الآية رقم (102) - قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ

﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ﴾: يردّ الحقّ سبحانه وتعالى في هذه الآية على الكفّار افتراءهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتّهامهم له بالكذب المتعمّد، وأنّه جاء بهذه الآيات من نفسه، فقال له: يا محمّد، قُلْ لهؤلاء: بل نزَّله روح القُدس.

﴿الْقُدُسِ﴾: أي: المطهّر، من إضافة الموصوف للصّفة، كما نقول: حاتم الجود مثلاً، والمراد بـ ﴿رُوحُ الْقُدُسِ﴾سفير الوحي جبريل عليه السلام، وقد قال جل جلاله عنه في آيةٍ أخرى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ [الشّعراء]، وقال سبحانه وتعالى عنه: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾[التّكوير: 19 – 21].

﴿مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾: أي: أنّ جبريل عليه السلام لم يأْتِ بهذا القرآن من عنده هو، بل من عند الله سبحانه وتعالى بالحقّ، فمُحمّد صلى الله عليه وسلم لم يَأْتِ بالقرآن الكريم من عنده، وكذلك جبريل عليه السلام، فالقرآن الكريم من عند الله جل جلاله، ليس افتراءً على الله عز وجل، لا من محمّد صلى الله عليه وسلم، ولا من جبريل عليه السلام.

﴿لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾: أي: ليُثبِّتَ الّذين آمنوا على تصديق ما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم من الآيات، أنّ الله سبحانه وتعالى أعلمُ بما يُنزّل من الآيات، وأنّ كلّ آيةٍ منها مُناسِبةٌ لزمانها ومكانها وبيئتها، وفي هذا دليلٌ على أنّ المؤمنين طائعون مُنصَاعون لله سبحانه وتعالى مُصدِّقون للرّسول صلى الله عليه وسلم في كُلِّ ما بلّغ عن ربّه سبحانه وتعالى.

﴿وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾: قال سبحانه وتعالى عن القرآن الكريم: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾[البقرة]، فالقرآن الكريم هداية وبشرى؛ لأنّه يبشّر المسلمين بإيمانهم بأنّهم سيُجزَون بالجنّة وما فيها من عملٍ.

ولا بدّ أن نقف هنا عند النّاسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، فهو يجري فيه أحاديث كثيرةٌ من النّاس، وبعض النّاس ليس لديه علمٌ، فأنت عندما تناقش طبيباً مختصّاً في الجراحة العصبيّة في الدّماغ فهناك حدودٌ لنقاشك معه بأن يُبيّن لك، أمّا إذا كان الّذي يُحاور هذا الطّبيب هو طبيبٌ مثله مختصٌّ أيضاً بجراحة عامّة أو بجراحة عصبيّة أو بجراحة الدّماغ، فإنّ النقاش يختلف عن النّقاش مع المتلقّي الآخر غير المختصّ بهذا الأمر، فعلم النّاسخ والمنسوخ في القرآن الكريم يجب أن يكون ضمن الضّوابط الّتي بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدّثنا عنها كيف أنّ الآية السّابقة نسخت الآية الأولى حُكْمَاً، وبقيت تلاوةً؛ لأنّ القرآن الكريم نزلَ مُنَجَّماً، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء]، وقوله سبحانه وتعالى في هذه الآية: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾، فالتّثبيت أولى أن ينزل القرآن الكريم مُنَجَّماً وليس دفعةً واحدةً، وباعتبار أنّ القرآن الكريم صالحٌ لكلّ زمانٍ ومكانٍ فاقتضى التّدرّج في بعض الأحكام أن يكون هناك ناسخٌ ومنسوخٌ في القرآن الكريم، وليس كما يدّعي بعض الّذين يحاولون النّقاش والتّعالم على العلماء وعلى كتاب الله سبحانه وتعالى، والإجابات الّتي أوردناها هي الرّدّ القاطع، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق].

الآية رقم (103) - وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ

﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾: في هذه الآية اتّهامٌ آخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وافتراءٌ جديدٌ عليه، لا يأنف القرآن الكريم من إذاعته، فمَنْ سمع الاتّهام والافتراء يجب أن يسمع الجواب، فالقرآن الكريم يريد أنْ يفضحَ أمر هؤلاء، وأنْ يُظهِر إفلاس حُجَجِهم وما هم فيه من تخبُّطٍ، وقد سبق أنْ قالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مجنون)، وبرَّأه الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم]، والخلُقُ العظيم لا يكون في مجنون؛ لأنّ الخلُق الفاضل لا يُوضع إلّا في مكانه، بدليل قوله سبحانه وتعالى: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ [القلم]، وسبق أنْ قالوا: (ساحرٌ)، وهذا دليلٌ على أنّهم مغفّلون يتخبَّطون في ضلالهم، فلو كان سيّدنا محمّدٌ صلى الله عليه وسلم ساحراً، فَلِمَ لم يسحرهم كما سحر المؤمنين به، وتنتهي المسألة؟ وسبق أنْ قالوا: (شاعر)، مع أنّهم أدْرى النّاس بفنون القول شِعْراً ونثراً وخطابةً، ولم يُجرِّبوا على سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذلك، لكنّه الباطل حينما يَلجّ في عناده، ويتكبّر عن قبول الحقّ، وهنا جاؤوا بشيءٍ جديدٍ يُكذِّبون به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾؛ أي: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتردّد على أحد أصحاب العلم ليعلّمه القرآن الكريم، فقالوا: إنّه غلامٌ لبني عامر بن لؤي اسمه (يعيش)، وكان يعرف القراءة والكتاب، وكان يجلب الكتب من الأسواق، ويقرأ قصص السّابقين، مثل: عنترة وذات الهمّة.. وغيرها من كتب التّاريخ، وقد تضاربتْ أقوالهم في تحديد هذا الشّخص الّذي يزعمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلّم على يديه، فقالوا: اسمه: (عدّاس)، وقال آخرون: (سلمان الفارسيّ)، وقال آخرون: (بَلْعام)، وكان حدّاداً روميّاً نصرانيّاً يعلم كثيراً عن أهل الكتاب.. إلخ، والحقّ تبارك وتعالى يردُّ على هؤلاء، ويُظهِر إفلاسهم الفكريّ، وإصرارهم على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول:

﴿لِسَانُ﴾: اللّسان هنا: اللّغة الّتي يُتَحدَّث بها.

﴿الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ﴾: يميلون إليه، وينسبون إليه أنّه يُعلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

﴿أَعْجَمِيٌّ﴾: أي: لغته خفيّة، لا يُفصح ولا يُبين الكلام، كما نرى الأجانب يتحدّثون العربيّة مثلاً.

ونلاحظ هنا أنّ القرآن الكريم لم يقُلْ: (عجميّ)؛ لأنّ العجم جنس يقابل العرب، وقد يكون من العجم مَنْ يُجيد العربيّة الفصيحة، كما رأينا سيبوَيْه صاحب (الكتاب) أعظم مراجع النّحو حتّى الآن وهو عَجميّ.

أمّا الأعجميّ فهو الّذي لا يُفصح ولا يُبين في الكلام، حتّى وإنْ كان عربيّاً، وقد كان في قبيلة لؤي رجل اسمه زياد يُقال له: (زياد الأعجمي)؛ لأنّه لا يُفصح ولا يُبين، مع أنّه من أصلٍ عربيٍّ، فكيف يتأتَّى لهؤلاء الأعاجم الّذين لا يُفصحون، ولا يكادون ينطقون اللّغة العربيّة أنْ يُعلِّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاء بمعجزةٍ في الفصاحة والبلاغة والبيان؟ كيف يتعلّم من هؤلاء، ولم يثبت أنّه صلى الله عليه وسلم التقى بأحدٍ منهم إلّا (عدّاس)، يُقال: إنّه قابله مرّةً واحدةً، ولم يثبت أنّه صلى الله عليه وسلم تردَّد إلى معلّمٍ، لا من هؤلاء، ولا من غيرهم؟ كما أنّ ما يحويه القرآن الكريم من آياتٍ وأحكامٍ ومعجزات ومعلومات يحتاج في تعلُّمه إلى وقتٍ طويل يتتلمذ فيه محمّد صلى الله عليه وسلم على يد هؤلاء، وما جرّبْتم على محمّد صلى الله عليه وسلم شيئاً من هذا كلّه، وهل يُعقل أنّ ما في القرآن الكريم يمكن أن يطويه صَدْرُ واحدٍ من هؤلاء؟! لو حَدَثَ لكان له من المكانة والمنزلة بين قومه ما كان للنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام من منزلة، ولأشاروا إليه بالبنان ولذَاع صِيتُه، واشتُهر أمره، وشيءٌ من ذلك لم يحدث.

﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾: أي: لغته صلى الله عليه وسلم، ولغة القرآن الكريم عربيّة واضحة مُبِينة، لا لَبْسَ فيها ولا غموض، وقد تحدّثنا سابقاً عن موضوع العروبة واللّغة العربيّة، وأنّ الله سبحانه وتعالى قال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف]، وقال في آياتٍ أخرى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا﴾ [الرّعد: من الآية 37]، واللّغة هي أساس، فاللّغة العربيّة هي لغة قدّسها القرآن الكريم؛ لأنّها الوعاء لكلام الله سبحانه وتعالى، فالجامع الّذي لا يستطيع أحدٌ أن يُنكره هو جامع اللّغة، والمحافظة على اللّغة العربيّة هو جزءٌ لا يتجزّأ من المحافظة على ديننا وعلى عبادتنا وعلى كتاب ربّنا سبحانه وتعالى، لكنّ الحقيقة أنّ الّذي حفظ اللّغة العربيّة من الضّياع هو القرآن الكريم وليس العكس، فالقرآن الكريم هو الّذي حفظ هويّة هذه الأمّة، وسيبقى القرآن الكريم خالداً بخلود الدّنيا حتّى يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر]، فَمِنْ حفظ الله سبحانه وتعالى لكتابه حُفِظَت هذه اللّغة، ومن حِفظ هذه اللّغة العربيّة حُفِظَت هويّة الأمّة، لذلك ما علينا إلّا أن نعلّم أجيالنا وأبناءنا اللّغة العربيّة وأن نحافظ على الفصحى، وأن نحافظ على تعلّم وحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى حتّى يستقيم لساننا العربيّ، ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾كما قال سبحانه وتعالى.

الآية رقم (104) - إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾: ينفي الحقّ سبحانه وتعالى عن هؤلاء صفة الإيمان، فكيف يقول بعدها:

﴿لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾: أليسوا غير مؤمنين، وغير مُهْتدين؟ قُلْنا: إنّ الهداية نوعان:

1- هداية دلالة وإرشاد، وهذه يستوي فيها المؤمن والكافر، فقد دَلَّ الله سبحانه وتعالى الجميع، وأوضح لهم الطّريق، ومنها قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصّلت: من الآية 17]؛ أي: أرشدناهم ودَلَلْناهم.

2- وهداية المعونة والتّوفيق، وهذه لا تكون إلّا للمؤمن، ومنها قوله تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمّد].

فمعنى: ﴿لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾؛ أي: هداية معونة وتوفيق، وليست هداية دلالة وإرشاد، ويصحّ أن نقول أيضاً: إنّ الجهة هنا مُنفكّة إلى شيءٍ آخر، فيكون المعنى: لا يهديهم إلى طريق الجنّة، بل إلى طريق النّار، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ [النّساء: 168 – من الآية 169]، بدليل قوله سبحانه وتعالى بعدها: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ ولأنّه سبحانه وتعالى في المقابل عندما تحدّث عن المؤمنين قال: ﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ [محمّد]؛ أي: هداهم لها وعرَّفهم طريقها.

الآية رقم (105) - إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ

﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾: كأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يقول: وإن افتريتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم واتّهمتموه بالكذب، الحقيقة أنّكم تُكذِّبون بآيات الله سبحانه وتعالى، ولا تؤمنون بها.

﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾: نلاحظ في تذييل هذه الآية أنّ الحقّ سبحانه وتعالى لم يَقُلْ: (وأولئك هم الكافرون)، بل قال: ﴿الْكَاذِبُونَ﴾، ليدلّ على شناعة الكذب، وأنّه صفةٌ لا تليق بمؤمنٍ، ولذلك حينما سأل أبو الدّرداء رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل يسرق المؤمن؟ قال: «قد يكون ذلك»، قال: فهل يزني المؤمن؟ قال: «بلى، وإن كره أبو الدّرداء»، قال: هل يكذب المؤمن؟ قال: «إنّما يفتري الكذب من لا يؤمن»([1])؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى قال:  ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾ [النّور: من الآية 2]، وقال جل جلاله: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ [المائدة: من الآية 38]، فما دام قد شرَّع حُكْماً، وجعل عليه عقوبة فقد أصبح الأمر وارداً ومحتمل الحدوث، والحديث يُوضّح لنا فظاعة الكذب وشناعته، وكيف أنّه أعظم من هذه المنكرات كلّها، فقد جعل الله سبحانه وتعالى لكلٍّ منها عقوبةً معلومةً في حين ترك عقوبة الكذب ليدلّ على أنّها جريمةٌ أعلى من العقوبة وأعظم، فالكذب صفةٌ لا تليق بالمؤمن، ولا تُتصوّر في حَقِّه؛ ذلك لأنّه إذا اشتُهِر عن واحدٍ أنّه كذّاب لما اعتاده النّاس من كذبه، فنخشى أن يقول مرّةً: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول قائل: إنّه كذّاب وهذه كذبةٌ من أكاذيبه.

([1]) كنز العمّال: ج3، ص 874، الحديث رقم (8994).

الآية رقم (106) - مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ

سبق وأنْ تحدّث الله سبحانه وتعالى عن حكم المؤمنين وحكم الكافرين، ثمّ تحدّث عن الّذين يُخلِفون العهد ولا يُوفون به، ثمّ تحدّث عن الّذين افترَوْا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والّذين كذَّبوا بآيات الله سبحانه وتعالى، وهذه قضايا إيمانيّة كان لا بُدَّ أنْ تُثار، وفي هذه الآية الكريمة يوضّح لنا الحقّ سبحانه وتعالى أنّ الإيمان ليس مجرّد أن تقول: لا إله إلّا الله محمّد رسول الله، فالقول وحده لا يكفي، فلا بُدَّ أنْ تشهدَ بذلك، ومعنى تشهد أنْ يُواطِئ القلب واللّسان كلٌّ منهما الآخر في هذه المقولة، والمتأمّل لهذه القضيّة يجد أنّ القسمة المنطقيّة تقتضي أن يكون لدينا أربع حالات:

الأولى: أنْ يُواطِئَ القلب اللّسان إيجاباً بالإيمان؛ ولذلك نقول: إنّ المؤمن منطقيٌّ في إيمانه؛ لأنّه يقول ما يُضمره قلبه.

الثّانية: أنْ يُواطِئَ القلب اللّسان سلباً؛ أي: بالكفر، وكذلك الكافر منطقي في كفره بالمعنى السابق.

الثّالثة: أنْ يؤمن بلسانه ويُضمِرَ الكفر في قلبه، وهذه حالة المنافق، وهو غير منطقيّ في إيمانه، حيث أظهر خلاف ما يبطن ليستفيد من مزايا الإيمان.

الرّابعة: أن يؤمن بقلبه، وينطق كلمة الكفر بلسانه.

وهذه الحالة الرّابعة هي المرادة في هذه الآية، فالحقّ سبحانه وتعالى يعطينا هنا تفصيلاً لمن كفر بعد إيمانه، وما سبب هذا الكفر؟ وما جزاؤه؟

﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ﴾: هذه جملة الشّرط تأخَّر جوابها إلى آخر الآية الكريمة، لنقف أوّلاً على تفصيل هذا الكفر، فإمّا أن يكون عن إكراه لا دَخْلَ للإنسان فيه، فيُجبَر على كلمة الكفر، في حين قلبه مطمئنٌّ بالإيمان، ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾، ثمّ سكت عنه القرآن الكريم ليدلّنا على أنّه لا شيءَ عليه، ولا بأسَ أن يأخذ المؤمن في هذا الأمر إن اضطرّ، وهي رخصةٌ تقي الإنسان موارد الهلاك في مثل هذه الأحوال، وفي تاريخ الإسلام نماذج متعدّدة أخذت بهذه الرّخصة، ونطقتْ كلمة الكفر وهي مطمئنّةٌ بالإيمان، وفي الحديث الشّريف: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»([1])، ويذكر التّاريخ قصّة ياسر وزوجه سُميّة أوّل شهيدين في الإسلام، فكيف استشهدا؟ كانا من المسلمين الأوائل، وتعرّضا لكثيرٍ من التّعذيب حتّى عرض عليهم الكفّار النّطق بكلمة الكفر مقابل العفو عنهما، فماذا حدث من هذين الشّهيدين؟ صَدَعا بالحقّ وأصرَّا على الإيمان حتّى نالا الشّهادة في سبيل الله عز وجل، ولم يأخذا برخصة التّقيّة، وكان ولدهما عمّار أوّل مَنْ أخذ بها، حينما تعرّض لتعذيب المشركين، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ عمّار بن ياسر كفر، فأنكر صلى الله عليه وسلم هذا، وقال: «إِنَّ عَمَّاراً مُلِئَ إِيمَاناً إِلَى مَشَاشِهِ»([2])، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ ثُمَّ تَرَكُوهُ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا وَرَاءَكَ؟»، قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، قَالَ: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟»، قَالَ: مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، قَالَ: «إِنْ عَادُوا فَعُدْ»([3])، وفي حركة الرّدّة حاول مسيلمة الكذّاب أن يطوف بالقبائل لينتزع منهم شهادةً بصدق نُبوّته، فأخذ أسيرين من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لأحدهما: ما تقول في محمّد؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تقول فيّ؟ فقال: وأنت، فأرسله، وقال للآخر: ما تقول في محمّد؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وما تقول فيّ؟ فقال: لا أدري، فلم يزل يسأله وهو يجيبه بذلك حتّى قطّعه إرباً إرباً، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أمّا أحدهما فقد أخذ برخصة الله، وأمّا الثّاني فقد صدع بالحقّ، فهنيئاً له»([4])، فهاتان منزلتان في مواجهة الباطل وأهله، والصَّدْع بالحقّ والصّبر على البلاء أعْلَى منزلةً، وأَسْمَى درجةً من الأَخْذ بالرّخصة؛ لأنّ الأوّل آمن بقلبه ولسانه، والآخر آمن بقلبه فقط ونطق لسانه بالكفر.

وبعد أن تحدّث الحقّ سبحانه وتعالى عن حُكم مَنْ أُكرِهَ وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، يتحدّث عن النّوع الآخر:

﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾: أي: نطق كلمة الكفر راضياً بها، بل سعيدةً بها نفسه، مُنْشَرِحاً بها صدره، وهذا النّوع هو المقصود في جواب الشّرط.

﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾: فإنْ كانت الآيات قد سكتت عَمَّنْ أُكرِهَ، ولم تجعل له عقوبةً؛ لأنّه مُكرهٌ، فقد بيَّنت أنّ من شرح بالكفر صدراً عليه غضبٌ من الله سبحانه وتعالى؛ أي: في الدّنيا، ولهم عذابٌ عظيمٌ؛ أي: في الآخرة، وكما رأينا في تاريخ الإسلام نماذج للنّوع الأوّل الّذي أُكْرِه وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، كذلك رأينا نماذج لمن شرح بالكفر صَدْراً، وهم المنافقون، ومنهم مَنْ أسلم بعد ذلك وحَسُن إسلامه، كعبد الله بن سعد بن أبي السّرح من عامر بن لؤي.

([1]) سنن ابن ماجه: كتاب الطّلاق، باب طلاق المكره والنّاسي، الحديث رقم (2043).

([2]) مصنّف ابن أبي شيبة: كتاب الإيمان والرّؤيا، الحديث رقم (30350).

([3]) المستدرك على الصّحيحين: كتاب التّفسير، تفسير سورة النّحل، الحديث رقم (3362).

([4]) دليل الفالحين لطرق رياض الصّالحين: باب الصّبر، ج1، ص 171.

الآية رقم (107) - ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ

﴿ذَلِكَ﴾: أي: ما استحقّوه من العذاب السّابق.

﴿بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ﴾: استحبّ: أي: آثر وتكلَّف الحبّ؛ لأنّ العاقل لو نظر إلى الدّنيا بالنّسبة إلى عمره فيها لوجدها قصيرةً أحقر من أَنْ تُحبَّ لذاتها، ولَوجدَ الأغيار بها كثيرةً تتقلَّب بأهلها فلا يدوم لها حالٌ، ينظر فإذا الأحوال تتبدّل من الغنى إلى الفقر، ومن الصّحّة إلى السَّقَم، ومن القوّة إلى الضّعف، ومن الحياة إلى الممات، فكيف تستحبّ الدّنيا على الآخرة؟! والحقّ سبحانه وتعالى يريد منّا أنْ نُعطي كلّاً من الدّنيا والآخرة ما تستحقّه من الحبّ، فنحبّ الدّنيا دون مبالغة في حبّها، نحبّها على أنّها مزرعةٌ للآخرة، وإلَّا، فكيف نطلب الجزاء والثّواب من الله عز وجل؟! لذلك نقول: إنّ الدّنيا أهمّ من أنْ تُنسى، وأتفه من أن تكون غايةً، وقد قال الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: من الآية 77]، ففهم بعضهم الآية على أنّها دعوةٌ للعمل للدّنيا فقط وأخذ الحظوظ منها، ولكنّ المتأمّل لمعنى الآية يجد أنّ الحقّ سبحانه وتعالى يجعل الدّنيا شيئاً هيّناً مُعرَّضاً للنّسيان والإهمال، فيُذكِّرنا بها، ويحثُّنا على أن نأخذ منها بنصيبٍ، فأنا لا أقول لك: لا تنسَ الشّيء الفلانيّ إلّا إذا كنتُ أعلم أنّه عُرْضَة للنّسيان، وهذا جانبٌ من جوانب الوسطيّة والاعتدال في الإسلام، ويكفينا وَصْف هذه الحياة بالدّنيا، فليس هناك وَصْفٌ أقلّ من هذا الوصف، والمقابل لها يقتضي أن نقول: العُلْيا وهي الآخرة، نعم نحن لا ننكر قَدْر الحياة الدّنيا ولا نبخسها حقّها، ففيها الحياة والحسّ والحركة، وفيها العمل الصّالح والذّكْرى الطّيّبة، وهي مزرعة الآخرة، ولكنّها مع ذلك إلى زوالٍ وفناءٍ، في حين أنّ الآخرة هي الحياة الحقيقيّة الدّائمة الباقية الّتي لا يعتريها زوالٌ، ولا يهدّدها موتٌ، كما قال الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: من الآية 64]؛ أي: الحياة الحقيقيّة الّتي يجب أن نحرص عليها ونحبّها، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: من الآية 24]، ما معنى: ﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾، والقرآن الكريم يخاطبهم وهم أحياءٌ يُرزَقُون؟ قالوا: ﴿يُحْيِيكُمْ﴾؛ أي: الحياة الحقيقيّة الباقية الّتي لا تزول.

﴿عَلَى الْآخِرَةِ﴾: لقائلٍ أن يقول: إنّ الآية تتحدّث عن غير المؤمنين بالآخرة، فكيف يُقَال عنهم: ﴿ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ ﴾؟ نقول: من غير المؤمنين بالآخرة مَنْ قال الله سبحانه وتعالى فيهم: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾ [النّحل: من الآية 38]، وأيضاً منهم مَنْ قال: ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا﴾ [الكهف: من الآية 36]، فمن هؤلاء مَنْ يؤمن بالآخرة، ولكنّه يُفضّل عليها الدّنيا.

﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾: أي: لا يهديهم هداية معونةٍ وتوفيقٍ، والله سبحانه وتعالى يهدي النّاس جميعاً هداية دلالة، لكن من استحبّ الكفر وأغلق قلبه عن الإيمان وكفر فلن يتمكّن أبداً من الحصول على هداية المعونة من الله سبحانه وتعالى.       

الآية رقم (108) - أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾: طبع: أي: ختم عليها، وإذا تأمّلنا الختْم وجدنا المقصود منه أنّ الشّيء الدّاخل يظلّ داخلاً لا يخرج، وأنّ الخارج يظلّ خارجاً لا يدخل، وفَرْقٌ بين ختم البشر وختم المولى سبحانه وتعالى، فقصارى ما نفعله أن نختم الأشياء المهمّة كالرّسائل السّرّيّة مثلاً، أو عندما نريد إغلاق مكانٍ ما نختم عليه بالشّمع الأحمر لنتأكّد من غلقه، ومع ذلك نجد مَنْ يحتال على هذا الختم، ويستطيع فضّه وربّما أعاده كما كان، أمّا إذا ختم الحقّ سبحانه وتعالى على شيءٍ فلا يستطيع أحدٌ التّحايل عليه سبحانه وتعالى، فالمراد بقوله سبحانه وتعالى: ﴿طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ أنّ ما فيها من الكفر لا يخرج منها، وما هو خارجها من الإيمان لا يدخل فيها؛ ذلك لأنّ القلب هو الوعاء الّذي تصبّ فيه الحواسّ الّتي هي وسائل الإدراكات المعلوميّة، وأهمّها السّمع والبصر، فالبسّمع نسمع الوحي والتّبليغ عن الله عز وجل، وبالبصر نرى دلائل قدرة الله سبحانه وتعالى في كونه وعجيب صُنْعه ممّا يُلفتنا إلى قدرته جل جلاله، ويدعونا إلى الإيمان به سبحانه وتعالى، فإذا ما انحرفتْ هذه الحواسّ عمّا أراده الله سبحانه وتعالى منها، وبدل أن تمدّ القلب بدلائل الإيمان تعطَّلتْ وظيفتها، فالسّمع موجودٌ كآلةٍ تسمع ولكنّها تسمع الفارغ من الكلام، فلا يوجد سَمْعٌ اعتباريٌّ، وكذلك البصر موجودٌ كآلةٍ تُبصر ما حرّم الله سبحانه وتعالى فلا يوجد بصرٌ اعتباريٌّ، فما الّذي سيصل إلى القلب من خلال هذه الحواسّ؟ فما دام القلب لا يسمع الهداية، ولا يرى دلائل قدرة الله سبحانه وتعالى في كونه فلن نجد فيه غير الكفر، ولا يمكن أن يجتمع كفرٌ وإيمانٌ في قلبٍ واحدٍ؛ لذلك عندنا قانونٌ موجودٌ حتّى في المادّيّات يسمّونه: (عدم التّداخل)، يمكن أن نشاهده حينما نملأ زجاجة فارغة بالماء، فنرى أنّ الماء لا يدخل إلّا بقدر ما يخرج من الهواء، فكذلك الحال في الأوعية المعنويّة، فإن أردت الإيمان أيّها الكافر فأخرجْ أوّلاً ما في قلبك من الكفر، واجعله مُجرّداً من كلّ هوى، ثمّ ابحث بعقلك في أدلّة الكفر وأَدلّة الإيمان، وما تصل إليه وتقتنع به أدْخله في قلبك، لكن أنْ تبحث أدلّة الإيمان وفي جوفك الكفر فهذا لا يصحّ، لا بُدَّ من إخلاء القلب أوّلاً، لذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ [الأحزاب: من الآية 4]، وفي الأثر: «أوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود، تزعم أنّك تحبّني فأخرج حبّ الدّنيا من قلبك، فإنّ حبّي وحبّها لا يجتمعان في قلبٍ واحدٍ»([1])؛ لأنّ للإنسان قلباً واحداً لا يجتمع فيه نقيضان، هكذا شاءت قدرة الله سبحانه وتعالى أن يكون القلب على هذه الصّورة، فلا نجعلْه مزدحماً بالمظروف فيه، كما أنّ طَبْع الله سبحانه وتعالى على قلوب الكفّار فيه إشارةٌ إلى أنّ الحقّ سبحانه وتعالى يُعطي عبده مراده، حتّى وإنْ كان مراده الكفر، وكأنّه سبحانه وتعالى يقول لهؤلاء: إنْ كنتم تريدون الكفر وتحبّونه وتنشرح له صدوركم فسوف أطبع عليها، فلا يخرج منها الكفر ولا يدخلها الإيمان، بل وأزيدكم منه إنْ أحببتُمْ، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ [البقرة: من الآية 10]، فهنيئاً لكم بالكفر، واذهبوا غَيْرَ مأسوفٍ عليكم.

﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾: الغافل: مَنْ كان لديه أمرٌ يجب أن يتنبّه إليه، لكنّه غفل عنه، وكأنّه كان في انتظار إشارة تُنبّه عقله ليصل إلى الحقّ، ثمّ يُنهي الحقّ سبحانه وتعالى الكلام عن هؤلاء بقوله سبحانه وتعالى:

([1]) التّرغيب والتّرهيب: باب التّرغيب في الزّهد في الدّنيا، ج2، ص245.

الآية رقم (109) - لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ

﴿لَا جَرَمَ﴾: أي: حقّاً ولا بُدَّ، فهؤلاء خسروا في الآخرة، بما اقترفوه من مُوجبات الخسارة، وبما أَتَوْا به من حيثيّات ترتَّبَ عليها الحكم بخسارتهم في الآخرة، والمتتبّع للآيات السّابقة يجد فيها هذه الحيثيّات، بدايةً من قَوْلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾ [النّحل: من الآية 101]، وقولهم: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾[النّحل: من الآية 103]، وعدم إيمانهم بآيات الله سبحانه وتعالى، وكونهم كاذبين مفترين على الله سبحانه وتعالى، واطمئنانهم بالكفر، وانشراح صدورهم به، واستحبابهم الحياة الدّنيا على الآخرة، هذه كلّها حيثيّات وأسباب أوجبتْ لهم الخسران في الآخرة يوم تُصفّى الحسابات، وتنكشف الأرباح والخسائر، وكيف لا تكون عاقبته خُسْراناً مَن اقتراف هذه الجرائم كلّها؟!.

الآية رقم (99) - إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ

﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ﴾: لحكمة أرادها الخالق سبحانه وتعالى أنْ جعل للشّيطان سلطاناً معيَّناً، والسّلطان، إمّا سلطان حجّة تقنعك بالفعل، فتفعل وأنت راضٍ مقتنع به، وإمّا سلطان قَهْرٍ وغلبة يُجبرك على الفعل، ويحملك عليه قَهْراً دون اقتناع به، فتنفيذ المطلوب له قوّتان: قوّة الحجّة الّتي تُضيء لنا وتُوضّح أمامنا معالم الحقّ، وقوّة القهر الّتي تُجبرنا على تنفيذ المطلوب عن غير اقتناعٍ وإنْ لم نرهَا، والحقيقة أنّ الشّيطان لا يملك أيّاً من هاتين القوّتين، لا قوّة الحجّة والإقناع، ولا قوّة القهر، وهذا واضحٌ في قول الحقّ سبحانه وتعالى يوم القيامة: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [إبراهيم]، هذا حوارٌ يدور يوم القيامة بعد أن انتهتْ المسألة وتكشّفتْ الحقيقة، وجاء وقت المصارحة والمواجهة، يقول الشّيطان لأوليائه مُتنصِّلاً من المسؤوليّة: ما كان عندي من سلطانٍ عليكم، لا سلطان حجّة تقنعكم أنْ تفعلوا عن رضىً، ولا سلطان قَهْرٍ أُجبركم به أن تفعلوا وأنتم كارهون، أنا فقط أشرتُ ووسوستُ فأتيتموني طائعين: ﴿مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ [إبراهيم: من الآية 22]، يُوضّح الله سبحانه وتعالى أنّ تسلّط الشّيطان لا يقع على مَنْ آمن به ربّاً، ولجأ إليه واعتصم به، وما دُمْتَ آمنتَ بالله سبحانه وتعالى فأنت في مَعيّته وحِفْظه، ولا يستطيع الشّيطان -وهو مخلوقٌ لله سبحانه وتعالى- أنْ يتسلّط عليك أو أن يغلبك، فالحصن الّذي يقينا كيْدَ الشّيطان هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى والتّوكّل عليه عز وجل، فعلى مَنْ يتسلّط الشّيطان؟ يُوضِّح الحقّ سبحانه وتعالى الجانب المقابل، فيقول:

الآية رقم (100) - إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ

﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾: معنى: ﴿يَتَوَلَّوْنَهُ﴾: أي: يتّخذونه وَليّاً يطيعون أوامره، ويخضعون لوسوسته، ويتّبعون خطواته: ﴿ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾؛ أي: مشركون بالله سبحانه وتعالى، أو يكون المعنى: وهُمْ به؛ أي: بسببه أشركوا؛ لأنّه أصبح له أوامر ونواه وهم يطيعونه، فكأنّهم عبدوه من دون الله سبحانه وتعالى بما قدّموه من طاعته في أمره ونَهْيه، وقد سَمَّى الله سبحانه وتعالى طريقة الشّيطان في الإضلال والغواية وَسْوسةً، والوسوسة في الحقيقة هي صَوْت الحُليّ حينما يتحرّك في أيدي النّساء، فيُحدِث صوتاً رقيقاً فيه جاذبيّة وإغراء تهيج له النّفس، وكذلك الشّيطان يدخل إلى الإنسان عن طريق الإغراء والتّزيين، فإذا حدّثتْك نفسك بالمعصية تركك لها، فعند هذه النّقطة تنتهي مُهمّته، ولكن هل النّفس لا تفعل المعصية إلّا بوسوسة الشّيطان؟ لا، فالنّفس الأمّارة بالسّوء قد تفعل المعصية من نفسها دون وسوسة من الشّيطان، وقد يُوسْوِسُ الشّيطان لها، وينزغها نَزغاً ويُؤلِّبها، ويُزِّين لها معصية ما كانت على بالها، فكيف نُفرّق بين هاتين المعصيتين؟ النّفس حينما ترغب في معصيةٍ أو شهوةٍ تراها تقف عند معصية بعينها لا تتزحزح عنها، وإذا قاومتَ نفسك، وحاولتَ صَرْفها عن هذه الشّهوة ألحَّتْ عليك بها، وطلبتها بعينها، فشهوة النّفس ثابتة؛ لأنّها تشتهي شيئاً واحداً تُلحّ عليه، ولكن حينما يُوسوِسُ الشّيطان لك بشهوةٍ فيجد منك مقاومةً وقدرةً على مجابهته يصرف نظرك إلى أخرى؛ لأنّه يريدك عاصياً بأيِّ شكلٍ من الأشكال، فتراه يُزيِّن لك معصيةً أخرى وأخرى، إلى أنْ ينال منك ما يريد، ومن ذلك ما نراه في الرّشوة مثلاً، فإنْ رفضتَ رشوة المال زيَّن لك رشوة الهديّة، وإنْ رفضتَ رشوة الهديّة زيَّنَ لك الرّشوة بقضاء مصلحة مقابلة، وهكذا يظلّ هذا اللّعين وراءك حتّى يصل إلى نقطة ضَعْف فيك، فهو ليس كالنّفس يقف بك عند شهوةٍ واحدةٍ، ولكنّه يريد أن يُوقِع بك على أيِّ صورةٍ من الصّور، ولكي نقفَ على مداخل الشّيطان ونكون منه على حَذر يجب أنْ نعلم أنّ الشّيطان على علمٍ كبيرٍ وصل به إلى صفوف الملائكة، بل سَمَّوه (طاووس الملائكة)، ويمكن أن نقف على شيءٍ من علم الشّيطان في دِقّة قَسَمه، حينما أقسم للحقّ سبحانه وتعالى أن يُغوي بني آدم: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص]، هكذا عرف الشّيطان أنْ يُقسِم القسَم المناسب، فلم يَقُلْ: بقوّتي ولا بحجّتي سأغوي الخَلْق، بل عرف لله سبحانه وتعالى صفة العزّة، فهو سبحانه وتعالى عزيزٌ لا يُغلب؛ لذلك ترك لخلْقه حرّيّة الإيمان به والاختيار، فقال: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: من الآية 29]، فالمعنى: فبعزّتك عن خَلْقك: يؤمن مَنْ يؤمن، ويكفر مَنْ يكفر، سوف أدخل من هذا الباب لإغواء البشر، ولكنّي لا أجرؤ على الاقتراب ممَّنْ اخترتَهم واصطفيتَهم، لن أتعرَّضَ لعبادك المخلصين، ولا دَخْلَ لي بهم، ولا سلطان لي عليهم، كذلك يجب أن نعلم أنّ الشّيطان دقيقٌ في تخطيطه، وهذا من مداخله وتلبيسه الّذي يدعونا إلى الحذر من هذا اللّعين، فالشّيطان لا حاجة له في أن يذهب إلى الأماكن السّيّئة، فقد كفاه أهلُها مشقّة الوَسْوسة، ووفّروا عليه المجهود، هؤلاء هم أولياؤه وأحبابه بما هم عليه من معصية الله عز وجل، ولكنّه في حاجة إلى أن يكون في المساجد ليُفسِد على أهل الطّاعة طاعتهم: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: من الآية 16]، وقد أوضح هذه القضيّة الإمام الجليل أبو حنيفة النّعمان، وكان مشهوراً بالفِطْنة، وعلى درايةٍ بمداخل الشّيطان وتلبيسه، وهذا كلّه جعل له باعاً طويلاً في الإفتاء، وقد عرض عليه أحدهم هذه المسألة: قال: يا إمام، كان لديّ مالٌ دفنته في مكان كذا، وجعلتُ عليه علامةً، فجاء السَّيْل وطمس هذه العلامة، فلم أَهتدِ إليه، فماذا أفعل؟ فتبسَّم أبو حنيفة وقال: يا بُنيّ، ليس في هذا علمٌ، ففي أيّ بابٍ من أبواب الفقه سيجد أبو حنيفة هذه القضيّة؟! ولكنّي سأحتال لك، وفعلاً تفتّقتْ قريحة الإمام عن هذه الحيلة الّتي تدلّ على عِلْمه وفقهه، قال له: إذا جئتَ في اللّيل فتوضّأ، وقُمْ بين يدي ربّك مُتهجِّداً، وفي الصّباح أخبرني خبرك، وفي صلاة الفجر قابله الرّجل مُبتسِماً، يقول: لقد وجدتُ المال، فقال: كيف؟ قال الرّجل: حينما وقفتُ بين يديْ ربّي في الصّلاة تذكّرت المكان وذهبتُ فوجدت مالي، فضحك الإمام وقال: والله لقد علمتُ أنّ الشّيطانَ لن يدعَك تُتِمّ ليلتك مع ربّك.

الآية رقم (90) - إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

هذه الآية العظيمة جامعةٌ لمفاتيح الخير كلّها، ونجد في هذه الآية ثلاثة أوامر: العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القُرْبى، وثلاثة نَواهٍ: تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ولـمّا نزلت هذه الآية قال ابن مسعود رضي الله عنه: “وَإِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ فِي القُرْآنِ لِحَلَالٍ وَحَرَامٍ وَأَمَرٍ وَنَهْيٍ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾”؛ لأنّها جمعتْ الفضائل كلّها الّتي يمكن أن تكون في القرآن الكريم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبّ أن يُسلِم عثمان بن مظعون، إلّا أنّ سيّدنا عثمان بن مظعون تريَّث في الأمر، عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِفِنَاءِ بَيْتِهِ بِمَكَّةَ جَالِسٌ، إِذْ مَرَّ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَكَشَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلا تَجْلِسُ؟»، قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَقْبِلَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُهُ إِذْ شَخَصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَظَرَ سَاعَةً إِلَى السَّمَاءِ، فَأَخَذَ يَضَعُ بَصَرَهُ حَتَّى وَضَعَهُ عَلَى يَمِينِهِ فِي الْأَرْضِ، فَتَحَرَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ جَلِيسِهِ عُثْمَانَ إِلَى حَيْثُ وَضَعَ بَصَرَهُ، وَأَخَذَ يُنْغِضُ رَأْسَهُ كَأَنَّهُ يَسْتَفْقِهُ مَا يُقَالُ لَهُ، وَابْنُ مَظْعُونٍ يَنْظُرُ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ، وَاسْتَفْقَهَ مَا يُقَالُ لَهُ، شَخَصَ بَصَرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى السَّمَاءِ كَمَا شَخَصَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَأَتْبَعَهُ بَصَرَهُ حَتَّى تَوَارَى فِي السَّمَاءِ، فَأَقْبَلَ إِلَى عُثْمَانَ بِجِلْسَتِهِ الْأُولَى، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ كُنْتُ أُجَالِسُكَ وَآتِيكَ، مَا رَأَيْتُكَ تَفْعَلُ كَفِعْلِكَ الْغَدَاةَ، قَالَ: «وَمَا رَأَيْتَنِي فَعَلْتُ؟»، قَالَ: رَأَيْتُكَ تَشْخَصُ بِبَصَرِكَ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعْتَهُ حَيْثُ وَضَعْتَهُ عَلَى يَمِينِكَ، فَتَحَرَّفْتَ إِلَيْهِ وَتَرَكْتَنِي، فَأَخَذْتَ تُنْغِضُ رَأْسَكَ كَأَنَّكَ تَسْتَفْقِهُ شَيْئًا يُقَالُ لَكَ، قَالَ: «وَفَطِنْتَ لِذَاكَ؟»، قَالَ عُثْمَانُ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ آنِفًا، وَأَنْتَ جَالِسٌ»، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: فَمَا قَالَ لَكَ؟ قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، قَالَ عُثْمَانُ: فَذَلِكَ حِينَ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي، وَأَحْبَبْتُ مُحَمَّداً([1])، ويُروى أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يعرض نفسه على قبائل العرب، وكان معه أبو بكر وعليّ رضي الله عنه، قال عليّ كرّم الله وجهه: فإذا بمجلس عليه وقار ومَهَابة، فأقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، فقام إليه مقرون بن عمرو وكان من شيبان بن ثعلبة فقال: إلى أيّ شيءٍ تدعونا يا أخا قريش؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾، فقال مقرون: إنّك دعوت إلى مكارم الأخلاق وأحسن الأعمال، أفِكتْ قريش إن خاصمتْك وظاهرتْ عليك، وعَنْ عِكْرِمَةَ رضي الله عنه، قَالَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ عَلَيَّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾، قَالَ: “أَعِدْ”، فَأَعَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: “وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَمَا يَقُولُ هَذَا بَشَرٌ”، وَقَالَ لِقَوْمِهِ: “وَاللَّهِ مَا فَيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمُ بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدَتِهِ مِنِّي، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ هَذَا الَّذِي يَقُولُ شَيْئاً مِنْ هَذَا، وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعَلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ”([2])، ومع شهادته هذه إلّا أنّه لم يؤمن، فقالوا: حَسْبُه أنّه شهد للقرآن الكريم وهو كافرٌ، وهكذا دخلتْ هذه الآيةُ قلوبَ هؤلاء القوم، واستقرّتْ في أفئدتهم؛ لأنّها آيةٌ جامعةٌ مانعةٌ، دعَتْ لكلّ خيرٍ، ونَهتْ عن كلّ شرٍّ، وهذا هو ديننا الإسلاميّ.

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ﴾: العدل هو الإنصاف والمساواة وعدم الميْل؛ لأنّه لا يكون إلّا بين شيئين متناقضين، لذلك سُمِّي الحاكم العادل مُنْصِفاً؛ لأنّه إذا مَثَلَ الخصمان أمامه جعل لكلٍّ منهما نصفَ تكوينه، وكأنّه قسَم نفسه نصفين لا يميل لأحدهما ولا قَيْد شعرة، هذا هو الإنصاف، ومن أجل الإنصاف جُعِل الميزان، والميزان تختلف دِقّته حَسْب الموزون، فحساسيّة ميزان الشّعير والقمح غير حساسيّة ميزان الجواهر مثلاً، وتتناهى دقّة الميزان عند أصحاب صناعة العقاقير الطّبّيّة، حيث أقلّ زيادة في الميزان يمكن أن تحوّل الدّواء إلى سُمٍّ، وقد شاهدنا تطوّراً كبيراً في الموازين، حتّى أصبحنا نزن أقلّ ما يمكن تصوّره، والعدل دائرٌ في أقضية الحياة كلّها من القمّة في شهادة أن لا إله إلّا الله إلى إماطة الأذى عن الطّريق، فالعدل مطلوبٌ في أمور التّكليف كلّها، في الأمور العقديّة الّتي هي عمل القلب، وكذلك مطلوبٌ في الأمور العمليّة الّتي هي أعمال الجوارح في حركة الحياة، فكيف يكون العدل في الأمور العقديّة؟ لو نظرنا إلى معتقدات الكفّار لوجدنا بعضهم يقول بعدم وجود إلهٍ في الكون، فأنكروا وجوده سبحانه وتعالى مطلقاً، وآخرون يقولون بتعدُّد الآلهة، هكذا تناقضتْ الأقوال وتباعدتْ الآراء، فجاء العدل في الإسلام، فالإله واحدٌ لا شريك له، مُنزّهٌ عَمّا يُشبه الحوادث، كما وقف موقفَ العدل في صفاته سبحانه وتعالى، فله سَمْعٌ، ولكن ليس كأسماع الـمُحدثات، لا ننفي عنه سبحانه وتعالى مثل هذه الصّفات فنكون من المعطّلة، ولا نُشبّهه سبحانه وتعالى بغيره فنكون من المشبِّهة، بل نقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشّورى: من الآية 11]، ونقف موقف العَدْل والوسطيّة، كذلك من الأمور العقديّة الّتي تجلَّى فيها عدل الإسلام قضيّة الجبر والاختيار، حيث اختار موقفاً وسطاً بين مَنْ يقول: إنّ الإنسان يفعل أفعاله باختياره دون دَخْلٍ لله سبحانه وتعالى في أعمال العبد؛ ولذلك رتَّبَ عليها ثواباً وعقاباً، ومن يقول: لا؛ بل الأعمال من الله سبحانه وتعالى والعبد مُجْبَرٌ عليها، فيأتي الإسلام بالعدالة والوسطيّة في هذه القضيّة، فيقول: بل الإنسان يعمل أعماله الاختياريّة بالقوّة الّتي خلقها الله سبحانه وتعالى فيه للاختيار.

وفي التّشريع والأحكام حدث تبايُنٌ كبيرٌ بين شريعة موسى عليه السلام وبين شريعة عيسى سبحانه وتعالى في القصاص مثلاً: في شريعة موسى عليه السلام طغتْ المادّيّة على بني إسرائيل حتّى قالوا لموسى عليه السلام: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النّساء: من الآية 153]، فهم لا يفهمون الغيب ولا يقتنعون به، فكان المناسب لهم القِصَاص، ولو تركهم الحقّ سبحانه وتعالى لَكَثُر فيهم القتل، فهم لا ينتهون إلّا بهذا الحُكْم الرّادع: مَنْ قتَل يُقتلُ، والقتل أنْفى للقتل، وقد تعدّى بنو إسرائيل في طلبهم رؤية الله عز وجل، فكوْنُك ترى الإله تناقضٌ في الألوهيّة؛ لأنّك حين تراه عينُك فقد حدّدتَه في حيّزٍ، فكونه لا يُرَى، هذا عَيْن الكمال فيه سبحانه وتعالى، وكيف نطمع في رؤيته جل جلاله، ونحن لا نستطيع رؤية حتّى بعض مخلوقاته، فالرّوح الّتي بين جَنْبي كلٍّ مِنّا ماذا نعرف عن طبيعتها وعن مكانها في الجسم؟ وبها نتحرّك ونزاول أعمالنا، وبها نفكّر، وبها نعيش، أين هي؟ فإذا ما فارقتْ الرّوح الجسم وأخذ الله سبحانه وتعالى سرّه تحوّل الإنسانُ إلى جيفةٍ يُسارع النّاس في مواراتها التّراب، هل رأيت هذه الرّوح؟ هل سمعتها؟ هل أدركتها بأيّ حاسّةٍ من حواسِّك؟ فإذا كانت الرّوح وهي مخلوقةٌ لله سبحانه وتعالى يعجز العقل عن إدراكها، فكيف بمَنْ خلق هذه الرّوح؟ فمن عظمته سبحانه وتعالى أنّه لا تُدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، كذلك هناك أشياءٌ ممّا يتطلّبها الدّين كالحقّ مثلاً، وهو معنىً من المعاني الّتي يدّعيها النّاس كلّهم، ويطلبون العمل بها، هذا الحقّ ما شَكْله؟ ما لونه؟ طويلٌ أم قصيرٌ؟ فإذا كُنّا لا نستطيع أن نتصوّر الحقّ، وهو مخلوقٌ لله سبحانه وتعالى، فكيف نتصوّر الله جل جلاله ونطمع في رؤيته؟! ومن إسراف بني إسرائيل في المادّيّة أن جعلوا لله سبحانه وتعالى في التّلمود جماعة من النّقباء، وجعلوه سبحانه وتعالى قاعداً على صخرةٍ يُدلّي رِجْليْه في قصعةٍ من المرمر، ثمّ أتى حوتٌ.. إلخ، سبحان الله؛ ألهذا الحدِّ وصلتْ بهم المادّيّة؟ ومن هنا كان الكون في حاجةٍ إلى طاقةٍ روحيّةٍ، تكون فيها الرّوحانيّة ليحدث نوعٌ من التّوازن في الكون، فجاءت شريعة عيسى عليه السلام بعد مادّيّةٍ مُفْرطةٍ وإسرافٍ في الموسَويّة، فكيف يكون حُكْم القصاص فيها وهي تهدف إلى أنْ تسموَ بروحانيّات النّاس؟ جاءت شريعة عيسى عليه السلام وعدّلت بهذا الموقف، لذلك نجد أنّ الإسلام عندما يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾، فالعدل اعتقاداً وبكلّ أمرٍ، فالإسلام جاء بالعدل والوسطيّة في كلّ أمرٍ، وأعطى وليّ المقتول حقّ القصاص ودعاه في الوقت ذاته إلى العفو، فقال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: من الآية 178]، ونلحظ أنّ القرآن الكريم جعل كثيراً من الأمور الّتي تتعلّق بإزالة الضّغائن، كلّ هذا من أمر الإسلام بالعدل، فالعدل تُقام عليه أمور الدّنيا كلّها، وحينما يُعطي المولى سبحانه وتعالى هذا الأمر للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ويقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾، فكلّ عدلٍ في الحكم، وكل عدلٍ في العقائد، وكلّ عدلٍ في الشّرائع، وكلّ عدلٍ في أيّ أمرٍ من الأمور فإنّما جاء من دين الوسطيّة والاعتدال، دين العدل، ولذلك عندما قال سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قوله المشهور لابن عمرو بن العاص رضي الله عنه: “متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟!”، هذه العدالة والوسطيّة الّتي رفع الإسلام البشريّة إليها، لم يستطع أحدٌ حتّى هذه اللّحظة ولن يستطيع أحدٌ أن يصل إلى معناها الحقيقيّ وإلى تطبيقها كما طبّقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما طبّقها الصّحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعاً، وكذلك في الاقتصاد الّذي هو عصب الحياة، الّذي به يتمّ استبقاء الحياة بالطّعام والشّراب والملْبس وغيره، يجب أن يكون هناك عدلٌ في حركة الإنتاج والاستهلاك، حتّى تستمرّ الحياة، وتمنع البطالة والفساد، وقد وزّع الله سبحانه وتعالى المواهب بين العباد، وطلب العدل، فالعدل في كلّ أمرٍ في الكون يُصلح الكون، وعندما يختلّ ميزان العدل، يبدأ الفساد، وتبدأ المشكلات، من ضياع الحقوق، ومن الخصومات في المحاكم، من العلاقة بين الرّجل والمرأة، والعلاقة داخل الأسرة، كلّ ما يتعلّق بموضوع العدل تدور عليه أقضية الحياة كلّها، وليس فقط القضاء الّذي نجد فيه الفصل في الخصومات بين النّاس، وهذا الدّين يأمر بالعدل، فهو: أمرٌ دائرٌ في حركات التّكليف كلّها، سواء كان تكليفاً عَقَديّاً، أم تكليفاً بواسطة الأعمال في حركة الحياة، فالأمر قائمٌ على الوسطيّة وخير الأمور الوسط.

﴿وَالْإِحْسَانِ﴾: ما الإحسان؟ إذا كان العدل أن تأخذ حقَّك، وأنْ تُعاقب بمثل ما عُوقبت به كما قال سبحانه وتعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: من الآية 194]، وقوله جل جلاله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾[النّحل: من الآية 126]، فالإحسان أنْ تتركَ هذا الحقّ، وتتنازلَ عنه ابتغاءَ وجه الله سبحانه وتعالى، عملاً بقوله عز وجل: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: من الآية 134]، والنّاس في الإحسان على مراتب مختلفة حسب قدرة الإنسان واستِعداده الخُلقيّ، وأوّل هذه المراتب كظم الغيظ، فالإنسان يكظم غَيْظه في نفسه، ويحتمل ما يَعتلج بداخله على المذنب دون أن يتعدَّى ذلك إلى الانفعال والرّدّ بالمثل، ولكنّه يظلّ يعاني ألم الغيظ بداخله وتتأجّج ناره في قلبه، لذلك يحسُن التّرقّي إلى المرتبة الأعلى، وهي مرتبة العفو، فيأتي الإنسان ويقول: لماذا أدَع نفسي فريسة لهذا الغيظ؟ فيميل إلى أنْ يُريح نفسه ويقتلع جذور الغيظ من قلبه، فيعفو عمَّنْ أساء إليه، ويُخرِج المسألة كلّها من قلبه، فإنِ ارتقى الإنسان في العفو، سما إلى المرتبة الثّالثة، وهي مرتبة أن تُحسن إلى مَنْ أساء إليك، وتزيد عمّا فرضَ لك حيث تنازلتَ عن الرّدِّ بالمثل، وارتقيتَ إلى درجة العارفين بالله سبحانه وتعالى، فالّذي اعتدى اعتدى بقدرته، وانتقم بما يناسبه، ومن ترقّى في درجات الإحسان ترك الأمر لقدرة الله سبحانه وتعالى، وأيْن قدرتُك من قدرة ربّك عز وجل؟ فالإحسان أجمل بالمؤمن، وأفضل من الانتقام.

والإحسان يشمل أموراً كثيرةً، منها الإحسان بالعطاء، الإحسان المادّيّ، الكرم، اللّطف، فهذا كلّه من جانب كلمة الإحسان، والإحسان: أنْ تصنع فوق ما فرض الله سبحانه وتعالى عليك، بشرط أن يكونَ من جنس ما فرضه جل جلاله عليك، فالإحسان كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَـمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»([3])؛ أي: أنّك تشعر برقابة الله عز وجل، فتكون محسناً في كلّ شيءٍ، مع النّاس ومع العمل ومع الصّلاة… إلخ.

﴿وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾: إيتاء: أي: إعطاء.

تحدّثنا سابقاً عن موضوع العطاء، والعالم حَلَقات مقترنة، فكلّ قادرٍ لو أعطى الأقرباء المحتاجين حوله من خيْره، وأفاض عليهم مِمّا أفاض الله سبحانه وتعالى عليه لَعَمَّ الخير المجتمع كلّه، وما وجدنا فقيراً محتاجاً؛ ذلك لأنّ هذه الدّوائر ستشمل المجتمع بمجمله، وقد تتداخل هذه الدّوائر فتلتحم العطاءات وتتكامل، فلا نرى في مجتمعنا فقيراً، وقد حثّتْ الآية على القريب، وحنَّنَتْ عليه القلوب؛ لأنّ البعيد عنك قريبٌ لغيرك، وداخلٌ في دائرة عطاء أخرى، وقد يكون الفقير قريباً لعدّة أطراف يأخذ من هذا ويأخذ من هذا، وبذلك تتكامل الحياة وتستطرق موارد العيش للنّاس كلّهم.

هذه هي مجموعة الأوامر الواردة في هذه الآية، ولا يوجد مجتمعٌ يتحلّى بهذه الأوامر إلّا ويرتقي ارتقاءً عظيماً، إنّ مجتمعاً فيه هذه الصّفات لَمجتمعٌ سعيدٌ آمِنٌ يسوده الحبّ والإيمان والإحسان، إنّه لجديرٌ بالصّدارة بين أمم الأرض.

﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾: هذه مجموعةٌ من النّواهي تمثّل مع الأوامر السّابقة منهجاً قرآنيّاً قويماً يضمن سلامة المجتمع، وأُولى هذه النّواهي النّهي عن الفحشاء أو الفاحشة، والمتتبّع لآيات القرآن الكريم سيجد أنّ الزّنا الذّنب الوحيد الّذي سمّاه القرآن الكريم فاحشةً، أو كلّ شيءٍ يخدش حُكْماً من أحكام الله سبحانه وتعالى، ولكن لماذا الزّنا بالذّات؟ نقول: لأنّ الذّنوب الأخرى غير الزّنا إنّما تتعلّق بمحيطات النّفس الإنسانيّة، أمّا الزّنا فيتعلَّق بالنّفس الإنسانيّة ذاتها، ويترتّب عليه اختلاط الأنساب وبه تُدَنَّسُ الأعراض، وبه يشكُّ الرّجل في أهله وأولاده، ويحدث بسبب هذا من الفساد ما لا يعلمه إلّا الله عز وجل؛ لذلك نصَّ عليه القرآن الكريم صراحةً في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ [الإسراء]، ومن أقوال العلماء في الفاحشة: إنّها الذّنب العظيم الّذي يخجل صاحبه منه ويستره عن النّاس، فلا يستطيع أنْ يُجاهر به، كما قال بعض العلماء، والزّنا على رأس ذلك.

﴿وَالْمُنْكَرِ﴾: هو الذّنب يتجرّأ عليه صاحبه، ويُجاهر به، ويستنكره النّاس.

فلدينا هنا مرتبتان من الذّنب:

الأولى: أنّ صاحب الذّنب يتحرَّج أن يعرفه المجتمع فيستره في نفسه، مثل الزّنا، وهذا هو الفحشاء.

الثّانية: ما يفعله صاحبه علناً وينكره المجتمع؛ لأنّه يُنافي قيم المجتمع، ويُنَافي الذّوق السّليم، وهذا هو المنكر.

﴿وَالْبَغْيِ﴾: هو الظّلم في أيِّ لَوْنٍ من ألوانه، وهو داخلٌ في أشياء كثيرة أعظمها ما يقع في العقيدة من الشّرك بالله سبحانه وتعالى، كما قال جل جلاله: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: من الآية 13]، فالبغي هو تجاوز الحقّ، وهو الظّلم، وأخذ حقوق الآخرين، فأيّ بغيٍ على الآخر هي من ظلم الإنسان لنفسه ولغيره؛ لأنّه يُقَدِّم شهوةً عاجلةً ومُتعةً زائفة، على نعيمٍ دائمٍ ومقيمٍ.

فالآية جمعتْ مجموعةً من الأوامر والنّواهي الّتي تضمن سلامة المجتمع، والأخلاق أعمُّ من أن تكون في الاعتقادات، وأعمُّ من أن تكون في المعجزة إيماناً بها، وأعمُّ من أن تكون في التّكاليف، وأعمُّ من أن تكون في أمرٍ لا حَدَّ فيه ولا حُكْمَ ولا إثم.

﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾: الوعظ: تذكيرٌ بالحكم، فعندنا أوّلاً إعلامٌ بالحكم لكي نعرفه، ولكنّه عُرْضة لأنْ نغفلَ عنه، فيكون الوعظ والتّذكير به، ونحتاج إلى تكرار ذلك حتّى لا نغفل، وعادة لا تكون العِظَة إلّا فيما له قيمة، وما دام الشّيء له قيمةٌ فلا تصطفي له إلّا مَنْ تحبّ، كذلك الحقّ سبحانه وتعالى يحبّ خَلْقه وصَنْعته؛ لذلك يَعِظهم ويُذكِّرهم باستمرارٍ بهذه الأوامر والنّواهي لكي يكونوا دائماً على الجادّة ليتمتّعوا بنعم المسبِّب في الآخرة، كما تمتّعوا بنعمة الأسباب في الدّنيا.

([1]) مسند الإمام أحمد: ومن مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العبّاس 8 عن النّبيّ ,، الحديث رقم (2919).

([2]) الاعتقاد للبيهقيّ: باب القول في إثبات نبوّة محمّد ,، ج1، ص 268.

([3]) صحيح البخاريّ: كتاب تفسير القرآن، باب قوله: ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ [لقمان: من الآية 34]، الحديث رقم (4777).

الآية رقم (91) - وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ

﴿وَأَوْفُوا﴾: الوفاء: أنْ تفِيَ بما عاهدتَ عليه، والعهود لا تكون في المفروض عليك، إنّما تكون في المباحات، فأنت حُرٌّ أن تلقاني غداً وأنا كذلك، لكن إذا اتّفقنا وتعاهدنا على اللّقاء غداً في السّاعة كذا ومكان كذا فقد تحوَّل الأمر من المباح إلى المفروض، وأصبح كُلٌّ مِنَّا مُلزَماً بأن يفي بعهده، ومعلومٌ أنّ مصالح العبادِ في الدّنيا قائمةٌ على الوفاء بالعهد، وقد ينظر بعضهم إلى الوفاء بالعهد على أنّه مُلْزَمٌ به وحده، أو أنّه عِبْءٌ عليه دون غيره، لكنّه في الحقيقة عليه وعلى غيره، فكما طلب منك الوفاء طلبه كذلك من الآخرين، فكلّ تكليفٍ لك لا تنظر إليه هذه النّظرة، بل تنظر إليه على أنّه لمصلحتك.

﴿بِعَهْدِ اللَّهِ﴾: عهد الله: هو الشّيء الّذي تُعاهد الله عز وجل عليه، وأوّل عَهْدٍ لك مع الله سبحانه وتعالى هو الإيمان به، وما دُمْتَ قد آمنتَ بالله جل جلاله فانظر إلى ما طلبه منك وما كلّفك به، وإيّاك أن تُخِلّ بأمرٍ من أموره؛ لأنّ الإخلال بأيّ أمرٍ تكليفيٍّ من الله سبحانه وتعالى يُعَدُّ نَقْصاً في إيمانك؛ لأنّك حينما آمنت بالله عز وجل شهدتَ بما شهد الله سبحانه وتعالى به لنفسه في قوله سبحانه وتعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: من الآية 18]، فأوّل مَنْ شهد الله سبحانه وتعالى لنفسه، وهذه شهادة الذّات للذّات، ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾؛ أي: شهادة المشاهدة، ﴿وَأُولُو الْعِلْمِ﴾؛ أي: بالدّليل والحجّة، فأوّل عَهْدٍ بيننا وبين الله سبحانه وتعالى أنّنا آمنّا به إلهاً حكيماً قادراً خالقاً مُربِّياً، فلنستمع إلى ما يطلبه منّا، فإنْ لم نستمع ونُنفّذ فلنعلم أنّ العهد الإيمانيّ الأوّل قد اختلَّ، ولذلك فالحقّ سبحانه وتعالى لم يُكلِّف الكافر؛ لأنّه ليس بينه وبينه عهد الإيمان، إنّما يُكلِّف مَنْ آمن، فتجد كلّ آيةٍ من آيات الأحكام تبدأ بهذا النّداء الإيمانيّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: من الآية 183]، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: من الآية 183].

﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾: الأَيْمان: جمع يمين، وهو الحلف الّذي نحلفه ونُؤكِّد عليه، فنقول: والله، وعهد الله.. إلخ، فلا يليق بنا أنْ ننقضَ ما أكَّدناه من الأَيْمان، بل نحن مُلزَمون أنْ نُوفِّي بها؛ لأنّنا إنْ وفَّينا بها وفّى الآخرون في المقابل العهد الّذي بيننا وبينهم، فالعهد بين النّاس بعضهم بعضاً مأخوذٌ من باطن العهد الإيمانيّ بالله سبحانه وتعالى؛ لأنّنا حينما نتعاهد نُشهد الله عز وجل على هذا العهد، فنقول: بيني وبينك عَهْد الله، فنُدخل بيننا الحق سبحانه وتعالى لِنُوثِّق ما تعاهدنا عليه.

﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾: أي: شاهداً ورقيباً وضامناً.

﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾: أي: يجب أن نعلم أنّ الله سبحانه وتعالى مُطَّلعٌ علينا، يعلم خفايا الضّمائر وما تُكِنّه الصّدور، فلنحذر حينما نُعطي العهد أن نُعطيه ونحن ننوي أن نخالفه، فلا يجوز أنْ نُعطي العهد خِدَاعاً، فالله سبحانه وتعالى يعلم ما نفعل.

الآية رقم (92) - وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا﴾: يضرب الحقّ سبحانه وتعالى في هذه الآية لنا مثلاً توضيحيّاً للّذين ينقضون العهد والأَيْمان، ولا يُوفون بها، بهذه المرأة القرشيّة الحمقاء ريْطة بنت عامر الّتي كانت تأمر جواريها بغزل الصّوف من الصّبح إلى الظّهر، ثمّ تأمرهُنَّ بنقض ما غزلنه من الظّهر حتّى العصر، والمتأمّل في هذا المثل يجد فيه دروساً متعدّدة، والغَزْل عمليّةٌ كان يقوم بها النّساء قديماً، فكُنَّ يُحضِرْن المادّة الّتي تصلح للغزل، مثل الصّوف أو الوبر، ومثل القطن الآن، وهذه الأشياء عبارةٌ عن شعيراتٍ دقيقة تختلف في طولها من نوعٍ لآخر، يُسمُّونها التّيلة، فيقولون: (هذه تيلةٌ قصيرةٌ، وهذه طويلةٌ)، والغَزْل هو أن نُكوِّن من هذه الشّعيرات خَيْطاً طويلاً ممتدّاً وانسيابيّاً دون عُقَد فيه لكي يصلح للنّسجْ بعد ذلك، وتتمّ هذه العمليّة بآلةٍ بدائيّةٍ تُسمّى المغزل، تقوم المرأة بخلط هذه الشّعيرات الدّقيقة ثمّ بَرْمِها بالمغزل، ليخرج في النّهاية خيطٌ طويلٌ مُنْسابٌ متناسق لا عُقَد فيه، والآية هنا ذكرتْ المرأة في هذا العمل؛ لأنّه عملٌ خاصٌّ بالنّساء في وقت نزول الآيات دون الرّجال، فكانت المرأة تُمارس مثل هذه الصّناعات البسيطة الّتي تكوِّن منها أثاث بيتها من فَرْش وملابس وغيره، فالقرآن الكريم ضرب لنا مثلاً بعمل المرأة الجاهليّة، هذا العمل الّذي يحتاج إلى جَهْدٍ ووقتٍ في الغزل، ويحتاج إلى أكثر منه في نَقْضه وفكِّه، فهذه عمليّةٌ شاقّةٌ جدّاً؛ ولذلك أطلقوا عليها: حمقاء قريش.

﴿ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ﴾: كلمة: ﴿قُوَّةٍ﴾ هنا تدلُّنا على المراحل الّتي تمرُّ بها عمليّة الغَزْل، وكم هي شاقّة، بداية من جَزِّ الصّوف من الغنم أو الوبر من الجِمال، ثمّ خَلْط أطراف كلّ تيلةٍ من هذه الشّعيرات، بحيث يكون طرف كلّ تيلة منها في وسط الأخرى لكي يتمّ التّلاحم بينها بهذا المزج، ثمّ تدير المرأة المغزل بين أصابعها لتخرج لنا في النّهاية بضعة سنتيمترات من الخيط، ولو قارنَّا بين هذه العمليّة اليدويّة، وبين ما توصّلتْ إليه صناعة الغزل الآن لَتبيَّن لنا كم كانت شاقّةً عليهم، فكأنّ القرآن الكريم شبَّه الّذي يُعطِي العهد ويُوثِّقه بالأيْمان المؤكّدة، ويجعل الله سبحانه وتعالى وكيلاً وشاهداً على ما يقول بالّتي غزلتْ هذا الغزل، وتحمّلت مشقّته، ثمّ راحتْ فنقضت ما أنجزته، وفكَّتْ ما غزلته.

وكذلك كلمة: ﴿ قُوَّةٍ ﴾ تدلُّنَا على أنّ كلّ عملٍ يحتاج إلى قوّة، هذه القوّة إمّا أنْ تُحرِّك السّاكن أو تُسكِّن المتحرِّك؛ لذلك قال سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: من الآية 63]؛ لأنّ ساكن الخير نريد أن نحرّكك إليه، ومتحرّك الشّرّ نريد أن نكفّك عنه، وهذه يسمّونها في عالم الحركة: (قانون العطالة)، المتحرّك يظلّ مُتحرِّكاً إلى أنْ يعرضَ له شيءٌ يُسكِّنه، والسّاكن يظلّ ساكناً إلى أنْ يعرِضَ له شيءٌ يُحرِّكه، ومن هنا يتعجَّب كثيرون من الأقمار الصّناعيّة الّتي تدور أعواماً عدّة في الفضاء، ويتساءلون: ما الوقود الّذي يُحرِّك هذه الأقمار طوال هذه الأعوام؟ والواقع أنّه لا يوجد وقودٌ يحرّكها، الوقود في مرحلة الانطلاق فقط، إلى أن يخرج من منطقة الهواء والجذْب، فإذا ما استقرّ القمر أو السّفينة الفضائيّة في منطقة عدم الجذب تدور وتتحرّك بنفسها من غير وقود، فهناك الشّيء المتحرّك يظلّ متحرّكاً، والسّاكن يظلّ ساكناً.

والحقّ سبحانه وتعالى بهذا المثَل المشَاهَد يُحذِّرنا من إخلاف العهد ونقْضه؛ لأنّه جل جلاله يريد أن يصونَ مصالح الخلق؛ لأنّها قائمةٌ على التّعاقد والتّعاهد والأيْمان الّتي تُبرَم بين النّاس، فَمَنْ خان العهد أو نقضَ الأيْمان لا يُوثَق فيه، ولا يُطْمَأنُّ إلى حركته في الحياة، ويُسقطه المجتمع من نظره، ويعزله عن حركة التّعامل الّتي تقوم على الثّقة المتبادلة بين النّاس.

﴿أَنْكَاثًا﴾: جمع نِكْث، وهو ما نُقِض وحُلَّ فَتْله من الغزل.

﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾: الدَّخَل: أنْ تُدخِلَ في الشّيء شيئاً أدنى منه من جنسه على سبيل الغِشِّ والخداع، كأن تُدْخِل في الذّهب عيار (24) قيراطاً مثلاً ذهباً من عيار (18) قيراطاً، أو كأن تُدخِلَ في اللّوز نَوى المشمش على أنّه منه، فكأنّ الأَيْمان القائمة على الصّدق والوفاء يُعطيها صاحبها وهو ينوي بها الخداع والغشّ، فيحلف لصاحبه وهو يقصد التّغرير به.

﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾: هذه هي العلّة في أنْ نتّخذَ الأَيْمان دَخَلاً فيما بيننا، الأَيْمان الزّائفة الخادعة؛ ذلك لأنّ الّذي باع نوى المشمش مثلاً على أنّه لوز، فقد أَرْبى؛ أي: أخذ أزيْد من حقّه وأنقص حَقَّ الآخرين، فالعلّة في الخداع بالأَيْمان الطّمع وطلب الزّيادة على حساب الآخرين، وقد تأتي الزّيادة بصورةٍ أخرى، كأن تُعاهِد شخصاً على شيءٍ ما، وقد أدَّيْتَ له بالعهود والأيْمان والمواثيق، ثمّ يجيء لك مَنْ هو أقوى منه، سواء كان بالقهر والسّلطان أم بالإغراء، فتنقض العهد الأوّل؛ لأنّ الثّاني أرْبى منه وأزيد، وفي مثل هذه المواقف يجب أن يأخذ الإنسان حِذْره، فمَنْ يُدريك لعلّه يُفعل بك كما فعلت، ويُكال لك بالمكيال ذاته الّذي كِلْتَ به لغيرك، فاحذر إذا تجرّأتَ على خَلْق الله سبحانه وتعالى أن يُجَرِّئ الله سبحانه وتعالى عليك مَنْ يسقيك من الكأس ذاته، وإذا كان الإنسان صاحب حرفةٍ أو صناعةٍ، فعليه ألّا يَغُشَّ النّاس، ويتذكَّر أنّ له عندهم مصالح، وفي أيديهم له حرفٌ وصناعات، فإذا تجرَّأَ عليهم جرَّأهم الله سبحانه وتعالى عليه؛ لأنّه جل جلاله يقول: أنا القيُّوم؛ أي: القائم على أمركم، فناموا أنتم فأنا لا أنام، فهذه مسألةٌ يجب أن نلحظها جيّداً، فمَنْ تَجرّأ على النّاس جرَّأهم الله عز وجل عليه، ومَنْ أخلص في عمله وأتقنه قذف الله سبحانه وتعالى في قلوب الخلق أنْ يُتقنوا له حاجته.

﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ﴾: أي: يختبركم الله سبحانه وتعالى بهذا العهد، فهو سبحانه وتعالى يعلم ما أنتم عليه ساعة أنْ عقدتم العهد، أَفِي نيّتكم الوفاء، أم في نيّتكم الغدر والخداع؟ وهَبْ أنّك تنوي الوفاء ثمّ عرضَ لك ما حال بينك وبينه، فالله سبحانه وتعالى يعلم حقائق الأمور ولا يخفَى عليه شيءٌ، فالابتلاء هنا لا يعني النّكبة والبلاء، بل يعني مجرّد الاختبار، والنّكبة والبلاء على الّذي يفشل في الاختبار، فالعبرة هنا بالنّتيجة.

﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾: فيوم القيامة تجتمع الخصوم، وتتكشَّف الحقائق، ويأتي القضاء فيما اختُلِفَ فيه في الدّنيا، وهَبْ أنّ إنساناً عمَّى على قضاء الأرض في أشياء، نقول له: إن عَمَّيْتَ على قضاء الأرض فلن تُعمّي على قضاء السّماء، وانتظر يوماً نجتمع ويحكم الله سبحانه وتعالى فيه.

الآية رقم (93) - وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

﴿وَلَوْ﴾: لو: حرف امتناعٍ لامتناع؛ أي: امتناع وجود الجواب لامتناع وجود الشّرط، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: من الآية 22]، فقد امتنع الفساد لامتناع تعدّد الآلهة.

﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾: فلو شاء الله سبحانه وتعالى لجعلَ العالم كلّه أمةً واحدةً على الحقّ لا على الضّلال، أمّةً واحدةً في الإيمان والهداية، كما جعل الأجناس الأخرى أمّةً واحدةً في الانصياع لمرادات الله سبحانه وتعالى منها؛ ذلك لأنّ أجناس الوجود المخلوقة للإنسان قبل أن يأتي إلى الحياة مخلوقة بالحقّ خَلْقاً تسخيريّاً، فلا يوجد جنسٌ من الأجناس يتأَبَّى عمّا قُصِد منه، لا الجماد ولا النّبات ولا الحيوان، هذه الأكوان كلّها تسير سَيْراً سليماً كما أراد الله سبحانه وتعالى منها، والعجيب أن يكون الإنسان هو المخلوق الوحيد المختلّ في الكون، ذلك لما له من حرّيّة الاختيار، يفعل أو لا يفعل، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحجّ: من الآية 18]، هكذا تسجد هذه المخلوقات كلّها لله سبحانه وتعالى دون استثناء، إلّا في الإنسان فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾، فلماذا حدث هذا الاختلاف عند النّاس؟ لأنّهم أصحاب الاختيار، فيستطيع الواحد منهم أن يفعلَ أو لا يفعل، فهل هذه المسألة خرجت عن إرادة الله سبحانه وتعالى، أم أرادها الله سبحانه وتعالى؟ قالوا: بأن الله سبحانه وتعالى زاول قدرته المطلقة في خَلْق الأشياء الـمُسخّرة، بحيث لا يخرج شيءٌ عمّا أريد منه، وكان من الممكن أنْ يأتيَ الإنسان على هذه الصّورة من التّسخير، لكنّه في هذه الحالة لن يزيد شيئاً، ولن يضيف جديداً في الكون، أليستْ الملائكة قائمة على التّسخير، ووصفهم الله سبحانه وتعالى بأنّهم: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التّحريم: من الآية 6]؟! فالتّسخير يُثبِت القدرة لله سبحانه وتعالى، فلا يخرج عن قدرته ولا عن مراده شيءٌ، لكنّ الاختيار يُثبت المحبوبيّة لله سبحانه وتعالى، وهذا فَرْقٌ يجب أنْ نتدبّره، فكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى خلق الإنسان وكرَّمه بأنْ جعلَه مختاراً في أنْ يطيعَ أو أنْ يعصيَ، فإذا ما أتى طائعاً مختاراً، وهو قادرٌ على المعصية، فقد أثبتَ المحبوبيّة لربّه سبحانه وتعالى، ولا بُدَّ أنْ تتوفّرَ للاختيار شروطٌ، أوّلها العقل، فهو آلة الاختيار، كذلك لا يُكلّف المجنون، فإذا توفّر العقل فلا بُدَّ له من النُّضْج والبلوغ، ويتمّ ذلك حينما يكون الإنسان قادراً على إنجاب مِثْله، وأصبحتْ له ذاتيّة مولّدة، وهذه سِمَة اكتمال الذّات؛ فهو قبل هذا الاكتمال ناقص التّكوين، وليس أَهْلاً للتّكليف، فإذا كان عاقلاً ناضجاً بالبلوغ واكتمال الذّات، فلا بُدَّ له أن يكون مختاراً غَيْرَ مُكْرهٍ، فإنْ أُكْرِه على الشّيء فلن يُسأَل عنه، فإنِ اختلَّ شَرْطٌ من هذه الثّلاثة فلا معنى للاختيار، وبذلك يضمن الحقّ سبحانه وتعالى للإنسان السّلامة في الاختيار، والله سبحانه وتعالى وإن كرَّم الإنسان بالاختيار، فمن رحمته به أنْ يجعلَ فيه بعض الأعضاء اضطراريّة مُسخّرة لا دَخْلَ له فيها، ولو تأمّلنا هذه الأعضاء لوجدناها جوهريّة، وتتوقّف عليها حياة الإنسان، فكان من رحمة الله جلَّ وعَلا بنا أنْ جعل هذه الأعضاء تعمل وتُؤدِّي وظيفتها دون أنْ نشعرَ، فالقلب مثلاً يعمل بانتظامٍ في اليقظة والمنام دون أن نشعرَ به، وكذلك التّنفّس والكُلَى والكبد والأمعاء وغيرها تعمل بقدرته سبحانه وتعالى مُسخّرةً، كالجماد والنّبات والحيوان، ومن لُطْفِ الله سبحانه وتعالى بخَلْقه أنْ جعلَ هذه الأعضاء مُسخّرة؛ لأنّه لو كان الإنسان مختاراً في عمل هذه الأعضاء، فكيف سيتنفّس مثلاً وهو نائمٌ؟! فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أنْ جعل الإنسان مختاراً في الأعمال الّتي تعرِضُ له، ويحتاج فيها إلى النّظر في البدائل، ولذلك يقولون: الإنسان أبو البدائل، فالحيوان مثلاً وهو أقرب الأجناس إلى الإنسان ليس لديْه هذه البدائل ولا يعرفها، فإذا آذيتَ حيواناً فإنّه يُؤذيك، وليس لديه بديلٌ آخر، ولكن إذا آذيْت إنساناً، فيحتمل أن يردّ عليك بالمثل، أو بأكثر ممّا فعلتَ، أو أقلّ، أو يعفو ويصفح، والعقل هو الّذي يُرجِّح أحد هذه البدائل، فلو شاء الله سبحانه وتعالى أن يجعل النّاس أمّةً واحدةً لجعلها، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا﴾[الرّعد: من الآية 31]، ولكنّه سبحانه وتعالى لم يشَأْ ذلك، بدليل قوله جل جلاله:

﴿لَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾: وهذه الآية يقف عندها المتمحِّكون، والّذين قَصُرَتْ أنظارهم في فهْم كتاب الله عز وجل، فيقولون: بما أنّ الله سبحانه وتعالى هو الّذي يضِلّ النّاس، فلماذا يُعذِّبهم؟! ونتعجَّب من هذا الفهم المبتور لكتاب الله سبحانه وتعالى، ونقول لهؤلاء: لماذا أخذتُمْ جانب الضّلال وتركتُم جانب الهدى؟ لماذا لم تقولوا: بما أنّ الله سبحانه وتعالى بيده الهداية، وهو الّذي يهدي، فلماذا يُدخِلنا الجنّة؟ فهذه كلمةٌ يقولها المسرفون؛ لأنّ معنى: ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾؛ أي: يحكم على هذا من خلال عمله بالضّلال، ويحكم على هذا من خلال عمله بالهداية، مثل ما يحدث عندنا في لجان الامتحان، فلا نقول: اللّجنة أنجحت فلاناً وأرسبت فلاناً، فليست هذه مهمّتها، بل مهمّتها أن تنظر أوراق الإجابة، ومن خلالها تحكم اللّجنة بنجاح هذا وإخفاق ذاك، وكذلك الله سبحانه وتعالى لا يجعل العبد ضالّاً، بل يحكم على عمله أنّه ضلال وأنّه ضَالّ، فالمعنى: يحكم بضلال مَنْ يشاء، ويحكم بهُدَى مَنْ يشاء، وليس لأحدٍ أن ينقلَ الأمر إلى عكس هذا الفهم، بدليل قوله سبحانه وتعالى بعدها:

﴿وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: فالعبد لا يُسأل إلّا عَمَّا عملتْ يداه، والسّؤال هنا معناه حرّيّة الاختيار في العمل، وكيف تسأل عن شيءٍ لا دَخْل لك فيه؟ فلنفهم عن الله سبحانه وتعالى مُرَادَهُ من الآية.

الآية رقم (94) - وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ

﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾: وردتْ كلمة (الدّخَل) في الآية قبل السّابقة، وقلنا: إنّ معناها: أن تُدخِلَ في الشّيء شيئاً أدْنى منه من جنسه على سبيل الغشِّ والخداع، وإن كان المعنى واحداً في الآيتين فإنّ الآية السّابقة جاءت لتوضيح سبب الدَّخَل وعلّته، وهي أن تكون أُمّة أَرْبى من أمّة، ويكسب أحد الأطراف على حساب الآخر، أمّا في هذه الآية فجاءت لتوضيح النّتيجة من وجود الدَّخَل، وهي:

﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾: ففي الآية نَهْيٌ عن اتّخاذ الأَيْمان للغشّ والخداع والتّدليس؛ لأنّ نتيجة هذا الفعل فسادٌ يأتي على المجتمع من أساسه، وفَقْدان للثّقة المتبادلة بين النّاس الّتي يقوم عليها التّعامل، وتُبنَى حركة الحياة، ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾، وبذلك يسقط حقُّه مع المجتمع، ويحيق به سوء فِعْله، ويجني بيده ثمار ما أفسده في المجتمع، وبانتشار هذا الخلُق السّيئ تتعطّل حركة الحياة، وتضيع الثّقة والأمانة، فهذه زَلَّة وكَبْوة بعد ثباتٍ وقوّة، بعد أنْ كان أَهْلاً للثّقة صاحب وفاء بالعهود والمواثيق يُقبِل عليه النّاس، ويُحبُّون التّعامل معه بما لديْه من شرف الكلمة وصِدْق الوعد، فإذا به يتراجع للوراء، ويتقهقر للخلف، ويفقد هذه المكانة، ولذلك نجد أهل المال والتّجارة يقولون: فلانٌ اهتزَّ مركزه في السّوق؛ أي: زَلَّتْ قدمه بما حدث منه من نقْضٍ للعهود، وحِنْثٍ في الأيمان، وغير ذلك ممّا لا يليق بأهل الثّقة في السّوق، أمّا الوفاء بالعهود والمواثيق والأَيْمان فيجعل قدم الإنسان في حركة الحياة ثابتةً لا تتزحزح ولا تهتزّ.

﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾: السّوء: أي: العذاب الّذي يسُوء صاحبه في الدّنيا من مهانةٍ واحتقارٍ بين النّاس، وكسَادٍ في الحال، بعد أنْ سقط من نظر المجتمع، وهدم جِسْر الثّقة بينه وبين مجتمعه.

﴿بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: الحديث هنا عن الّذين ينقضون العهود والأَيْمان ولا يُوفُونَ بها، فهل في هذا صَدٌّ عن سبيل الله؟

نقول: أوّلاً إنّ معنى سبيل الله عز وجل: كلّ شيءٍ يجعل حركة الحياة منتظمة تُدَار بشرفٍ وأمانةٍ وصِدْقٍ ونفاذ عهدٍ، ومن هنا، فالّذي يُخلف العهد، ولا يفي بالمواثيق يعطي للمجتمع قدوةً سيّئةً تجعل صاحب المال يضنُّ بماله، وصاحب المعروف يتراجع، فلو أقرضتَ إنساناً وغدرَ بكَ فلا أظنُّك مُقرِضاً لآخر، فلا شَكَّ أنّ في هذا صدّاً عن سبيل الله عز وجل، وتزهيداً للنّاس في فعْل الخير.

﴿وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾: فبالإضافة إلى ما حاقَ بهم من خسارة في الدّنيا، وبعد أنْ زَلَّتْ بهم القدم، ونزل بهم من عذاب الدّنيا ألوانٌ ما زال ينتظرهم عذابٌ عظيمٌ؛ أي: في الآخرة.

الآية رقم (95) - وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾: الحقّ سبحانه وتعالى في هذه الآية ينهانا ويُحذِّرنا: إيّاك أنْ تجعلَ عهد الله سبحانه وتعالى الّذي أكّدته للنّاس، وجعلت الله سبحانه وتعالى عليه كفيلاً، عرضةً للنّقض، فبعد أن كنت حُرّاً في أن تعاهد أو لا تعاهد، بمجرّد العهد أصبح نفاذه واجباً ومفروضاً عليك.

أو أنّ المراد بعهد الله سبحانه وتعالى؛ أي: شرعه الّذي تعاهدتَ على العمل به والحفاظ عليه، وهو العهد الإيمانيّ الأعلى، وهو أن تؤمنَ بالله سبحانه وتعالى وبصدق الرّسول صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن الله عز وجل، وتلتزم بكلّ ما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم من أحكامٍ، إيّاك أنْ تقابله بشيءٍ آخر تجعله أغْلى منه؛ لأنّك إنْ نقضْتَ عهد الله عز وجل لشيءٍ آخر من متاع الدّنيا الزّائل فقد جعلتَ هذا الشّيء أغلى من عهد الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الثّمن مهما كان سيكون قليلاً.

ثمّ يأتي تعليل ذلك في قوله سبحانه وتعالى:

﴿إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾: فالخير في الحقيقة ليس في متاع الدّنيا مهما كَثُر، بل فيما عند الله سبحانه وتعالى، وقد أوضح ذلك في قوله جل جلاله: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النّحل: من الآية 96]، ولنا وقفةٌ مع قوله سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾، فهذا أسلوب توكيدٍ بالقصر بإعادة الضّمير (هو)، فلم يَقُلِ الحقّ سبحانه وتعالى: (إنّما عند الله خيرٌ لكم)، فيحتمل أنّ ما عند غيره أيضاً خيْرٌ لكم، أمّا في تعبير القرآن الكريم: ﴿هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾؛ أي: الخير فيما عند الله سبحانه وتعالى على سبيل القَصْر، كما في قوله جل جلاله: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشّعراء]، فجاء بالضّمير (هو) ليؤكّد أنّ الشّافي هو الله سبحانه وتعالى لوجود مَظنّة أن يكون الشّفاء من الطّبيب أو الدّواء، أمّا في الأشياء الّتي لا يُظَنّ فيها المشاركة فتأتي دون هذا التّوكيد بــ (هو) كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾[الشّعراء]، فلم يقل: (هو يميتني هو يُحيين)؛ لأنّه لا يُميت ولا يُحيي إلّا الله سبحانه وتعالى، فلا حاجةَ للتّوكيد هنا.

فما الّذي يُخرج الإنسان عن الوفاء بالعهد؟ الّذي يُخرج الإنسان عن الوفاء بالعهد أنْ يرى مصلحةً سطحيّةً فوق ما تعاقد عليه تجعله يخرج عمّا تعاهد عليه إلى هذه السّطحيّة، ولكنّه لو عقل وتدبَّر الأمر لعلم أنّ ما يسعى إليه ثمنٌ بَخْسٌ، ومكسبٌ قليلٌ زائلٌ إذا ما قارنه بما ادُّخِر له في حالة الوفاء؛ لأنّ ما أخذه حظّاً من دنياه لا بُدّ له من زوال، والعقل يقول: إنّ الشّيء، إذا كان قليلاً باقياً يفضل الكثير الّذي لا يبقى، فما بالنا إذا كان القليل هو الّذي يفنى، والكثير هو الّذي يبقى؟!

﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾: في الآية دِقَّة الحساب، ودِقَّة المقارنة، ودِقَّة حَلِّ المعادلات الاقتصاديّة، وأقف هنا عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم، عندما أُهدِيَ إليه شاةً فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنّهم ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا بَقِيَ مِنْهَا»؟ قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلاَّ كَتِفُهَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا»([1])، فعلّمنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن ننظر إلى الباقي الحقيقيّ، وليس إلى الباقي الشّكليّ، فالباقي الحقيقيّ هو ما يبقى في ميزان الآخرة.

([1]) سنن التّرمذيّ: أبواب صفة القيامة والرّقائق والورع، باب 33، الحديث رقم (2470).

الآية رقم (96) - مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾: يُوضِّح المولى سبحانه وتعالى أنّ حظَّ الإنسان من دُنْياه عَرَضٌ زائلٌ، فإمَّا أن تفوته بالموت، أو يفوتك هو بما يجري عليك من أحداث، أمّا ما عند الله سبحانه وتعالى فهو بَاقٍ لا نفاد له.

﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا﴾: كلمة: ﴿صَبَرُوا﴾ تدلُّ على أنّ الإنسان سيتعرّض لِهزَّاتٍ نفسيّةٍ نتيجة ما يقع فيه من التّردّد بين الوفاء بالعهد أو نَقْضه، حينما يلوح له بريق المال وتتحرَّك بين جنباته شهوات النّفس، فيقول له الحقّ تبارك وتعالى: اصبر، لا تكُنْ عَجُولاً، وقارن المسائل مقارنةً هادئةً، وتحمَّل كلّ مشقّةٍ نفسيّةٍ، وتغلّب على شهوة النّفس؛ لتصل إلى النّتيجة المحمودة.

﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا﴾: أي: على مشقَّات الوفاء بالعهود.

﴿أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾: أي: أجراً بالزّيادة في الجزاء على أحسن ما يكون؛ فالإنسان حين يعمل مفروضاً أو مندوباً فله الجزاء، أمّا المباح فالمفروض ألّا جزاء له، ولكنّ فضل الله سبحانه وتعالى يجزي عليه أيضاً.

الآية رقم (97) - مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾: الحقّ سبحانه وتعالى يُعطينا قضيّةً عامّةً، هي قضيّة المساواة بين الرّجل والمرأة، فالعهود كانت عادةً تقع بين الرّجال، وليس للمرأة تدخُّلٌ في إعطاء العهود، حتّى إنّها لـمّا دخلتْ في عهدٍ مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بيعة العقبة جعل واحداً من الصّحابة يُبايع النّساء نيابةً عنه، فالمرأة بعيدةٌ عن هذا المعتَرك؛ لأنّ هذا من خصائص الرّجال عادةً، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يقول لنا: نحن لا نمنع أن يكونَ للأنثى عملٌ صالحٌ، ولا تظنّوا أنّ المسألة منسحبةٌ على الرّجال دون النّساء، فالعمل الصّالح مقبولٌ من الذّكر والأنثى على حدٍّ سواء، شريطة أنْ يتوفَّر له الإيمان، ولذلك يقول سبحانه وتعالى:

﴿ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾: وبذلك يكون العمل له جَدْوى ويكون مقبولاً عند الله تبارك وتعالى، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾  [الزّلزلة]، وهذا خاصٌّ بأمور الدّنيا، فالّذي يحسن شيئاً ينال ثمرته، لكن في جزاء الآخرة نقول لهؤلاء: لا حَظَّ لكم اليوم، خذوا أجركم مِمَّنْ عملتُم له، فقد عملتُم الخير للإنسانيّة، للشّهرة وخلود الذّكْر، وقد أخذتم ذلك في الدّنيا، فقد خَلَّدوا ذِكْراكم، ورفعوا شأنكم، ولم يبخسوكم حَقَّكم في الشُّهْرة والتّكريم، فالإيمان شَرْطٌ لقبول العمل الصّالح، فإذا ما توفّر الإيمان فقد استوى الذّكَر والأنثى في الثّواب والجزاء.

﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾: هذه هي النّتيجة الطّبيعيّة للعمل الصّالح الّذي يبتغي صاحبه وجه الله سبحانه وتعالى والدّار الآخرة، فيجمع الله عز وجل له حظّين من الجزاء، حظّاً في الدّنيا بالحياة الطّيّبة الهانئة، وحظّاً في الآخرة، والحياة الطّيّبة لا تُقاس بالأشكال ولا بالأموال، وإنّما تُقاس بالرّضى، فقد تعيش حياةً طيّبةً وأنت أفقر النّاس، وقد يكون أغنى النّاس في حياةٍ غير طيّبة؛ لأنّه غير راضٍ، دائماً يطمع، ويخاف من زوال النّعمة.

﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾: الجزاء على العمل، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ [النّجم].

الآية رقم (87) - وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ

﴿وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾: السَّلَم: أي: الاستسلام، فقد انتهى وقت الاختيار ومضى زمن المهْلة، تعمل أو لا تعمل، إنّما الآن: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾[غافر: من الآية 16]؟ ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: من الآية 16]، الأمر والملك لله عز وجل، وما داموا لم يُسلِموا طواعيةً واختياراً، فَلْيُسلِموا له قَهْراً ورَغْماً عن أنوفهم، وهنا تتّضح لنا ميْزة من ميْزات الإيمان، فالله سبحانه وتعالى جعل الإنسان مختاراً فاختار الإيمان، أمّا هنا يستسلمَ قَهْراً يوم تتكشّف الحقيقة على أنّه لا إله إلّا الله، وسوف يُواجهني الله سبحانه وتعالى في يومٍ لا اختيار لي فيه.

﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾: كلمة: الضّلال تردُ بمعانٍ متعدّدة، منها: ضلَّ؛ أي: غاب عنهم شفعاؤهم، فأخذوا يبحثون عنهم فلَم يجدوهم، ومن هذا المعنى قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [السّجدة: من الآية10]؛ أي: يغيبوا في الأرض، حيث تأكل الأرض ذرّاتهم، وتُغيِّبهم في بطنها، وكذلك نقول: الضّالّة؛ أي: الدّابّة الّتي ضلَّتْ؛ أي: غابتْ عن صاحبها، ومن معاني الضّلال: النّسيان، ومنه قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾  [البقرة: من الآية 282]، ومن معانيه: التّردّد، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضّحى]، فلم يكُنْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهجٌ ثمّ تركه وانصرف عنه وفارقه، ثمّ هداه الله سبحانه وتعالى، بل كان صلى الله عليه وسلم مُتحيّراً مُتردّداً فيما عليه سادة القوم وأهل العقول الرّاجحة من أفعالٍ تتنافى مع العقل السّليم والفطرة النَّيّرة، فكانت حيرة الرّسول صلى الله عليه وسلم فيما يراه من أفعال هؤلاء وهو لا يعرف حقيقتها.

فقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾: أي: غاب عنهم.

﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾: أي: يكذبون من ادّعائهم آلهة وشفعاءَ من دون الله سبحانه وتعالى.

الآية رقم (98) - فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ

﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾: الاستعاذة: اللّجوء والاعتصام بالله سبحانه وتعالى من شيءٍ تخافُه، فأنت لا تلجأ ولا تعتصم، ولا تستجير ولا تستنجد إلّا إذا استشعرتَ في نفسك أنّك ضعيفٌ عن مقاومة عدوّك، فإذا كان عدوّك الشّيطان بما جعل الله سبحانه وتعالى له من قوّةٍ وسلطانٍ، وما له من مداخل للنّفس البشريّة فلا حَوْلَ لك ولا قُوّة في مقاومته إلّا أنْ تلجأ إلى الله سبحانه وتعالى القويّ الّذي خلقك وخلق هذا الشّيطان، وهو القادر وحده على رَدّه عنك؛ لأنّ الشّيطان في معركةٍ مع الإنسان تدور رحاها إلى يوم القيامة، وقد أقسم الشّيطان للحقّ سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾[ص]، فما عليك إلّا أن تكون من هؤلاء، ما عليك إلّا أنْ ترتمي في حضن ربّك عز وجل وتعتصم به، فهو سبحانه وتعالى القويّ القادر على أنْ يدفعَ عنك ما لم تستطع أنت دَفْعه عن نفسك، فلا تُقاوم الشّيطان بقوّتك أنت؛ لأنّه لا طاقة لك به، ولا تدعه ينفرد بك؛ لأنّه إن انفرد بك وأبعدك عن الله عز وجل فسوف تكون له الغلبة، ولذلك نقول دائماً: لا حَوْلَ ولا قوّةَ إلّا بالله؛ أي: لا حول: لا تحوُّل عن المعصية، ولا قوّة؛ أي: على الطّاعة إلّا بالله سبحانه وتعالى.

وفي مقام الاستعاذة بالله سبحانه وتعالى نذكر قاعدةً إيمانيّةً علَّمنا إيّاها الرّسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشّريف: «مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ»([1])، فيلزم المؤمن أنْ يُعيذ من استعاذ بالله عز وجل، وإنْ كان في أحبّ الأشياء إليه، والرّسول صلى الله عليه وسلم كان لنا القدوة في ذلك، وفي الآية الكريمة أسلوب شرطٍ، اقترن جوابه بالفاء في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَاسْتَعِذْ﴾، فإذا رأينا الفاء فلنعلم أنّ ما بعدها مترتّبٌ على ما قبلها، كما لو قُلْتَ: إذا قابلتَ محمّداً فقُلْ له: كذا، فلا يتمّ القول إلّا بعد المقابلة، أمّا في الآية الكريمة فالمراد: إذا أردت قراءة القرآن الكريم فاستعِذْ؛ لأنّ الاستعاذة هنا تكون سابقةً على القراءة، كما جاء في قَول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: من الآية 6]، فالمعنى: إذا أردتُمْ إقامة الصّلاة فاغسلوا وجوهكم، وكذلك هنا إذا أردتَ قراءة القرآن الكريم فاستعذ بالله من الشّيطان الرّجيم؛ لأنّ القرآن كلام الله عز وجل، ولو آمنّا أنّ الله سبحانه وتعالى هو الّذي يتكلّم لعلمنا أنّ قراءة القرآن الكريم تختلف عن أيّ قراءةٍ أخرى، فأنت كي تقرأ القرآن الكريم تقوم بعمليّات متعدّدة بعد الطّهارة والوضوء وستر العورة.. إلخ:

أوّلها: استحضار قداسة الـمُنْزِل سبحانه وتعالى الّذي آمنتَ به وأقبلتَ على كلامه.

ثانيها: استحضار صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم في بلاغ القرآن الكريم المنزَّل عليه.

ثالثها: استحضار عظمة القرآن الكريم، بما فيه من أوجه الإعجاز، وما يحويه من الأحكام والآداب.

فلا بدّ لنا من ثلاث عمليّات نستعد بها لقراءة كلام الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم، وكلٍّ منها عملٌ صالحٌ لن يدعنا الشّيطانُ نؤدّيه دون أنْ يتعرَّض لنا، ويُوسوس لنا، ويصرفنا عمّا نحن مُقبِلون عليه، وساعتها لن نستطيع منعه إلّا إذا استعنّا عليه بالله عز وجل، واستعذنا منه بالله سبحانه وتعالى، وبذلك نكون في معيّة الله جل جلاله منزِّل القرآن الكريم، وفي رحاب عظمة المنزَّل عليه محمّد صلى الله عليه وسلم صدقاً، ومع استقبال ما في القرآن الكريم من إعجاز وأحكام وآداب، ومن هنا وجب علينا الاستعاذة بالله سبحانه وتعالى من الشّيطان قبل قراءة القرآن الكريم.

﴿مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾: أي: الملعون المطرود من رحمة الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الشّيطان ليس مخلوقاً جديداً يحتاج أنْ نُجرِّبه لنعرف طبيعته وكيفيّة التّعامل معه، بل له معنا سوابق عداء منذ أبينا آدم عليه السلام، وقد حذّر الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام منه فقال: ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ﴾ [طه: من الآية 117]، وسبق أنْ رُجم ولُعِن وأُبعِد من رحمة الله عز وجل، فقد هدّدنا بقوله: ﴿لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ﴾ [الإسراء: من الآية 62]، فهناك عداوةٌ مسبقةٌ بيننا وبينه منذ خُلِق الإنسان، وإلى قيام السّاعة.

([1]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: ومن مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العبّاس بن عبد المطّلب  t عن النّبيّ ,، الحديث رقم (2247).