا تستفهم منه إلّا إذا كان الجواب في مصلحتك قطعاً، فمعنى: ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾؛ أي: يُبيّن لهم ويدلُّهم على القرى الكثيرة الّتي كذَّبت رسلها، وماذا حدث لها وحاق بها من العذاب، وكان عليهم أنْ يتنبّهوا ويأخذوا منهم عِبرة ولا ينصرفوا عنها.

﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾: كقوله: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ﴾[الصّافّات]، فليس تاريخاً يُحكَى إنّما واقع ماثل تروْنَه بأعينكم، وتسيرون بين أطلاله.

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾: أي: عجائب لـمَنْ له عقل يفكّر.

﴿النُّهَى﴾: جمع نُهية، وهي العقل، والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لـمّا جاءه شابّ يشكو عدم صبره على غريزة الجنس، يريد أن يبيح له الزّنا -والعياذ بالله- أراد صلّى الله عليه وسلّم أن يُلقِّنه درساً يصرفه عن هذه الجريمة، فماذا قال له؟ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: إِنَّ فَتىً شَابّاً أَتَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ.. مَهْ، فَقَالَ: «ادْنُهْ»، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيباً، قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟»، قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ»، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ»، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ([1])، ولنا أنْ نتصوَّر هذا الموقف من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الّذي هزّ به ضمير هذا الشّابّ: كذلك النّاس لا يحبّون ذلك لأمّهاتهم، ولا لزوجاتهم، ولا لأخواتهم، ولا لبناتهم، فالعقل هو الميزان، وهو الّذي يُجرِي المعادلة، ويُوازِن بين الأشياء، وكذلك إنْ جاء بمعنى النُّهى أو اللُّبّ فإنّها تؤدّي المعنى نفسه: فــ ﴿النُّهَى﴾ من النّهي عن الشّيء، واللّبّ؛ أي: حقيقة الشّيء وأصله، لا أنْ يكون سطحيّ التّفكير يشرد منك هنا وهناك، فأولو العقل والفكر يميّزون بين الأشياء.

([1]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: تتمّة مسند الأَنصار، حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ الصُّدَيِّ بْنِ عَجْلَانَ بْنِ عَمْرِو، الحديث رقم (22211).

الآية رقم (129) - وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى

الكلام عن آيات الله جل جلاله في المكذّبين للرّسل وما حاق بهم من العذاب وقد مَرَّ عليها القوم دون أن يعتبروا بها، أو يرتدعوا، أو يخافوا أن تكون نهايتهم كنهاية سابقيهم، وربّما قال هؤلاء القوم: ها نحن على ما نحن عليه دون أن يصيبنا شيء من العذاب، لا صَعْق ولا مَسْخ ولا ريح، فبماذا تهدّدنا؟ لذلك يوضّح لهم الحقّ سبحانه وتعالى هذه المسألة: ما منعنا أنْ نفعل بكم ما فعلنا بسابقيكم من المكذّبين بالرّسل، وما منعنا من إذلالكم وتدميركم إلّا شيءٌ واحد هو كلمة سبقتْ من الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾، فما هذه الكلمة الّتي سبقتْ من الله عزَّ وجلَّ، ومنعتْ عنهم العذاب؟ المراد بالكلمة قوله سبحانه وتعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال]، فهذه الكلمة الّتي سبقت منّي هي الّتي منعتْ عنكم عذابي، والرّسول صلّى الله عليه وسلّم يوضّح هذه المسألة فيقول: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يَخْرُجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً»([1])، فإنْ قال قائلٌ: الله سبحانه وتعالى يهدّد الّذين كذّبوا محمّداً صلّى الله عليه وسلّم بأنْ يُنزل بهم ما أنزل بالمكذِّبين من الأمم السّابقة، وها هم كفّار مكّة يُكذّبون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دون أن يحدث لهم شيء، نقول: لأنّ لهم أمانين من العذاب، الكلمة الّتي سبقتْ، والأجل المسمّى عند الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾، فلكلّ واحد أَجَلٌ معلوم.

﴿لَكَانَ لِزَامًا﴾: أي: لزم لزاماً أنْ يحيق بهم ما حاقَ بالأمم السّابقة.

([1]) أخبار مكّة للفاكهي: ج4، ص 258، الحديث رقم (2578).

الآية رقم (130) - فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى

فما دام القوم يُكذِّبون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم في مأمن من العذاب، فلا بُدَّ أن يتمادوا في تكذيبهم، ويستمرّوا في عنادهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّهم لم يروا العذاب؛ لذلك يتوجّه الحقّ سبحانه وتعالى إلى النّاحية الأخرى فيعطي رسوله صلّى الله عليه وسلّم المناعة اللّازمة لمواجهة هذا الموقف:

﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾: لأنّ لك بكلّ صبر أجراً يتناسب مع ما تصبر عليه، والصّبر قد يكون مَيْسوراً سهلاً في بعض المواقف، وقد يكون شديداً وصَعْباً ويحتاج إلى مجاهدة، فمرَّة يقول الحقّ سبحانه وتعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: (اصبر)، ومرّة يقول: (اصطبر)، فما الأقوال الّتي يصبر عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قولهم له: ساحر، وقولهم: شاعر، وقولهم: مجنون وكاهن، كما قالوا عن القرآن الكريم: أضغاث أحلام، وقالوا: أساطير الأوّلين، فاصبر يا محمّد على هذا كلّه؛ لأنّ كلَّ قول من أقوالهم يحمل معه دليل كذبهم، فقولهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ساحر)، فمَن الّذي سَحَره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ سحر المؤمنين به، فلماذا لم يسحرْكم أنتم أيضاً، وتنتهي المسألة؟ فبقاؤكم على عناده والكفر به دليل براءته من هذه التّهمة، وقولهم: (شاعر)، كيف وهم أمّة صناعتها الكلام، وفنون القول شعره ونثره، فكيف يَخْفى عليهم أسلوب القرآن الكريم؟ والشّعر عندهم كلام موزون ومُقفّى، فهل القرآن الكريم كذلك؟ ولو جاء هذا الاتّهام من غيركم لكان مقبولاً، أمّا أنْ يأتيَ منكم أنتم يا مَنْ تجعلون للكلام أسواقاً ومعارض فهذا غير مقبول منكم، أمّا قولهم: (مجنون)، فالمجنون لا يدري ما يفعل، ولا يعقل تصرّفاته ولا يُسأل عنها، ولا نستطيع أنْ نتّهمه بشيء فنقول عنه مثلاً: كذّاب أو قبيح؛ لأنّ آلة الاختيار عنده مُعطّلة، والمجنون ليس له خُلُق، والحقّ سبحانه وتعالى يخاطب رسوله صلّى الله عليه وسلّم: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم]، والخُلق هو الـمَلَكة المستقرّة للخير، فكيف يكون محمّد مجنوناً، وهو على خُلُقٍ عظيم؟ ثمّ هل جرَّبْتُم عليه شيئاً ممّا يفعله المجانين.

أمّا قولهم: إنّ رسول الله افترى هذا القرآن الكريم، كيف وأنتم لم تسمعوا منه قبل البعثة شِعْراً أو خطباً، ولم يسبق أن قال شيئاً مثل هذا؟ كيف يفتري مثل هذا الأسلوب المعجز، وليس عنده صنعة الكلام؟ وقد تحدّاهم الله عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾[يونس: من الآية 38].

﴿وَسَبِّحْ﴾: والتّسبيح هو التّنزيه لله عزَّ وجلَّ، وهو صفة لله سبحانه وتعالى قبل أنْ يخلق مَنْ يُسبِّحه ويُنزِّهه؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى في استهلال سورة (الإسراء): ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾[الإسراء: من الآية 1]، فقال: نزّه فعل الله سبحانه وتعالى عن أفعالك، فإذا كان التّسبيح ثابتاً لله عزَّ وجلَّ قبل أن يوجد المسبِّح، ثمّ سبّح لله أوّل خلقه، ولا يزالون يُسبِّحون، فأنت أيضاً سبِّح باسم ربّك الأعلى.

﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾: لأنّ من لوازم الخلق أن يكون مختلفاً في الأهواء والأغراض والمصالح، يتشاكلون ويتحاربون على عَرَضٍ زائل، فمنهم الظّالم والمظلوم، والقويّ والضّعيف، فلا بُدَّ من وجود واحد لا توجد فيه صفة من هذه الصّفات، ليضع للبشر القانون والقسطاس المستقيم الّذي يُنظِّم حياة الخَلْق، وهو الخالق سبحانه وتعالى، تنزَّه عن مشابهة الأحداث كلّها، وهذه نعمة يجب أن نشكر الله عزَّ وجلَّ ونحمده على وجودها فيه، نحمده على أنّه ليس كمثله شيء، والتّسبيح والتّنزيه يعني المقياس الّذي يضبط العالم، فساعةَ أن تُسبِّح الله اذكر أنّ التّسبيح نعمة، فاحمد الله سبحانه وتعالى على أنّه لا شيءَ مثلُه، سبِّح تسبيحاً مصحوباً بحمْدِ ربّك؛ لأنّ تنزيه المولى إنّما يعود بالخير على مَنْ خلق، وهذه نعمة تستحقّ أن تحمدَ الله سبحانه وتعالى عليها، فلا يحفظ التّوازن في الكون إلّا قوّة مغايرة للخَلْق.

﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾: أي: تسبيحاً دائماً مُتوالياً، كما أنّ نِعَم الله سبحانه وتعالى عليك متوالية لا تنتهي، فكلُّ حركة من حركاتك نعمة، النّوم نعمة، والاستيقاظ نعمة، الأكل نعمة، والشّرب نعمة، البصر والسّمع، كلّ حركة من حركات الأحداث نعمة تستحقّ الحمد، وكلّ نعمة من هذه ينطوي تحتها نِعَم، لذلك فالحقّ سبحانه وتعالى يعطينا زمن التّسبيح، فنعيشه في الوقت كلّه: ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ﴾.

﴿آنَاءِ﴾: جمع إنْي، وهو الجزء من الزّمن، وهذا الجزء يترقَّى حسْب تنبّه الإنسان لتسبيح التّحميد، فمعنى التّسبيح آناء اللّيل، يعني أجزاء اللّيل كلّه، فهل يعني هذا أن يظلّ الإنسانُ لا عملَ له إلّا التّسبيح؟ يمكن أن تُجزّىء اللّيل إلى ساعات، فتُسبِّح كلّ ساعة، أو تترقّى فتسبّح كلّ دقيقة، أو تترقّى فتُسبِّح كلّ ثانية، وهكذا حسْب مقامات المسبّح الحامد وأحواله، فهناك من عباد الله عزَّ وجلَّ مَنْ لا يفتر عن تسبيحه لحظة واحدة، فتراه يُسبِّح الله سبحانه وتعالى في كلّ حركة من حركاته؛ لأنّه يعلم أنّه لا يؤدّيها بذاته بدليل أنّها قد تُسْلَب منه في أيّ وقت، فأجزاء الوقت تختلف باختلاف المقامات والأحوال، ألَا تراهم في وحدة القياس يقيسون بالمتر، ثمّ بالسّنتيمتر، ثمّ بالملّيمتر، وفي قياس الوقت توصّل العلماء إلى أجهزة تُحدِّد جزءاً من سبعة آلاف جزء من الثّانية.

﴿وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾: ليستوعب الزّمن كلّه ليله ونهاره، والمقامات والأحوال كلّها؛ لذلك يقول بعض العارفين في نصائحه الّتي تضمن سلامة حركة الحياة: “اجعل مراقبتك لمن لا تخلو عن نظره إليك”، فهذا الّذي يستحقّ المراقبة، وعلى المرء أنْ يتنبّه لهذه المسألة، فلا تُكنْ مراقبته لمن يغفل عنه، أو ينصرف، أو ينام عنه، “واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك”، فإذا شربتَ كوب ماءٍ فقُلْ: الحمد لله أن أرواك، وساعةَ تشعر بنشاطها في نفسك قل: الحمد لله، وهكذا تكون موالاة حمد الله، والمداومة على شُكْره، “واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه”، فبما أنّك لا تستغني عنه، فهو الأَوْلَى بطاعتك، “واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن مُلْكه وسلطانه”، وإلَّا فأين يمكنك أن تذهب؟

أطلق زمن التّسبيح باللّيل، فقال: ﴿آنَاءِ اللَّيْلِ﴾، وحدّده في النّهار فقال: ﴿وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾؟ قالوا: لأنّ النّهار عادة يكون محلّاً للعمل والسَّعي، فربّما شغلك التّسبيح عن عملك، وربّنا يأمرك أن تضربَ في الأرض وتُسهِم في حركة الحياة، ألَا تقرأ قول الله عزَّ وجلَّ في سورة الجمعة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الجمعة]، أمّا في اللّيل فأنت مستريح، يمكنك التّفرّغ فيه لتسبيح الله سبحانه وتعالى في أيِّ وقتٍ من أوقاته.

ويلفتنا قوله سبحانه وتعالى: ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ﴾، فأيّ طلوع؟ وأيّ غروب؟ وأيُّ ليل؟ وأيّ نهار؟ أهي لسورية أم هي لمصر أم للجزائر أم للهند أم لليابان؟ إنّها ظواهر متعدّدة وممتدّة بامتداد الزّمان والمكان لا تنتهي، فالشّمس في أوقاتها كلّها طالعة غاربة، ففي هذا إشارة إلى أنّ ذِكْر الله سبحانه وتعالى وتسبيح الله عزَّ وجلَّ دائمٌ لا ينقطع.

ثمّ يذكر سبحانه وتعالى الغاية من التّسبيح، فيقول:

﴿لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾: ونلحظ أنّ الحقّ سبحانه وتعالى يحثُّ على العمل بالنّفعيّة، فلم يقُل: (لعلِّي أرضى)، قال: لعلّك أنت ترضى، فكأنّ المسألة عائدة عليك ولمصلحتك.

الرّضا: أنْ تصلَ فيما تحبّ إلى ما تؤمِّل، والإنسان لا يرضى إلّا إذا بلغ ما يريد، وحقّق ما يرجو، فرضا الإنسان له مراحل؛ لذلك فالحقّ سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسيّ كما روى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ؟ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَـمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً»([1])، فالغاية من التّسبيح الّذي كلّفك ربّك به أنْ ترضى أنت، وأن يعودَ عليك بالنّفع، وإلّا فالحقّ سبحانه وتعالى مُسبَّح قبل أن يخلق الكون كلّه، ولا يزيد تسبيحك في ملكه سبحانه وتعالى شيئاً.

([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الرِّقَاقِ، بَابُ صِفَةِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، الحديث رقم (6549).

الآية رقم (120) - فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى

﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ﴾: نلحظ أنّ الحقّ سبحانه وتعالى اختار لعمل الشّيطان اسماً يناسب الإغراء بالشّيء، وهي كلمة (الوَسْوَسة) وهي في الأصل صوت الحليّ؛ أي: الذّهب الّذي تتحلَّى به النّساء، كما نقول: نقيق الضّفادع، وصهيل الخيل، وخُوار البقر، ونهيق الحمير، وثغاء الشّاة، وخرير الماء، وحفيف الشّجر، وكذلك الوسوسة اسمٌ لصوت الحليّ الّذي يجذب الأسماع، ويُغرِي بالتّطلّع إليه، وكأنّ الله سبحانه وتعالى يُحذِّرنا أنّ الشّيطان سيدخل لنا من طريق الإغراء والتّزيين.

فما الّذي وَسوس به إلى آدم؟ ﴿قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾، ونعجب لإبليس: ما دُمْت تعرف شجرة الخُلْد والملْك الّذي لا يبلى، لماذا لم تأكل أنت منها وتحوز هذه الميّزة؟!

الآية رقم (121) - فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى

﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾: أي: بعد أن أكلا من هذه الشّجرة ظهرتْ لهما سوءاتهما، والسَّوْأة هي العورة؛ أي: المكان الّذي يستحي الإنسان أن ينكشف منه.

لكن متى أحسَّ آدم وزوجه بسوءاتهما، أبعد الأكل عموماً من شجر الجنّة، أم بعد الأكل من هذه الشّجرة بالذّات؟

الحقّ تبارك وتعالى رتَّب ظهور العورة على الأكل من الشّجرة الّتي نهاهما عنها: ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾، فقبْل الأكل من هذه الشّجرة لم يعرفا عورتيهما، ولم يعرفا عمليّة الإخراج للطّعام؛ لأنّ الغذاء كان طهيٌ بـ ﴿كُن﴾، فيعطي القدرة والحياة دون أن يخلّف في الجسم أيَّ فضلات، أمّا عندما خالفوا وأكلوا من الشّجرة بدأ الطّعام يختمر وتحدث له عمليّة الهضم الّتي نعرفها، فكانت المرّة الأولى الّتي يلاحظ فيها آدم وزوجه مسألة الفضلات، ويلتفتان إلى عورتيهما، وهنا مسألة رمزيّة ينبغي الالتفات إليها، فحين نرى أيّ ثغرة في المجتمع فلنعلم أنّ هناك تعطيلاً للقيم الإلهيّة.

﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾: أي: أخذا يلصقان الورق على عورتيهما لسترها هكذا بالفطرة.

﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾: أي: فيما قبل النّبوّة، وفي مرحلة التّدريب، والإنسان في هذه المرحلة عُرْضة أنْ يصيب ويخطىء، فإنْ أخطأ في هذه المرحلة لا نضربه بل نُصوِّب له الخطأ، كالتّلميذ في فترة الدّراسة، إنْ أخطأ يصوِّب له الأستاذ، أمّا في الامتحان فيحاسبه.

﴿فَغَوَى﴾: يعني: لم يُصِبْ الحقيقة، كما يقولون لمن تاه في الصّحراء: غاوٍ؛ أي: تائه.

ثمّ تأتي المرحلة الأخرى: مرحلة العِصْمة.

الآية رقم (122) - ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى

فمثَّل آدم دَوْر الإنسان العاديّ الّذي يطيع ويعصي، ويسمع كلام الشّيطان، لكنّ ربّه عزَّ وجلَّ شرعَ له التّوبة، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: من الآية 37]، فآدم لـمّا عصى لم يكن نبيّاً حينها، كما يقول بعضهم، فقوله:

﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ﴾: هذه بداية لمرحلة النّبوّة في حياة آدم عليه السلام.

﴿ثُمَّ﴾: تعني التّرتيب مع التّراخي.

﴿اجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾: اصطفاه ربّه، ولم يقل الحقّ سبحانه وتعالى: (ثمّ اجتباه الله)، إنّما: ﴿اجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾؛ لأنّ الرّبّ المتولّي للتّربية والرّعاية، ومن تمام التّربية الإعداد للمهمّة، ومن ضمن إعداد آدم عليه السّلام لمهمّته أنْ يمرَّ بهذه التّجربة، وهذا التّدريب في الجنّة.

الآية رقم (123) - قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى

أي: اهبطا إلى الأرض، واعلما أنّ هناك أمراً ونهياً وعدوّاً يوسوس ويُزيِّن ويُغوِي حتّى يُظهِر عوراتكم، وكأنّه عزَّ وجلَّ يُعطي آدم عليه السلام المناعة الكافية له ولذرّيّته من بعده لتستقيم لهم حركة الحياة في ظلّ التّكاليف؛ لأنّ التّكاليف إمّا أمر وإمّا نهي، والشّيطان هو الّذي يُفسد علينا هذه التّكاليف، ومع ذلك لا ننسى طَرَفاً آخر هو النّفس الأمَّارة بالسّوء الّتي تُحرِّكنا نحو المعصية والمخالفة، إضافة لعدوّنا الأساسيّ الّذي هو الشّيطان.

﴿اهْبِطَا﴾: بصيغة التّثنية أمر لاثنين: آدم مطمور فيه ذرّيّته، وإبليس مطمور فيه ذرّيّته، فقوله: ﴿اهْبِطَا﴾ إشارة إلى الأصل، آدم وذريّته وإبليس وذريّته، وقوله في موضعٍ آخر: ﴿اهْبِطُوا﴾ [البقرة: من الآية 38]، إشارة إلى ما يتفرّع عن هذا الأصل.

﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾: أي: بعض عدوّ للبعض الآخر.

﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾: فإيّاكم أنْ تجعلوا الهدى من عندكم؛ لأنّ الهدى إنْ كان من عندكم فلن ينفع ولن يفلح.

﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾: إنّ هدى الله عزَّ وجلَّ ومنهجه هو سبيل سلامة الإنسان وقانون صيانته، والله سبحانه وتعالى أرسل الرّسالات والأنبياء لصلاح الخلق، وجعل لهم: افعل هذا ولا تفعل هذا، هذا حلال وهذا حرام، لذلك يقول سبحانه وتعالى بعدها: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾، فإنْ كانت هذه نتيجة مَنِ اتّبع هدى الله سبحانه وتعالى وعاقبة السّير على منهجه جلّ جلاله، فما عاقبة مَنْ أعرض عنه؟

الآية رقم (124) - وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى

الإعراض: هو الانصراف، وأن تعطيه عَرْض أكتافك.

﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾: الضّنْك: هو الضّيق الشّديد الّذي نحاول أنْ نُفلتَ منه هنا أو هناك فلا نستطيع، والمعيشة الضَّنْك تأتي مِنَ الإعراض عن ذكر الله عزَّ وجلَّ؛ لأنّ مَنْ آمن بإله إنْ عَزَّتْ عليه الأسباب لا تضيق به الحياة أبداً؛ لأنّه يعلم أنّ له ربّاً يُخرِجه ممّا هو فيه، أمّا غير المؤمن فحينما تضيق به الأسباب وتُعجِزه لا يجد مَنْ يلجأ إليه فينتحر أو يكتئب، المؤمن يقول: لي ربٌّ يُفرِّج كَرْبي، كما يقول عزَّ وجلَّ: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرّعد]، لذلك يقولون: لا كَرْب وأنت رَبٌّ، والحقّ تبارك وتعالى أعطانا مثالاً لهذا الرّصيد الإيمانيّ في قصّة موسى عليه السلام مع فرعون، حينما حُوصِر موسى عليه السلام هو وقومه بين البحر من أمامهم وفرعون بجنوده من خلفهم، وأيقن القوم أنّهم مُدْركون، ماذا قال نبيّ الله موسى عليه السلام؟ ﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾[الشّعراء].

الآية رقم (125) - قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا

﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى﴾: كلمة: ﴿أَعْمَى﴾: جاءت في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾[الإسراء]، والمراد بالعَمَى ألَّا تُدرِكَ المبصَرات، وقد توجد المبصَرات ولا تتّجه لها بالرّؤية، فكأنّك أعمى لا ترى، وكذلك المعرِض عن الآيات الّذي لا يتأمّلها، فهو أعمى لا يراها، لذلك في الآخرة يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾[الإسراء: من الآية 97].

وقد وجد كثير من المشكّكين في هذه الآية شيئاً ظاهريّاً يطعنون به على أسلوب القرآن الكريم، حيث يقول هنا: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى﴾، وفي موضع آخر يقول: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾[الكهف: من الآية 53]، فنفى عنهم الرّؤية في آية، وأثبتها لهم في آيةٍ أخرى، وفاتَ هؤلاء المتمحِّكين أَنّ الإنسانَ بعد البعث يمرُّ بمراحل عِدَّة: فساعةَ يُحشرون من قبورهم يكونون عُمْياً حتّى لا يهتدوا إلى طريق النّجاة، لكن بعد ذلك يُريهم الله سبحانه وتعالى بإيلامٍ آخر ما يتعذّبون به من النّار، وهذا الّذي حاق بهم جزاء لما صنعوه، فقد قدَّموا العمى والصّمم والبكم في الدّنيا، فلمّا دعاهم الرّسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الله عزَّ وجلَّ صَمُّوا آذانهم.

الآية رقم (126) - قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى

﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا﴾: أي: نعاملك كما عاملتنا، فننساك كما نسيت آياتنا.

والآيات: جمع آية، وهي الأمر العجيب، وتُطلق على الآيات الكونيّة الّتي تلفت إلى المكوِّن سبحانه وتعالى، وتُطلَق على المعجزات الّتي تؤيّد الرّسل، وتثبت صِدْق بلاغهم عن الله عزَّ وجلَّ، وإنْ كانت الآيات الكونيّة تُلفِت إلى قدرة الخالق عزَّ وجلَّ وحكمته، فالرّسول هو الّذي يدلُّ النّاس على هذه القوّة، وعلى صاحب هذه الحكمة والقدرة الّتي يبحث عنها العقل، وأنت كذَّبْتَ بهذه الآيات كلّها ولم تلتفت إليها، فلمّا نسيت آيات الله جل جلاله كان النّسيان جزاءَك جزاءً وفَاقاً، والنّسيان هنا يعني التّرك، وإلّا فالنّسيان الّذي يقابله الذّكر مُعْفىً عنه ومعذور صاحبه.

﴿وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾: أي: تُنسَى في النّعيم وفي الجنّة، لكنّك لا تُنسى في العقاب والجزاء.

الآية رقم (127) - وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى

﴿وَكَذَلِكَ﴾: أي: مثل هذا الجزاء.

﴿نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ﴾: الإسراف: تجاوز الحدِّ في الأمر الّذي له حَدٌّ معقول، فالأكْل مثلاً جعله الله عزَّ وجلَّ لاستبقاء الحياة، فإنْ زاد عن هذا الحدِّ فهو إسراف، ودَخْلُ الإنسان الّذي يسَّره الله سبحانه وتعالى له يجب أن ننفق منه في حدود، فإنْ أنفقناه كلّه فقد أسرفْنا، ولن نتمكّن من أن نُرقِّي أنفسنا في الحياة، ولذلك يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء: من الآية 27]، وللإسلام نظرته الواعية في الاقتصاديّات، فالحقّ يريد منّا أنْ ننفق، ويريد منّا ألَّا نُسرِف، وبين هذين الحدَّيْن تسير دَفّة المجتمع، ويدور دولاب الحياة، فإنْ بالغنا في حَدٍّ منهما تعطّلتْ حركة الحياة، وارتبك المجتمع وارتفعت الأسعار وبارت السّلع، وقد أوضح الحقّ سبحانه وتعالى هذه النّظرة في قوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان]، فربُّنا جلّ وعلا يريد منّا أنْ نجمع بين الأمرين؛ لأنّ التّقتير والإمساك يُعطِّل حركة الحياة، والإسراف يُجمِّد الحياة ويحرم الإنسان من التّرقّي، والكنز للمصلحة العامّة وليس للمصالح الخاصّة؛ لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾[الإسراء: من الآية 29].

﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ﴾: فأنزل الإسراف منزلة تالية لعدم الإيمان؛ لذلك قال بعدها:

﴿وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾: لأنّه حين ينقل الحلال إلى دائرة الحرام، أو الحرام إلى دائرة الحلال، فكأنّه عطّل آيات الله عزَّ وجلَّ.

﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾: فالكلام هنا عن الدّنيا، فلا تظنّ أنّ الله سبحانه وتعالى يُؤخِّر للمشرك والملحد والكافر العذاب كُلَّه، فهناك أشياء تُعجّل له في الدّنيا لا تُؤخَّر، مثل عقوق الوالدين، ومثل الرّبا، وأوّل مَا لا يُؤخَّر ويُعجّل الله سبحانه وتعالى به في الدّنيا عقوبة الظّلم، فلا يمكن أنْ يموتَ الظّالم قبل أن يرى المظلوم ما صنعه الله سبحانه وتعالى به.

﴿وَأَبْقَى﴾: أبْقَى؛ لأنّ عذاب الدّنيا ينتهي بالموت، أو بأن يرضى عنك المعذِّب ويرحمك، وقد يتوسّط لك أحدٌ فيزيل عنك العذاب، أمّا في الآخرة فلا شيء من ذلك، ولا مفرَّ من العذاب ولا مَلْجأ.

الآية رقم (111) - وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا

﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾: الوجه أشرف وأكرم شيء في تكوين الإنسان، وهو الّذي يُعطِي الشّخص سِمَته المميّزة؛ لذلك كان السّجود لله سبحانه وتعالى في الصّلاة علامة الخضوع والخشوع والذّلَّة والانكسار له عزَّ وجلَّ، عندما تضع أشرف جزءٍ فيك على الأرض وتباشر به التّراب، والإنسان لا يعنُو بوجهه إلّا لـمَنْ يعتقد اعتقاداً جازماً بأنّه يستحقُّ هذا السّجود، وأنّ السّجود لله عزَّ وجلَّ وحده يحميه من السّجود لغيره، فاسْجُدْ لواحدٍ يكْفك السّجود لسواه، واعمل لوجه واحد يكْفك الأوْجُه كلّها.

﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾: حمل: يعني أخذه عبئاً ثقيلاً عليه.

والظّلم في أصله أنْ تأخذَ خيراً ليس لك لتنتفع به وتزيد ما عندك، فأنت في الظّاهر تزداد كما تظنّ، إنّما الحقيقة أنّك تُحمِّل نفسك وِزْراً وحملاً ثقيلاً، والظّلم ظلمات.

الآية رقم (112) - وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا

﴿الصَّالِحَاتِ﴾: هي الأعمال الّتي تعود بالخير على الإنسان أو على مجتمعه، أو على وطنه، وأضعفُ الإيمان في عمل الصّالح أن تترك الصّالح في ذاته على صلاحه؛ لذلك إزالة الأذى عن الطّريق شعبة من شعب الإيمان، كأن تجد بئراً يشرب منه النّاس فلا تطمسه ولا تلوّثه فهذا من العمل الصّالح، ومن رحمة الله عزَّ وجلَّ بنا أنّه سبحانه وتعالى حينما حثَّنا على العمل الصّالح قال:

﴿مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾: و﴿مَنْ﴾ هنا للتّبعيض، فيكفي أنْ تفعل بعض الصّالحات؛ لأنّ طاقة الإنسان لا تسع الصّالحات كلّها ولا تقوى عليها، فحسْبُنا أن نأخذ منها طرفاً، وآخر يأخذ طرفاً، فإذا ما تجمّعتْ هذه الأطراف كلّها من العمل الصّالح من الخلق كوَّنَتْ لنا الصّلاح الكامل، كما سبق أن ذكرنا أنّه ليس بوسع أحدٍ منّا أن يجمع الكمال المحمّديّ في أخلاقه، ففي كلّ فرد من أفراد الأمّة خصلة من خصال الخير، بحيث إذا تجمّعت خصال الكمال في الخلق جميعاً أعطتنا الكمال المحمّديّ.

ﳊ ﳋ: لأنّ الإيمان شرطٌ في قبول العمل الصّالح، فإنْ جاء العمل الصّالح من غير المؤمن أخذ أجره في الدّنيا ذِكْراً وشُهْرة وتخليداً لذكراه، فقد عمل ليُقال، وقد قيل، وانتهتْ المسألة.

﴿فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا﴾: والظّلم هنا غير الظّلم في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾ [طه: من الآية 111]، فالظّلم هنا من الإنسان لنفسه أو لغيره، إنّما ﴿فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا﴾؛ أي: ظُلْماً يقع عليه، بألَّا يأخذ حقّه على عمله، بمعنى أنّنا لا نعاقبه على سيّئة لم يعملها، ولا نضيع عليه ثواب حسنة عملها؛ لأنّ الحقّ سبحانه وتعالى لا يظلم النّاس مثقال ذرّة.

﴿وَلَا هَضْمًا﴾: الهَضْم يعني النّقصان، فلا ننقصه أجره وثوابه، ومنه هضم الطّعام، فكمّيّة الطّعام الّتي نأكلها تُهضَم ثمّ تُمتصّ، وتتحوّل إلى سائلٍ دمويّ، فتأخذ حَيِّزاً أقلّ، ومنه أيضاً قولنا: فلان مهضوم الحقّ، يعني: كان له حقّ فلم يأخذه.

لكن ما فائدة عطف ﴿هَضْمًا﴾ على ﴿ظُلْمًا﴾، فنَفْي الظّلم نَفْي للهضم؟ نقول: لأنّه مرّة يُبطل الثّواب نهائيّاً، ومرّة يُقلِّل الجزاء على الثّواب.

الآية رقم (113) - وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا

﴿وَكَذَلِكَ﴾: أي: كالإنزال الّذي أنزلناه إلى الأمم السّابقة، فكما أرسلنا إليهم رُسُلاً أرسلنا إلى الأمم المعاصرة لك رسلاً، إلّا أنّ فارق الرّسالات أنّهم بُعِثُوا لزمانٍ محدود، في مكان محدود، وبُعثْتَ للنّاس كافّة، وللزّمان كافّة إلى أنْ تقوم السّاعة.

ونفهم من كلمة: ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ أنّ الـمُنزَّل أعلى من الـمُنزَّل عليه، فالإنزال من شيء عالٍ، وكأنّ الحقّ تبارك وتعالى يلفت أنظارنا ويُصعِّد هممنا، فيقول: لا تهبطوا إلى مستوى الأرض؛ لأنّه يُقنِّن للحاضر ويجهل المستقبل، ويتحكّم فيه الهوى فتغيب عنه أشياء فيحتاج إلى استدراك، لذلك حين ينادينا إلى منهجه العلويّ يقول: ﴿قُلْ تَعَالَوْا﴾[الأنعام: من الآية 151]، يعني: اعلوا وخُذُوا منهجكم من أعلى، لا من الأرض.

﴿قُرْآنًا﴾: يعني: مقروء، كما قال: ﴿كِتَابًا﴾ [الأنبياء: من الآية 10]، يعني: مكتوب، ليُحفظ في الصّدور وفي السّطور.

وقال: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾: مع أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مُرْسَل إلى النّاس كافّة في امتداد الزّمان والمكان، والقرآن الكريم نزل معجزة للجميع، ولكنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو المباشر لهذه الأمّة العربيّة الّتي ستستقبل أوّل دعوة له، فلا بُدَّ أنْ تأتي المعجزة بلسانها؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾[إبراهيم: من الآية 4]، كما أنّ معجزة القرآن الكريم ليستْ للعرب وحدهم، إنّما تحدٍّ للإنس والجنّ على امتداد الزّمان والمكان، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ [الإسراء: من الآية 88]، وذلك لأنّ العرب قديماً كانوا يعتقدون أنّ لكل شاعرٍ أو خطيبٍ مفوّه شيطاناً يمُدُّه ويُوحِي إليه؛ لذلك أدخل الجنّ أيضاً في هذا المجال، وأدخل الله سبحانه وتعالى هذه الأكوان كلّها بإعجاز القرآن الكريم، لكنّه نزل بلسان عربيّ مبين، فهو حجّة على العرب أكثر من غيرهم؛ لأنّهم الحمَلة الأساسيّون لهذه الدّعوة الإسلاميّة، وإعجاز القرآن الكريم من حيث أسلوبه العربيّ وأدائه البيانيّ يختصّ بالعرب، لكنّ إعجاز القرآن الكريم للّغات كلّها في المنهج والعلوم والإخبار عن المستقبل..، وعندما نزل القرآن الكريم كانت البشريّة بين حضارتين معاصرتين، هما حضارة فارس في الشّرق، وحضارة الرّوم في الغرب، ثمّ الكونيّات الّتي تحدَّث القرآن الكريم عنها منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً، وما زال العلم الحديث يكتشفها الآن، فطبيعيّ أن يأتي القرآن الكريم عربيّاً؛ لأنّه نزل على رسولٍ عربيّ، وفي أمّة عربيّة، والحقّ سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾[إبراهيم: من الآية 4]، فهم الّذين يستقبلون الدّعوة، وينفعلون لها، ويقتنعون بها، ثمّ ينساحون بها في شتَّى بقاع الأرض، ومن العجيب أنّهم بدعوة القرآن الكريم أقنعوا الدّنيا الّتي لا تعرف العربيّة بالمبادىء والمناهج الّتي جاء بها القرآن الكريم؛ لأنّها مبادىء ومناهج لا تختلف عليها اللّغات.

ماذا تعني كلمة: ﴿عَرَبِيًّا﴾ في الآية؟ من أغرب ما نسمعه الآن تلك المؤامرة الكبيرة الّتي تُحاك على هذه الأمّة، حيث يحاولون الفصل بين القرآن الكريم وبين عروبة القرآن الكريم، ويحاولون الفصل بين الإسلام وبين العروبة، والتّشكيك بعروبة القرآن الكريم من أجل التّشكيك بالقرآن الكريم، والتّشكيك بنبوّة سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فظهر بعض أدعياء الثّقافة الّذين يلقون في وجوهنا أقذار الغرب، بأنّ ﴿عَرَبِيًّا﴾ في قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ تعني التّمام والكمال والخلوّ من النّقص والعيب، وليس لها علاقة بالعرب كقوميّة أو كعروبة، فمعنى: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ على حسب أقوال هؤلاء الّذين فُتنوا بالغرب وبمؤامراته: قرآناً تامّاً خالياً من النّقص والعيب، واستدلّوا على ذلك بآية أخرى في القرآن الكريم يقول فيها سبحانه وتعالى: ﴿عُرُبًا أَتْرَابًا﴾[الواقعة]، (بضم العين والرّاء وفتح الباء) الّتي وردت كصفة للحور في الجنّة، فوصفت الآية الحور بالتّمام والخلوّ من العيب والنّقص، فـ ﴿عَرَبِيًّا﴾ هي التّمام ولا علاقة لها بالعروبة ولا بالقوميّة العربيّة ولا باللّسان العربيّ، ومن المؤسف أن نضطرّ إلى توضيح ما هو واضح لكلّ ذي لبّ وعقل، فمن أبسط قواعد التّفسير المعروفة لدى صغار طلّاب العلم فضلاً عن العلماء أنّ القرآن الكريم يفسّر بعضه بعضاً، وهذه الآية والآية في سورة (يوسف) تؤازرها آيات كثيرة تُظهر المضمون بجلاء ووضوح، لا يشذّ عنه إلّا جاهل لا علاقة له بالقرآن الكريم، أو مَن له مآرب أخرى من تشكيك وطعن بعروبة القرآن الكريم، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشّعراء]، فالحديث هنا عن اللّسان؛ أي: اللّغة، ومن هذه الآيات: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾[النّحل]، وهنا تُظهر الآية بوضوح أنّ من يدّعون أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد نقل القرآن الكريم من غيره ، فإنّما ادّعاؤهم باطل؛ لأنّ باقي الكتب الّتي يمكن النّقل منها أعجميّة، والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يعرف اللّغات الأعجميّة وهو كذلك أمّيّ، أمّا القرآن الكريم فمختلف عنها بكونه بلغة عربيّة واضحة، ومن الآيات أيضاً: ﴿لَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ [فصّلت: من الآية 44]، وهذه الآية تُظهر أنّ كلمة (عربيّ) هي الكلمة المعاكسة لـ (أعجميّ)؛ أي: من الواضح جدّاً أنّ المقصود هو اللّغة، أمّا قياس ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ على ﴿عُرُبًا أَتْرَابًا﴾ فهو منتهى الجهل باللّغة العربيّة وبالقرآن الكريم؛ لأنّ كلمة ﴿عُرُبًا أَتْرَابًا﴾ [الواقعة] الّتي جاءت وصفاً للحور في الجنّة لا علاقة لها لغويّاً بالموضوع، فالكلمة هي ﴿عُرُبًا﴾ بضمّ العين والرّاء، وليست (عَرَباً)، ولا علاقة للكلمتين ببعضهما من حيث المعنى أبداً، فكلمة ﴿عُرُبًا﴾ هي جمع لكلمة عُرُوب؛ أي: الّتي تُحبّ زوجها، وهو وصفٌ للزّوجة في الجنّة، أمّا ﴿عَرَبِيًّا﴾ فهي لا ريب وصف للّغة العربيّة.

إنّ التّشكيك بعروبة القرآن الكريم الهدف والغاية النّهائيّة منه هو الزّعم بأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم محمّد نقل القرآن الكريم من الكتب السّابقة، وأنّ القرآن الكريم أصله غير عربيّ، وذلك أنّ التّوراة والإنجيل لم تكن مترجمة للعربيّة أيّام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فالقرآن الكريم العربيّ معجزة ظاهرة للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّه عرف قصص الكتب السّابقة كلّها وهو لا يعرف لغتها، لذلك فإنّ من يضرب عروبة القرآن الكريم يريد أن يصل إلى هذه النّتيجة أنّ القرآن الكريم ليس عربيّاً، وبالتّالي يصبح التّشكيك في كون النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ناقلاً من الكتب الأخرى تشكيكاً قويّاً ومعتبراً، بالإضافة إلى ذلك كلّه أنّ هذا التّفسير بأنّ ﴿عَرَبِيًّا﴾ لا يعني اللّغة العربيّة، وإنّما يعني التّمام والكمال، لم يقل به عبر القرون وإلى يومنا هذا أيّ مفسّر أو نحويّ أو لغويّ أو عالم أو طالب علم ولا أيّ مُعجم أو قاموس عند تعرّضه لهذه الآيات، فمن أين استقى هؤلاء تفسيراتهم الجديدة؟ إلّا أن تكون وحياً جديداً يوحى إليهم أو ديناً جديداً تمليه عليهم دوائر المخابرات الغربيّة والأميركيّة والصّهيونيّة اليهوديّة الّتي دأبت على تشويه الإسلام إمّا باتّهامه بالتّطرّف أو بالتّحلّل الآن، أو تشويه الإسلام من خلال فصله عن العروبة، صحيح أنّ العربيّة ليست عرقاً ولا جنساً، لكن كما قيل عن العروبة: “إنّما العربيّة اللّسان”، يعني الّذي يتكلّم العربيّة فقط هو عربيّ، ومَن يدّعون أنّ العربيّ تعني (واضح) فهذا كلام غير دقيق؛ لأنّه عندما تكون: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾[الشّعراء]، كلمة: ﴿مُبِينٍ﴾ معناها: واضح، فإذا كانت كلمة: ﴿عَرَبِيٍّ﴾ بمعنى واضح أصبحت الآية: (بلسان واضح واضح)!! وهذا تكرار لا يحصل في القرآن الكريم، وإذا كان المقصود بالعربيّة هو اللّغة الواضحة فالسّؤال هنا: هي واضحة لمن؟ مفهومة لمن؟ هل هي مفهومة للبشر كلّهم؟ أو هي مفهومة لمجموعة بشريّة محدّدة هم العرب؟! إضافة إلى أنّ كلام المتكلّم الّذي يحاول التّشكيك يتضمّن جهلاً واضحاً بالمعنى اللّغويّ والاصطلاحيّ لأيّ كلمة، وهذا أمر معروف لدى العرب، فعندما نقول كلمة: صلاة، فالصّلاة باللّغة هي الدّعاء، لكن تمّ تخصيص هذا المعنى للتّعبير عن شعيرة وركن الصّلاة، وإذا أطلقنا لفظ الصّلاة لا يفهم أحدٌ من لفظ الصّلاة أنّها دعاء وإنّما الصّلاة المعروفة بالنّسبة إلى العرب والعربيّة، فكلمة (العربيّة) المقصود بها اللّغة العربيّة تحديداً، ولا يمكن أن يُفهَم منها إلّا الإشارة لهذه اللّغة، لذلك من يريد ليّ عُنُق الآيات وتحميل النّصوص ما لا تحتمله فلا يوجد لديه دليل عقليّ ولا نقليّ.

﴿وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ﴾: أي: حينما ينذر القرآن الكريم بشيء يُصرف هذا الإنذار على أوجه مختلفة، ويُكرَّر الإنذار لينبّه أهل الغفلة، يعني: لوَّنا فيه أساليب الوعد والوعيد كلّها.

والتّصريف: يعني التّحويل والتّغيير بأساليب شتَّى لتناسب استقبال الأمزجة المختلفة عند نزول القرآن الكريم لعلّها تصادف وَعْياً واهتماماً.

﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾: الاتّقاء عادة يكون للشّرّ والمعاصي المهلكة، أو يُحدِث لهم الذّكْر والشّرف والرّفعة بفعل الخيرات، وهذا من ارتقاءات الطّاعة؛ ذلك لأنّ التّكليف قسمان: قسم ينهاك عن معصية، وقسم يأمرك بطاعة، فينهاك عن الزّنا وشُرْب الخمر، ويأمرك بالصّلاة، فهم يتّقون الأوّل، ويُحدِث لهم ذِكْراً يوصيهم بعمل الثّاني.

وما دام القرآن الكريم نازلاً من أعلى فلا بُدَّ أن يقول بعدها:

الآية رقم (114) - فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا

﴿فَتَعَالَى﴾: تنزّه وارتفع عمّا يُشبه الحادث كلّه، تعالى ذاتاً، فليستْ هناك ذاتٌ كذاته، وتعالى بالصّفات فليست هناك صفة كصفاته، فإنْ وُجِدَتْ صفة في الخَلْق تشبه صفة في الخالق سبحانه وتعالى، فنأخذها في ضوء: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشّورى: من الآية 11].

﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾: تلفتنا إلى ضرورة التّطلّع إلى أعلى في الأخذ بالهداية، وكلّ ما جاء من عند الله سبحانه وتعالى هو حقّ، ومن ألفاظ تنزيه الله سبحانه وتعالى الّتي لا تُقال إلّا له سبحانه وتعالى كلمة: (سبحان الله)، أسمعتَ بشراً يقولها لبشر؟ وهناك كفرة وملاحدة ومنكرون للألوهيّة ومعاندون، ومع ذلك لم يقُلْها أحدٌ مَدْحاً في أحد، كذلك كلمة: (تعالى وتبارك) لا تُقال إلّا لله عزَّ وجلَّ، فنقول: (تباركت ربّنا وتعاليت)؛ أي: وحدك لا شريك لك.

﴿فَتَعَالَى اللَّهُ﴾: علا قَدْره وارتفع التّنزيه ارتفاعاً لا يصل إليه أحد، وتعالي الحقّ سبحانه وتعالى من مصلحة الخلق والكون، أمّا التّعالي في البشر فيما بينهم فأمْرٌ ممقوتٌ.

﴿الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾: هناك ملوك كثر في الدّنيا، أثبتَ الله سبحانه وتعالى لهم الملْك وسمَّاهم مُلُوكاً، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ﴾[يوسف: من الآية 50]، وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾[البقرة: من الآية 258]، لكنّهم ليسوا مُلوكاً بحقّ، الملك بحقّ هو الله جل جلاله؛ لأنّ ملوك الدّنيا ملوك في مُلْكٍ موهوب لهم من الله عزَّ وجلَّ، فيمكن أن يفوت مُلْكَه، أو يفوته الـمْلكُ فيموت، وإنْ ملَّك بعض الخلق شؤون بعض لمصلحتهم، فهو سبحانه وتعالى الّذي يهَب الملْك، وهو الّذي ينزعه إن أراد: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[آل عمران]، فالحقّ سبحانه وتعالى له الملْك الحقّ، ويهَبُ مَنْ يشاء مُلْكاً، لكن يظلّ الـمُلك في قبضة الله عزَّ وجلَّ؛ لأنّه سبحانه وتعالى قيُّوم.

ومن معاني ﴿الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾؛ أي: الثّابت الّذي لا يتغيّر.

فالحقّ تبارك وتعالى أنزل القرآن الكريم عربيّاً، وصرَّف فيه من الوعيد لعلّهم يتّقون أو يُحدث لهم ذكراً؛ لأنّه من حقّه أن يكون له ذلك؛ لأنّه مَلِك حقّ ليس له هوى فيما شرع.

﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾: وهذه مُقدِّمات ليطمئنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حِفْظ القرآن الكريم؛ لأنّه صلّى الله عليه وسلّم عندما كان ينزل عليه الوحي، يحاول إعادته كلمة كلمة، ويتعجّل حتّى لا ينسى من شدّة حرصه على القرآن الكريم، فنهاه الله عزَّ وجلَّ عن هذه العجلة:

﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ﴾: أي: لا تتعجّل، ولا تنشغل بالتّكرار والتّرديد، فسوف يأتيك نُضْجها حين تكتمل، فلا تَخْشَ أنْ يفوتك شيءٌ منه طالما أنّني تكفَّلْتُ بحِفْظه؛ لذلك يقول له في موضعٍ آخر: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾[الأعلى]، فاطمئنّ ولا تقلق على هذه المسألة.

﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾: هذه الآية تحثّ المؤمنين على الازدياد من طلب العلم، وأن يكون هذا الدّين كما أراده الله سبحانه وتعالى دين العقل والعلم، وهذا توجيه للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم للاستزادة من العلم، والله سبحانه وتعالى هو الحافظ الّذي يأمرك أن تدعو: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾، ونحن نحتاج إلى علوم الحياة أيضاً، عِلْمٌ يشمل الأزمنة والأمكنة، فلا بُدَّ من أنْ يكون هناك إعداد لهذه المهمّة، لذلك قال نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»([1])، والازدياد في طلب العلم، لم يحدّد نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم أنّ العلم هو العلم الشّرعيّ، وإنّما علوم الحياة في مجالاتها كلّها، حتّى يكون الإنسان خليفة ومستخلفاً في الأرض بما أراده الله سبحانه وتعالى، ونجد أيضاً أنّ الإمام الشّافعيّ رضي الله عنه يقول: طريق العلم ثلاثة أشبار، من اجتاز الشّبر الأوّل تكبّر، ومن اجتاز الشّبر الثّاني تواضع، ومن اجتاز الشّبر الثّالث قال: كلّما ازددت علماً زادني علمي بجهلي.

وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾، هو شعار بالنّسبة إلينا، أن نطلب العلم، ونكون دائماً على قمّته، فقد تخلّفنا عن ركب الحضارة وأصبحنا في ذيل الأمم؛ لأنّنا تخلّينا عن العلوم الكونيّة، والعلوم الّتي تُفيد الإنسان في شتّى المجالات.

([1]) سنن ابن ماجه: افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصّحابة والعلم، بَابُ فَضْلِ الْعُلَمَاءِ وَالْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، الحديث رقم (224).