﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾: قوله سبحانه وتعالى: ﴿بَدَّلْنَا﴾، ومنها: أبدلت واستبدلْتُ؛ أي: رفعتُ آية وطرحتُها، وجئت بأخرى بدلاً منها، وقد تدخل الباء على الشّيء المتروك، كما في قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ [البقرة: من الآية 61]؛ أي: تتركون ما هو خير، وتستبدلون به ما هو أدنى.
﴿آيَةً﴾: ما معنى الآية؟ كلمة: ﴿آيَةً﴾ لها مَعَانٍ متعدّدة منها:
1- الشّيء العجيب الّذي يُلفت الأنظار، ويُبهر العقول، كما نقول: هذا آيةٌ في الجمال، أو في الشّجاعة، أو في الذّكاء؛ أي: وصل فيه إلى حَدٍّ يدعو إلى التّعجُّب والانبهار.
2- ومنها الآيات الكونيّة، حينما نتأمّل في كون الله سبحانه وتعالى من حولنا نجد آياتٍ تدلُّ على إبداع الخالق سبحانه وتعالى وعجيب صنعته، ونجد تناسقاً وانسجاماً بين هذه الآيات الكونيّة، يقول سبحانه وتعالى عن هذا النّوع من الآيات: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ [فصّلت: من الآية 37]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾ [الشّورى]، وقال جل جلاله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران]، ونلاحظ أنّ هذه الآيات الكونيّة ثابتةٌ دائمة لا تتبّدل، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الفتح: من الآية 23].
3- ومن معاني الآية: المعجزة، وهي الأمر العجيب الخارق للعادة، ﴿فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [الشّعراء: من الآية 154]، وتأتي المعجزة على أيدي الأنبياء -عليهم السّلام- لتكون حُجّة لهم، ودليلاً على صدق ما جاؤوا به من عند الله عز وجل، ونلاحظ في هذا النّوع من الآيات أنّه يتبدّل ويتغيّر من نبيٍّ لآخر؛ لأنّ المعجزة لا يكون لها أثرها إلّا إذا كان في شيءٍ نبغ فيه القوم؛ لأنّ هذا هو مجال الإعجاز، فلو أتيناهم بمعجزةٍ في مجالٍ لا عِلْمَ لهم به، لقالوا: لو أنّ لنا عِلْماً بهذا لأتيْنا بمثله؛ لذلك تأتي المعجزة فيما نبغُوا فيه، وعَلِموه جيّداً حتّى اشتهروا به، فلمّا نبغَ قوم موسى عليه السلام في السّحر كانت معجزته من نوع السّحر الّذي يتحدّى سحرهم، فلمّا جاء عيسى عليه السلام ونبغ قومه في الطّبّ والحكمة كانت معجزته من النّوع نفسه، فكان عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله عز وجل، فلمّا بُعِث سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، ونبغ قومه في البلاغة والفصاحة والبيان، وكانوا يقيمون لها الأسواق، ويُعلّقون قصائدهم على أستار الكعبة اعتزازاً بها، فكان لا بُدَّ أنْ يتحدّاهم بمعجزةٍ من جنس ما نبغوا فيه وهي القرآن الكريم، وهكذا تتبدّل المعجزات لتناسب كُلٌّ منها حال القوم، وتتحدّاهم بما اشتهروا به، لتكون أَدْعى للتّصديق، وأثبت للحجّة.
4- ومن معاني كلمة: ﴿آيَةٍ ﴾: آيات القرآن الكريم الّتي نُسميّها حاملة الأحكام، قال سبحانه وتعالى: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾[فصّلت: من الآية 3]، فإذا كانت الآية هي الأمر العجيب، فما وجه العجب في آيات القرآن الكريم؟ وهذا النّوع الأخير من الآيات، الّتي هي آيات الكتاب الكريم، والّتي نُسمّيها حاملة الأحكام، هل تتبدّل هي الأخرى كسابقتها؟ نقول: آيات القرآن الكريم لا تتبدّل؛ لأنّ أحكام الله سبحانه وتعالى المطلوبة مِمَّن عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم كالأحكام المطلوبة مِمَّنْ تقوم عليه السّاعة، وقد سُبق الإسلام باليهوديّة والنّصرانيّة، فعندما أُمِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأمرِ الله سبحانه وتعالى، وهو تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرّفة، اعترض على ذلك اليهود، وقالوا: ما بال محمّد لا يثبتُ على حالٍ، فيأمر بالشّيء اليوم، ويأمر بخلافه غداً؟! فإنْ كانت القبلة الصّحيحة هي الكعبة فصلاتكم لبيت المقدس باطلةٌ، وإنْ كان بيت المقدس هو الصّحيح، فصلاتكم للكعبة باطلةٌ، لذلك نزلت هذه الآية، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾، فالمراد بقوله الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾: أي: جِئْنا بآيةٍ تدلُّ على حكمٍ يخالف ما جاء في التّوراة، فقد كان استقبال الكعبة في القرآن الكريم بدل استقبال بيت المقدس في التّوراة.
﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ﴾: أي: يُنزِّل كلّ آيةٍ حَسْب ظروفها: أمّةً وبيئةً ومكاناً وزماناً.
﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾: أي: اتّهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب المتعمّد، وأنّ هذا التّحويل من عنده صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه يريد مكّة، وليس وَحْياً من الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ أحكام الله سبحانه وتعالى لا تتناقض، ونقول: نعم، أحكام الله سبحانه وتعالى لا تتناقض في الدّين الواحد، أمّا إذا اختلفتْ الأديان فلا مانعَ من اختلاف الأحكام؛ أي: التّشريعات وليس العقائد، فالعقيدة واحدةٌ في الرّسالات كلّها، قال سبحانه وتعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشّورى: من الآية 13]، فآيات القرآن الكريم لا تتبدّل، ولكن يحدث فيها نَسْخٌ، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: من الآية 106]، وإليكم أمثلة للنّسْخ في القرآن الكريم:
– حينما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التّغابن: من الآية 16]، جعل الاستطاعة ميزاناً للعمل، فالمشرّع سبحانه وتعالى حين يرى أنّ الاستطاعةَ لا تكفي يُخفّف عنَّا الحكم، حتّى لا يُكلِّفنا فوق طاقتنا، كما في صيام المريض والمسافر مثلاً، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: من الآية 286]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [الطّلاق: من الآية 7]، فليس لنا بعد ذلك أنْ نلويَ الآيات ونقول: إنّ الحكم الفلانيّ لم تَعُدْ النّفس تُطيقه ولم يَعُد في وُسْعنا، فالحقّ سبحانه وتعالى هو الّذي يعلم الوُسْع ويُكلّف على قَدْره، فإنْ كان قد كلّف جل جلاله فقد علم الوُسْع، بدليل أنّه سبحانه وتعالى إذا وجد مشقّةً خفَّف عنكم من تلقاء نفسه جل جلاله، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [الأنفال: من الآية 66]، ففي بداية الإسلام حيث شجاعة المسلمين وقوّتهم، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: من الآية 65]؛ أي: نسبة واحد إلى عشرة، وحينما علم الحقّ سبحانه وتعالى فيهم ضَعْفاً، قال: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: من الآية 66]؛ أي: نسبة واحد إلى اثنين، فالله سبحانه وتعالى هو الّذي يعلم حقيقة وُسْعنا، ويُكلِّفنا بما نُطيق، ويُخفِّف عَنَّا عند الحاجة إلى التّخفيف، فلا يصحّ أنْ نُقحِم أنفسنا في هذه القضيّة، ونُقدّر نحن الوُسْع بأهوائنا.
– ومن أمثلة النّسخ أنّ العرب كانوا قديماً لا يعطون الآباء شيئاً من المال على اعتبار أنّ الوالد مُنْتهٍ ذاهب، ويجعلون الحظّ كلّه للأبناء على اعتبار أنّهم المقبلون على الحياة، وحينما أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل نصيباً للوالدين جعلها وصيةً، فقال جل جلاله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ﴾ [البقرة: من الآية 180]، فلمّا استقرّ الإيمان في النّفوس جعلها ميراثاً ثابتاً، وغَيَّر الحكم من الوصية إلى خيرٍ منها وهو الميراث، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ [النّساء: من الآية 11]، فالحقّ سبحانه وتعالى حينما يُغيّر آيةً ينسخها بأفضل منها، وهذا واضحٌ في تحريم الخمر مثلاً، حيث نرى هذا التّدريج المحكم الّذي يراعي طبيعة النّفوس البشريّة، وأنّ هذا الأمر من العادات الّتي تمكَّنَتْ من النّفوس في شبه الجزيرة العربيّة، ولا بُدَّ لها من هذا التّدرُّج، فهذا ليس أمراً عَقَديّاً يحتاج إلى حُكْمٍ قاطعٍ لا جدال فيه، فانظر إلى هذا التّدرّج في تحريم الخمر: قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ [النّحل: من الآية 67]، أهل التّذوّق والفهم عن الله سبحانه وتعالى حينما سمعوا هذه الآية قالوا: لقد بيَّن الله سبحانه وتعالى أمراً يتعلّق بالخمر في هذه الآية لا بدّ أنّه آتٍ؛ ذلك لأنّه وصف الرّزق بأنّه حَسَن، وسكت عن السَّكَر فلم يصفه بالحُسْن، فدلَّ ذلك على أنّ الخمر سيأتي فيه كلامٌ فيما بعد، وحينما سُئِل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخمر رَدَّ القرآن الكريم عليهم: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: من الآية 219]، جاء هذا على سبيل النّصح والإرشاد، لا على سبيل الحكم والتّشريع، فعلى كلّ مؤمنٍ يثق بكلام ربّه عز وجل أن يرى له مَخْرجاً من أَسرْ هذه العادة السّيّئة، ثمّ لُوحِظ أنّ بعض النّاس يُصلّي وهو مخمورٌ، حتّى قال بعضهم في صلاته: (أعبد ما تعبدون)، فجاء الحكم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النّساء: من الآية 43]، ومُقتضى هذا الحكم أنْ يصرفهم عن الخمر معظم الوقت، فلا تتأتّى لهم الصّلاة دون سُكْرٍ إلّا إذا امتنعوا عنها قبل الصّلاة بوقتٍ كافٍ، وهكذا عوَّدهم على تركها معظم الوقت، كما يحدث الآن مع الطّبيب الّذي يعالج مريضه من التّدخين مثلاً، فينصحه بتقليل الكمّيّة تدريجيّاً حتّى يتمكَّن من التّغلّب على هذه العادة، وبذلك وصل الشّارع الحكيم سبحانه وتعالى بالنّفوس إلى مرحلة ألفَتْ فيها تَرْك الخمر، وبدأت تنصرف عنها، وأصبحت النّفوس مُهيّئةً لتقبُّل التّحريم المطلق، فقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: من الآية 90]، فالحقّ سبحانه وتعالى نسخ آيةً وحُكْماً وهو قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، بما هو أحسن منه، والعجيب أنْ نرى من بعض النّاس مَنْ يتعصّب للقرآن الكريم، فلا يقبل القول بالنّسخ فيه، كيف والقرآن الكريم نفسه يقول: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: من الآية 106]؟! قالوا: لأنّ هناك شيئاً يُسمَّى البداء، ففي النّسخ كأنّ الله سبحانه وتعالى أعطى حُكْماً ثمّ تبيّن له خطؤه، فعدل عنه إلى حُكْمٍ آخر، حاشا لله سبحانه وتعالى، ونقول لهؤلاء: لقد جَانَبَكم الصّواب في هذا القول، فمعنى النّسخ إعلان انتهاء الحكم السّابق بحكمٍ جديد أفضل منه، وبهذا المعنى يقع النّسخ في القرآن الكريم، ومنهم مَنْ يقف عند قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: من الآية 106]، فيقول: ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا﴾ فيها عِلَّة للتّبديل، وضرورة تقتضي النّسخ وهي الخيريّة، فما عِلَّة التّبديل في قوله: ﴿أَوْ مِثْلِهَا﴾؟
أوّلاً: في قوله سبحانه وتعالى: ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا﴾، قد يقول قائلٌ: ولماذا لم يَأْتِ بالخيريّة من البداية؟ نقول: لأنّ الله سبحانه وتعالى حينما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: من الآية 102]، وهذه منزلةٌ عاليةٌ في التّقوى، لا يقوم بها إلّا الخواصّ من عباد الله عز وجل، شَقَّتْ هذه الآية على الصّحابة، وقالوا: ومَنْ يستطيع ذلك يا رسول الله؟ فنزلت: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التّغابن: من الآية 16]، وجعل الله سبحانه وتعالى التّقوى على قدر الاستطاعة، وهكذا نُسخت الآية الأولى مطلوباً، ولكنّها بقيت ارتقاءً، فَمنْ أراد أنْ يرتقي بتقواه إلى: ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾فبها ونِعْمت، ومَنْ لم يستطع أَخَذَ بالثّانية، ولو نظرنا إلى هاتين الآيتين نظرةً أخرى لوجدنا الأولى: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾[آل عمران: من الآية 102]، وإنْ كانت تدعو إلى كثيرٍ من التّقوى إلّا أنّ العاملين بها قِلَّة، في حين أنّ الثّانية: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التّغابن: من الآية 16]، وإنْ جعلتَ التّقوى على قَدْر الاستطاعة إلّا أنّ العاملين بها كثيرٌ، ومن هنا كانت الثّانية خَيْراً من الأولى، كما نقول: قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ منقطعٍ.
ثانياً: أمّا في قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَوْ مِثْلِهَا﴾؛ أي: أنّ الأولى مِثْل الثّانية، فما وَجْه التّغيير هنا، وما سبب التَّبديل؟ نقول: سببه هنا اختبار المكلَّف في مدى طاعته وانصياعه، إنْ نُقِل من أمر إلى مثله، حيث لا مشقَّة في هذا، ولا تيسيرَ في ذاك، هل سيمتثل ويُطيع، أم سيُجَادل ويناقش؟ مثل هذه القضيّة واضحة في حادث تحويل القبلة، حيث لا مشقّة على النّاس في الاتّجاه نحو بيت المقدس، ولا تيسير عليهم في الاتّجاه نحو الكعبة، الأمر اختبار للطّاعة والانصياع لأمر الله عز وجل، فكان من النّاس مَنْ قال: سمعاً وطاعة ونفّذوا أمر الله سبحانه وتعالى فوراً دون جدال، وكان منهم مَن اعترض وأنكر واتّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب على الله جلَّ وعَلا، ومن ذلك أيضاً ما نراه في مناسك الحجّ ممّا سنَّه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث نُقبّل الحجر الأسعد وهو حجرٌ، ونرمي الجمرات وهي أيضاً حجر، فهذه أمورٌ لا مجال للعقل فيها، بل هي لاختبار الطّاعة والانقياد للمشرّع تبارك وتعالى.
﴿بَلْ﴾: حرفٌ يُفيد الإضراب عن الكلام السّابق وتقرير كلام جديد، فالحقّ سبحانه وتعالى يُلغي كلامهم السّابق: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾، ويقول لهم: لا، ليس بمفترٍ ولا كذّابٍ، فهذا اتّهامٌ باطلٌ، بل أكثرهم لا يعلمون.
﴿أَكْثَرُهُمْ﴾: هنا ليس بالضّرورة أنْ تقابل بالأقلّ، فيمكن أن نقول: ﴿أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وأيضاً: أكثرهم يعلمون، كما جاء في قول الحقّ سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحجّ: من الآية18]، هكذا بالإجماع، تسجد لله سبحانه وتعالى جميع المخلوقات إلّا الإنسان، فمنه كثيرٌ يسجد، يقابله أيضاً كثيرٌ حَقَّ عليه العذاب، فلم يقُلْ القرآن الكريم: (وقليلٌ حَقَّ عليه العذاب)، وعلى فَرض أنّ: ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾، فهناك أقلّيّة تعلم صِدْق رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن ربّه، وتعلم كذبهم وافتراءهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما اتّهموه بالكذب، ويعلمون صِدْق كلّ آيةٍ في مكانها، وحكمة الله سبحانه وتعالى المرادة من هذه الآية، فَمنْ هم هؤلاء الّذين يعلمون في صفوف الكفّار والمشركين؟ قالوا: لقد كان بين هؤلاء قَوْمٌ أصحاب عقولٍ راجحةٍ، وفَهْمٍ للأمور، ويعلمون وجه الحقّ والصّواب في هذه المسألة، ولكنّهم أنكروها، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النّمل: من الآية 14]، وأيضاً من هؤلاء أصحاب عقولٍ يفكّرون في الهدى، ويُراودهم الإسلام، وكأنّ لديهم مشروعَ إسلامٍ يُعِدّون أنفسهم له، وهم على علمٍ أنّ كلام الكفّار واتّهامهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم باطلٌ وافتراءٌ، وأيضاً منهم مؤمنون فعلاً، ولكن تنقصهم القوّة الذّاتيّة الّتي تدفع عنهم، والعصبيّة الّتي تردّ عنهم كَيْد الكفّار، وليس عندهم أيضاً طاقةٌ أنْ يهاجروا، فهم ما يزالون بين أهل مكّة، إلّا أنّهم مؤمنون ويعلمون صِدْق رسول الله صلى الله عليه وسلم وافتراء الكفّار عليه، لكن لا قدرة لهم على إعلان إيمانهم، وفي هؤلاء يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الفتح: 24 – من الآية 25]؛ أي: تدخلوا على أهل مكّة وقد اختلط الحابل بالنّابل، والمؤمن بالكافر، فتقتلوا المؤمنين دون علمٍ: ﴿لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفتح: من الآية 25]؛ أي: لو كانوا مُميَّزين، الكفّار في جانب، والمؤمنون في جانبٍ آخر، لَعذَّبْنا الّذين كفروا منهم عذاباً أليماً.
فإن كان أكثرهم لا يعلمون ويتّهمونك بالكذب والافتراء، فإنَّ غير الأكثريّة يعلم أنّهم كاذبون في قولهم: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾، وما داموا اتّهموك بالافتراء فقُلْ ردّاً عليهم: