هذه الآية العظيمة جامعةٌ لمفاتيح الخير كلّها، ونجد في هذه الآية ثلاثة أوامر: العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القُرْبى، وثلاثة نَواهٍ: تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ولـمّا نزلت هذه الآية قال ابن مسعود رضي الله عنه: “وَإِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ فِي القُرْآنِ لِحَلَالٍ وَحَرَامٍ وَأَمَرٍ وَنَهْيٍ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾”؛ لأنّها جمعتْ الفضائل كلّها الّتي يمكن أن تكون في القرآن الكريم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبّ أن يُسلِم عثمان بن مظعون، إلّا أنّ سيّدنا عثمان بن مظعون تريَّث في الأمر، عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِفِنَاءِ بَيْتِهِ بِمَكَّةَ جَالِسٌ، إِذْ مَرَّ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَكَشَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلا تَجْلِسُ؟»، قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَقْبِلَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُهُ إِذْ شَخَصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَظَرَ سَاعَةً إِلَى السَّمَاءِ، فَأَخَذَ يَضَعُ بَصَرَهُ حَتَّى وَضَعَهُ عَلَى يَمِينِهِ فِي الْأَرْضِ، فَتَحَرَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ جَلِيسِهِ عُثْمَانَ إِلَى حَيْثُ وَضَعَ بَصَرَهُ، وَأَخَذَ يُنْغِضُ رَأْسَهُ كَأَنَّهُ يَسْتَفْقِهُ مَا يُقَالُ لَهُ، وَابْنُ مَظْعُونٍ يَنْظُرُ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ، وَاسْتَفْقَهَ مَا يُقَالُ لَهُ، شَخَصَ بَصَرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى السَّمَاءِ كَمَا شَخَصَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَأَتْبَعَهُ بَصَرَهُ حَتَّى تَوَارَى فِي السَّمَاءِ، فَأَقْبَلَ إِلَى عُثْمَانَ بِجِلْسَتِهِ الْأُولَى، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ كُنْتُ أُجَالِسُكَ وَآتِيكَ، مَا رَأَيْتُكَ تَفْعَلُ كَفِعْلِكَ الْغَدَاةَ، قَالَ: «وَمَا رَأَيْتَنِي فَعَلْتُ؟»، قَالَ: رَأَيْتُكَ تَشْخَصُ بِبَصَرِكَ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعْتَهُ حَيْثُ وَضَعْتَهُ عَلَى يَمِينِكَ، فَتَحَرَّفْتَ إِلَيْهِ وَتَرَكْتَنِي، فَأَخَذْتَ تُنْغِضُ رَأْسَكَ كَأَنَّكَ تَسْتَفْقِهُ شَيْئًا يُقَالُ لَكَ، قَالَ: «وَفَطِنْتَ لِذَاكَ؟»، قَالَ عُثْمَانُ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ آنِفًا، وَأَنْتَ جَالِسٌ»، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: فَمَا قَالَ لَكَ؟ قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، قَالَ عُثْمَانُ: فَذَلِكَ حِينَ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي، وَأَحْبَبْتُ مُحَمَّداً([1])، ويُروى أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يعرض نفسه على قبائل العرب، وكان معه أبو بكر وعليّ رضي الله عنه، قال عليّ كرّم الله وجهه: فإذا بمجلس عليه وقار ومَهَابة، فأقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، فقام إليه مقرون بن عمرو وكان من شيبان بن ثعلبة فقال: إلى أيّ شيءٍ تدعونا يا أخا قريش؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾، فقال مقرون: إنّك دعوت إلى مكارم الأخلاق وأحسن الأعمال، أفِكتْ قريش إن خاصمتْك وظاهرتْ عليك، وعَنْ عِكْرِمَةَ رضي الله عنه، قَالَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ عَلَيَّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾، قَالَ: “أَعِدْ”، فَأَعَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: “وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَمَا يَقُولُ هَذَا بَشَرٌ”، وَقَالَ لِقَوْمِهِ: “وَاللَّهِ مَا فَيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمُ بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدَتِهِ مِنِّي، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ هَذَا الَّذِي يَقُولُ شَيْئاً مِنْ هَذَا، وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعَلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ”([2])، ومع شهادته هذه إلّا أنّه لم يؤمن، فقالوا: حَسْبُه أنّه شهد للقرآن الكريم وهو كافرٌ، وهكذا دخلتْ هذه الآيةُ قلوبَ هؤلاء القوم، واستقرّتْ في أفئدتهم؛ لأنّها آيةٌ جامعةٌ مانعةٌ، دعَتْ لكلّ خيرٍ، ونَهتْ عن كلّ شرٍّ، وهذا هو ديننا الإسلاميّ.
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ﴾: العدل هو الإنصاف والمساواة وعدم الميْل؛ لأنّه لا يكون إلّا بين شيئين متناقضين، لذلك سُمِّي الحاكم العادل مُنْصِفاً؛ لأنّه إذا مَثَلَ الخصمان أمامه جعل لكلٍّ منهما نصفَ تكوينه، وكأنّه قسَم نفسه نصفين لا يميل لأحدهما ولا قَيْد شعرة، هذا هو الإنصاف، ومن أجل الإنصاف جُعِل الميزان، والميزان تختلف دِقّته حَسْب الموزون، فحساسيّة ميزان الشّعير والقمح غير حساسيّة ميزان الجواهر مثلاً، وتتناهى دقّة الميزان عند أصحاب صناعة العقاقير الطّبّيّة، حيث أقلّ زيادة في الميزان يمكن أن تحوّل الدّواء إلى سُمٍّ، وقد شاهدنا تطوّراً كبيراً في الموازين، حتّى أصبحنا نزن أقلّ ما يمكن تصوّره، والعدل دائرٌ في أقضية الحياة كلّها من القمّة في شهادة أن لا إله إلّا الله إلى إماطة الأذى عن الطّريق، فالعدل مطلوبٌ في أمور التّكليف كلّها، في الأمور العقديّة الّتي هي عمل القلب، وكذلك مطلوبٌ في الأمور العمليّة الّتي هي أعمال الجوارح في حركة الحياة، فكيف يكون العدل في الأمور العقديّة؟ لو نظرنا إلى معتقدات الكفّار لوجدنا بعضهم يقول بعدم وجود إلهٍ في الكون، فأنكروا وجوده سبحانه وتعالى مطلقاً، وآخرون يقولون بتعدُّد الآلهة، هكذا تناقضتْ الأقوال وتباعدتْ الآراء، فجاء العدل في الإسلام، فالإله واحدٌ لا شريك له، مُنزّهٌ عَمّا يُشبه الحوادث، كما وقف موقفَ العدل في صفاته سبحانه وتعالى، فله سَمْعٌ، ولكن ليس كأسماع الـمُحدثات، لا ننفي عنه سبحانه وتعالى مثل هذه الصّفات فنكون من المعطّلة، ولا نُشبّهه سبحانه وتعالى بغيره فنكون من المشبِّهة، بل نقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشّورى: من الآية 11]، ونقف موقف العَدْل والوسطيّة، كذلك من الأمور العقديّة الّتي تجلَّى فيها عدل الإسلام قضيّة الجبر والاختيار، حيث اختار موقفاً وسطاً بين مَنْ يقول: إنّ الإنسان يفعل أفعاله باختياره دون دَخْلٍ لله سبحانه وتعالى في أعمال العبد؛ ولذلك رتَّبَ عليها ثواباً وعقاباً، ومن يقول: لا؛ بل الأعمال من الله سبحانه وتعالى والعبد مُجْبَرٌ عليها، فيأتي الإسلام بالعدالة والوسطيّة في هذه القضيّة، فيقول: بل الإنسان يعمل أعماله الاختياريّة بالقوّة الّتي خلقها الله سبحانه وتعالى فيه للاختيار.
وفي التّشريع والأحكام حدث تبايُنٌ كبيرٌ بين شريعة موسى عليه السلام وبين شريعة عيسى سبحانه وتعالى في القصاص مثلاً: في شريعة موسى عليه السلام طغتْ المادّيّة على بني إسرائيل حتّى قالوا لموسى عليه السلام: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النّساء: من الآية 153]، فهم لا يفهمون الغيب ولا يقتنعون به، فكان المناسب لهم القِصَاص، ولو تركهم الحقّ سبحانه وتعالى لَكَثُر فيهم القتل، فهم لا ينتهون إلّا بهذا الحُكْم الرّادع: مَنْ قتَل يُقتلُ، والقتل أنْفى للقتل، وقد تعدّى بنو إسرائيل في طلبهم رؤية الله عز وجل، فكوْنُك ترى الإله تناقضٌ في الألوهيّة؛ لأنّك حين تراه عينُك فقد حدّدتَه في حيّزٍ، فكونه لا يُرَى، هذا عَيْن الكمال فيه سبحانه وتعالى، وكيف نطمع في رؤيته جل جلاله، ونحن لا نستطيع رؤية حتّى بعض مخلوقاته، فالرّوح الّتي بين جَنْبي كلٍّ مِنّا ماذا نعرف عن طبيعتها وعن مكانها في الجسم؟ وبها نتحرّك ونزاول أعمالنا، وبها نفكّر، وبها نعيش، أين هي؟ فإذا ما فارقتْ الرّوح الجسم وأخذ الله سبحانه وتعالى سرّه تحوّل الإنسانُ إلى جيفةٍ يُسارع النّاس في مواراتها التّراب، هل رأيت هذه الرّوح؟ هل سمعتها؟ هل أدركتها بأيّ حاسّةٍ من حواسِّك؟ فإذا كانت الرّوح وهي مخلوقةٌ لله سبحانه وتعالى يعجز العقل عن إدراكها، فكيف بمَنْ خلق هذه الرّوح؟ فمن عظمته سبحانه وتعالى أنّه لا تُدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، كذلك هناك أشياءٌ ممّا يتطلّبها الدّين كالحقّ مثلاً، وهو معنىً من المعاني الّتي يدّعيها النّاس كلّهم، ويطلبون العمل بها، هذا الحقّ ما شَكْله؟ ما لونه؟ طويلٌ أم قصيرٌ؟ فإذا كُنّا لا نستطيع أن نتصوّر الحقّ، وهو مخلوقٌ لله سبحانه وتعالى، فكيف نتصوّر الله جل جلاله ونطمع في رؤيته؟! ومن إسراف بني إسرائيل في المادّيّة أن جعلوا لله سبحانه وتعالى في التّلمود جماعة من النّقباء، وجعلوه سبحانه وتعالى قاعداً على صخرةٍ يُدلّي رِجْليْه في قصعةٍ من المرمر، ثمّ أتى حوتٌ.. إلخ، سبحان الله؛ ألهذا الحدِّ وصلتْ بهم المادّيّة؟ ومن هنا كان الكون في حاجةٍ إلى طاقةٍ روحيّةٍ، تكون فيها الرّوحانيّة ليحدث نوعٌ من التّوازن في الكون، فجاءت شريعة عيسى عليه السلام بعد مادّيّةٍ مُفْرطةٍ وإسرافٍ في الموسَويّة، فكيف يكون حُكْم القصاص فيها وهي تهدف إلى أنْ تسموَ بروحانيّات النّاس؟ جاءت شريعة عيسى عليه السلام وعدّلت بهذا الموقف، لذلك نجد أنّ الإسلام عندما يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾، فالعدل اعتقاداً وبكلّ أمرٍ، فالإسلام جاء بالعدل والوسطيّة في كلّ أمرٍ، وأعطى وليّ المقتول حقّ القصاص ودعاه في الوقت ذاته إلى العفو، فقال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: من الآية 178]، ونلحظ أنّ القرآن الكريم جعل كثيراً من الأمور الّتي تتعلّق بإزالة الضّغائن، كلّ هذا من أمر الإسلام بالعدل، فالعدل تُقام عليه أمور الدّنيا كلّها، وحينما يُعطي المولى سبحانه وتعالى هذا الأمر للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ويقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾، فكلّ عدلٍ في الحكم، وكل عدلٍ في العقائد، وكلّ عدلٍ في الشّرائع، وكلّ عدلٍ في أيّ أمرٍ من الأمور فإنّما جاء من دين الوسطيّة والاعتدال، دين العدل، ولذلك عندما قال سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قوله المشهور لابن عمرو بن العاص رضي الله عنه: “متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟!”، هذه العدالة والوسطيّة الّتي رفع الإسلام البشريّة إليها، لم يستطع أحدٌ حتّى هذه اللّحظة ولن يستطيع أحدٌ أن يصل إلى معناها الحقيقيّ وإلى تطبيقها كما طبّقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما طبّقها الصّحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعاً، وكذلك في الاقتصاد الّذي هو عصب الحياة، الّذي به يتمّ استبقاء الحياة بالطّعام والشّراب والملْبس وغيره، يجب أن يكون هناك عدلٌ في حركة الإنتاج والاستهلاك، حتّى تستمرّ الحياة، وتمنع البطالة والفساد، وقد وزّع الله سبحانه وتعالى المواهب بين العباد، وطلب العدل، فالعدل في كلّ أمرٍ في الكون يُصلح الكون، وعندما يختلّ ميزان العدل، يبدأ الفساد، وتبدأ المشكلات، من ضياع الحقوق، ومن الخصومات في المحاكم، من العلاقة بين الرّجل والمرأة، والعلاقة داخل الأسرة، كلّ ما يتعلّق بموضوع العدل تدور عليه أقضية الحياة كلّها، وليس فقط القضاء الّذي نجد فيه الفصل في الخصومات بين النّاس، وهذا الدّين يأمر بالعدل، فهو: أمرٌ دائرٌ في حركات التّكليف كلّها، سواء كان تكليفاً عَقَديّاً، أم تكليفاً بواسطة الأعمال في حركة الحياة، فالأمر قائمٌ على الوسطيّة وخير الأمور الوسط.
﴿وَالْإِحْسَانِ﴾: ما الإحسان؟ إذا كان العدل أن تأخذ حقَّك، وأنْ تُعاقب بمثل ما عُوقبت به كما قال سبحانه وتعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: من الآية 194]، وقوله جل جلاله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾[النّحل: من الآية 126]، فالإحسان أنْ تتركَ هذا الحقّ، وتتنازلَ عنه ابتغاءَ وجه الله سبحانه وتعالى، عملاً بقوله عز وجل: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: من الآية 134]، والنّاس في الإحسان على مراتب مختلفة حسب قدرة الإنسان واستِعداده الخُلقيّ، وأوّل هذه المراتب كظم الغيظ، فالإنسان يكظم غَيْظه في نفسه، ويحتمل ما يَعتلج بداخله على المذنب دون أن يتعدَّى ذلك إلى الانفعال والرّدّ بالمثل، ولكنّه يظلّ يعاني ألم الغيظ بداخله وتتأجّج ناره في قلبه، لذلك يحسُن التّرقّي إلى المرتبة الأعلى، وهي مرتبة العفو، فيأتي الإنسان ويقول: لماذا أدَع نفسي فريسة لهذا الغيظ؟ فيميل إلى أنْ يُريح نفسه ويقتلع جذور الغيظ من قلبه، فيعفو عمَّنْ أساء إليه، ويُخرِج المسألة كلّها من قلبه، فإنِ ارتقى الإنسان في العفو، سما إلى المرتبة الثّالثة، وهي مرتبة أن تُحسن إلى مَنْ أساء إليك، وتزيد عمّا فرضَ لك حيث تنازلتَ عن الرّدِّ بالمثل، وارتقيتَ إلى درجة العارفين بالله سبحانه وتعالى، فالّذي اعتدى اعتدى بقدرته، وانتقم بما يناسبه، ومن ترقّى في درجات الإحسان ترك الأمر لقدرة الله سبحانه وتعالى، وأيْن قدرتُك من قدرة ربّك عز وجل؟ فالإحسان أجمل بالمؤمن، وأفضل من الانتقام.
والإحسان يشمل أموراً كثيرةً، منها الإحسان بالعطاء، الإحسان المادّيّ، الكرم، اللّطف، فهذا كلّه من جانب كلمة الإحسان، والإحسان: أنْ تصنع فوق ما فرض الله سبحانه وتعالى عليك، بشرط أن يكونَ من جنس ما فرضه جل جلاله عليك، فالإحسان كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَـمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»([3])؛ أي: أنّك تشعر برقابة الله عز وجل، فتكون محسناً في كلّ شيءٍ، مع النّاس ومع العمل ومع الصّلاة… إلخ.
﴿وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾: إيتاء: أي: إعطاء.
تحدّثنا سابقاً عن موضوع العطاء، والعالم حَلَقات مقترنة، فكلّ قادرٍ لو أعطى الأقرباء المحتاجين حوله من خيْره، وأفاض عليهم مِمّا أفاض الله سبحانه وتعالى عليه لَعَمَّ الخير المجتمع كلّه، وما وجدنا فقيراً محتاجاً؛ ذلك لأنّ هذه الدّوائر ستشمل المجتمع بمجمله، وقد تتداخل هذه الدّوائر فتلتحم العطاءات وتتكامل، فلا نرى في مجتمعنا فقيراً، وقد حثّتْ الآية على القريب، وحنَّنَتْ عليه القلوب؛ لأنّ البعيد عنك قريبٌ لغيرك، وداخلٌ في دائرة عطاء أخرى، وقد يكون الفقير قريباً لعدّة أطراف يأخذ من هذا ويأخذ من هذا، وبذلك تتكامل الحياة وتستطرق موارد العيش للنّاس كلّهم.
هذه هي مجموعة الأوامر الواردة في هذه الآية، ولا يوجد مجتمعٌ يتحلّى بهذه الأوامر إلّا ويرتقي ارتقاءً عظيماً، إنّ مجتمعاً فيه هذه الصّفات لَمجتمعٌ سعيدٌ آمِنٌ يسوده الحبّ والإيمان والإحسان، إنّه لجديرٌ بالصّدارة بين أمم الأرض.
﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾: هذه مجموعةٌ من النّواهي تمثّل مع الأوامر السّابقة منهجاً قرآنيّاً قويماً يضمن سلامة المجتمع، وأُولى هذه النّواهي النّهي عن الفحشاء أو الفاحشة، والمتتبّع لآيات القرآن الكريم سيجد أنّ الزّنا الذّنب الوحيد الّذي سمّاه القرآن الكريم فاحشةً، أو كلّ شيءٍ يخدش حُكْماً من أحكام الله سبحانه وتعالى، ولكن لماذا الزّنا بالذّات؟ نقول: لأنّ الذّنوب الأخرى غير الزّنا إنّما تتعلّق بمحيطات النّفس الإنسانيّة، أمّا الزّنا فيتعلَّق بالنّفس الإنسانيّة ذاتها، ويترتّب عليه اختلاط الأنساب وبه تُدَنَّسُ الأعراض، وبه يشكُّ الرّجل في أهله وأولاده، ويحدث بسبب هذا من الفساد ما لا يعلمه إلّا الله عز وجل؛ لذلك نصَّ عليه القرآن الكريم صراحةً في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ [الإسراء]، ومن أقوال العلماء في الفاحشة: إنّها الذّنب العظيم الّذي يخجل صاحبه منه ويستره عن النّاس، فلا يستطيع أنْ يُجاهر به، كما قال بعض العلماء، والزّنا على رأس ذلك.
﴿وَالْمُنْكَرِ﴾: هو الذّنب يتجرّأ عليه صاحبه، ويُجاهر به، ويستنكره النّاس.
فلدينا هنا مرتبتان من الذّنب:
الأولى: أنّ صاحب الذّنب يتحرَّج أن يعرفه المجتمع فيستره في نفسه، مثل الزّنا، وهذا هو الفحشاء.
الثّانية: ما يفعله صاحبه علناً وينكره المجتمع؛ لأنّه يُنافي قيم المجتمع، ويُنَافي الذّوق السّليم، وهذا هو المنكر.
﴿وَالْبَغْيِ﴾: هو الظّلم في أيِّ لَوْنٍ من ألوانه، وهو داخلٌ في أشياء كثيرة أعظمها ما يقع في العقيدة من الشّرك بالله سبحانه وتعالى، كما قال جل جلاله: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: من الآية 13]، فالبغي هو تجاوز الحقّ، وهو الظّلم، وأخذ حقوق الآخرين، فأيّ بغيٍ على الآخر هي من ظلم الإنسان لنفسه ولغيره؛ لأنّه يُقَدِّم شهوةً عاجلةً ومُتعةً زائفة، على نعيمٍ دائمٍ ومقيمٍ.
فالآية جمعتْ مجموعةً من الأوامر والنّواهي الّتي تضمن سلامة المجتمع، والأخلاق أعمُّ من أن تكون في الاعتقادات، وأعمُّ من أن تكون في المعجزة إيماناً بها، وأعمُّ من أن تكون في التّكاليف، وأعمُّ من أن تكون في أمرٍ لا حَدَّ فيه ولا حُكْمَ ولا إثم.
﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾: الوعظ: تذكيرٌ بالحكم، فعندنا أوّلاً إعلامٌ بالحكم لكي نعرفه، ولكنّه عُرْضة لأنْ نغفلَ عنه، فيكون الوعظ والتّذكير به، ونحتاج إلى تكرار ذلك حتّى لا نغفل، وعادة لا تكون العِظَة إلّا فيما له قيمة، وما دام الشّيء له قيمةٌ فلا تصطفي له إلّا مَنْ تحبّ، كذلك الحقّ سبحانه وتعالى يحبّ خَلْقه وصَنْعته؛ لذلك يَعِظهم ويُذكِّرهم باستمرارٍ بهذه الأوامر والنّواهي لكي يكونوا دائماً على الجادّة ليتمتّعوا بنعم المسبِّب في الآخرة، كما تمتّعوا بنعمة الأسباب في الدّنيا.
([1]) مسند الإمام أحمد: ومن مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العبّاس 8 عن النّبيّ ,، الحديث رقم (2919).
([2]) الاعتقاد للبيهقيّ: باب القول في إثبات نبوّة محمّد ,، ج1، ص 268.
([3]) صحيح البخاريّ: كتاب تفسير القرآن، باب قوله: ﱣﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿﱢ [لقمان: من الآية 34]، الحديث رقم (4777).