الآية رقم (2) - يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ

﴿يُنَزِّلُ﴾: فالكلمة تُوحِي وتُوضِّح أنّ هناك عُلوّاً يمكن أن ينزِلَ منه شيءٌ إلى أسفل، ونضرب مثلاً قَوْل الله سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: من الآية 151]؛ أي: أقبلوا لتسمعوا مِنِّي التّكليفَ الّذي نزل لكم مِمَّنْ هو أعلى منكم، ولا تظلُّوا في حضيض الأرض، بل تَساموا وخُذوا الأمر مِمَّنْ لا هَوى لَه في أموركم، وهو الحقّ الأعلى جل جلاله، أما مَنْ ينزلون فَهُم الملائكة، ونعلم أنّ الملائكة خَلْقٌ غيبيٌّ آمنَّا به؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى قد أخبرنا بوجودهم، وكُلّ ما غاب عن الذِّهْن دليله السّماع مِمَّنْ نثق بصدقه، وقد أبلغنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما نزلَ به القرآن الكريم وأنبأنا بوجود الملائكة، وأنّ الحقّ سبحانه وتعالى قد خلقهم، ومع أنّنا لا نراهم إلّا أنّنا نُصدِّق ما جاء به البلاغ عن الله سبحانه وتعالى من الصّادق الصَّدُوق نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم، وحين يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ ﴾، فنحن نعلم أنّه لا يمكن أنْ ينزلَ شيءٌ من أعلى إلى الأدْنى إلّا بواسطة الـمُقرّبات، وقد اختار الله سبحانه وتعالى مَلَكَاً من الملائكة لِيُبلّغ رُسُلَه -عليهم السّلام- بالوحي من الله جل جلاله، والملائكة كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى: ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: من الآية 26 – الآية 27]، ويقول في آيةٍ أخرى: ﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التّحريم: من الآية 6]، وهم خُلِقوا من نور، ولا تصيبهم الأغيار، ولا شهوةَ لهم فلا يتناكحون ولا يتناسلون، وهم أقربُ إلى الصَّفَاء، وهم مَنْ يُمكِنهم التّلقِّي من الأعلى ويبلّغون الأَدْنى، ولذلك نجد الله سبحانه وتعالى يقول عن القرآن الكريم: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ [الشّعراء]، وهنا يقول سبحانه وتعالى: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ ﴾، والآية الإجماليّة الّتي تشرح ذلك هي قَوْلُ الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [الحجّ]؛ أي: أنّه سبحانه وتعالى يختار ملائكةً قادرين على التّلقّي منه لِيُعْطوا المصطفَين من النّاس؛ لِيُبلِّغ هؤلاء الـمُصْطفَين عن الله سبحانه وتعالى بقيّة النّاس، ذلك أنّه لا يملك الكائن الأَدْنى طاقة من العُلْويّات العالية أن يتحمَّل ما تتنزَّل به الأمور العُلْويّة مباشرةً من الحقّ سبحانه وتعالى.

﴿بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ﴾: وكلمة الرّوح وردتْ في القرآن الكريم بمعَانٍ متعدّدة، فهي مرَّة الرّوح الّتي بها الحياة في المادّة ليحدث بها الحسّ والحركة: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾[الحجر]، وهذا النّفْخ في المادّة يحدثُ للمؤمن والكافر، وهناك رُوحٌ أُخْرى تُعطي حياةً أعلى من الحياة الموقوتة: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾  [العنكبوت: من الآية 64]، فالملائكة تنزل بالبلاغ عن الله سبحانه وتعالى بما فيه حياة أَرْقى من الحياة الّتي نعيش بها على الأرض، وهكذا تكون هناك رُوحان لا روحٌ واحدة؛ رُوحٌ للحِسِّ والحركة، وروحٌ تُعطي القِيم الّتي تقودنا إلى حياةٍ أخرى أَرْقى من الحياة الّتي نحياها، حياةٌ لا فناءَ فيها، ولذلك يُسمّي الحقّ سبحانه وتعالى القرآنَ الكريم روحاً، فيقول: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ﴾ [الشّورى: من الآية 52]، ويُسمّي الله سبحانه وتعالى الملَكَ الّذي ينزل بالقرآن الكريم روحاً، فيقول: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [الشّعراء]، ويشرح الله سبحانه وتعالى أنّ القرآن الكريم روحٌ تعطينا حياةً أَرْقى، فيقول جل جلاله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾  [الأنفال: من الآية 24]؛ أي: يدخل بكم إلى الحياة الأبديّة الّتي لا موْتَ فيها ولا خَوْف أن تفقد النّعمة أو تذهب عنك النّعمةُ، وهنا يُبلِّغنا الله سبحانه وتعالى أنّ القرآن الكريم ينزل مع الملائكة: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ﴾؛ أي: تنزيلاً صادراً بأمره سبحانه وتعالى، ويقول الله سبحانه وتعالى في موقعٍ آخر: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرّعد: من الآية 11]، والسَّطْحيّون لا يلتفتون إلى أنَّ معنى: ﴿مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾[الرّعد: من الآية 11] هنا تعني أنّهم يحفظُونه بأمرٍ من الله عز وجل، والأمر هنا في الآية الّتي نحن بصدد تفسيرها هو ما جاء في الآية الأولى منها: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النّحل: من الآية 1]، وهذا الأمر هو نتيجة لِمَا يشاؤه الله سبحانه وتعالى من حياةٍ للنّاس على الأرض، ونعلم أنّ الله سبحانه وتعالى له أوامر مُتعدِّدة: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النّحل]، فإذا شاء أمراً جزئيّاً فهو يقول له: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾، وإذا أراد منهجاً فهو يُنزّله، وإذا أراد حساباً وعقاباً وساعةً فهو القائل: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾، وهكذا نفهم أنّ معنى: ﴿أَمْرُ اللَّهِ﴾ هو: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾؛ أي: إخراج المعدوم إلى حَيِّز الوجود، سواء أكان معدوماً جزئيّاً، أم معدوماً كلّيّاً، أم معدوماً أزليّاً، وكُلّ ذلك اسمه أمرٌ، ولحظةَ أنْ يأمرَ الله سبحانه وتعالى فنحن نَثِقُ أنّ مأمور الله عز وجل يبرز، ولذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾ [الانشقاق]؛ أي: أنّها لم تسمع الأمر فقط، بل نفّذتْه فَوْر صدوره، دون أَدْنى ذرّة من تخلُّف، فأمْر الله عز وجل يُنفَّذ فَوْر صدوره من الحقّ سبحانه وتعالى، أمّا أَمْر البشر فهو عُرْضَةً أنْ يُطَاع أو يُعصَى.

﴿أَنْ أَنْذِرُوا﴾: وسبحانه يُنزِّل الملائكة بالرُّوح على مَنْ يشاء لِيُنذِروا، ولم يَأْتِ الحقّ سبحانه وتعالى بالبشارة هنا؛ لأنّ الحديث مُوجّهٌ إلى الكفّار في قوله: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾[النّحل: من الآية 1]، ونزَّه ذاته قائلاً: ﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾  [النّحل: من الآية 1]، أو أنّ الله سبحانه وتعالى يُنبّه رسوله، إذا دخلتَ عليهم ففسِّر لهم مُبْهَم ما لا يعرفون، وهم لا يعرفون كيفيّة الاصطفاء والاجتباء والاختيار، وهو الحقّ الأعلم بمَنْ يصطفي، ومشيئته الاصطفاء إنّما تتِمّ بمواصفات الحقّ سبحانه وتعالى، فهو القائل: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾[الأنعام: من الآية 124].

﴿عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾: وعُلِم أنّ الكافرين قد قالوا: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزّخرف: من الآية 31]، وقال الله سبحانه وتعالى في رَدِّه عليهم: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ [الزّخرف: من الآية 32]، فهي ليست أماني واختيارات للبشر.

أو: أنّ الحقّ سبحانه وتعالى يوضِّح لرسوله صلى الله عليه وسلم: بعد أنْ شرحتَ لهؤلاء أمر الوحي، فعليك أنْ تُبلِّغهم كلمة الله جل جلاله:

﴿أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾: وما دام لا يوجد إلهٌ آخر فعلى الرّسول أن يُسْدِي لهم النّصيحة؛ بأن يَقصروا على أنفسهم حَيْرة البحث عن إلهٍ، ويُوضِّح لهم أنّه لا إله إلّا هو، وعليهم أنْ يتّقوه؛ أي: أن يجعلوا بينهم وبين عذابه وقايةً، وفي هذا حنانٌ من الحقّ جل جلاله على الخَلْق.

وقَوْل الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ هو جماعُ عقائدِ السّماء للأرض، وجماعُ العباداتِ الّتي طلبها الله سبحانه وتعالى من خَلْقه لِيُنظِّم لهم حركة الحياة مُتساندةً لا مُتعاندةً، فكأنّ قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ تفسيرٌ لِمَا أنزله الله عز وجل على الملائكة من الرُّوح الّتي قُلْنا من قبل: إنّها الرّوح الثّانية الّتي يَجِيء بها الوَحْي، وتحمِلُ منهجَ الله سبحانه وتعالى ليضمن لِلْمُعتَنِق حياةً لا يزول نَعيمها أبداً وهي الجنّة، وهي غَيْر الرّوح الأولى الّتي إذا نفخها الحقّ جل جلاله في الإنسان، فالحياة تدبُّ فيه حركةً وحِسّاً، وكأنّ الله سبحانه وتعالى من رحمته بخَلْقه أن أنزلَ لهم المنهج الّذي يهديهم الحياة الباقية بدلاً من أنْ يظلُّوا أَسْرى الحياة الفانية وحدها، ومن رحمته أيضاً أن حذّرهم من المصير السّيّئ الّذي ينتظر مَنْ يكفر به، ومثل هذا التّحذير لا يصدر إلّا مِنْ مُحبٍّ، فسبحانه يُحِبّ خَلْقه، ويُحِبّ أنْ يكونوا مُخلِصين له مؤمنين، وأنْ ينعموا في آخرة لا أسبابَ فيها؛ لأنّهم سيعيشون فيها بكلمة: ﴿ كُنْ ﴾ من الـمُسبّب، فإذا قال لهم: ﴿ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾  فهو يُوضِّح أنّه لا إله غيره، فلا تشركوا بي شيئاً، ولا تكذّبوا الرّسل، وعليكم تطبيق المنهج الّذي يُنظِّم حياتكم وسيُجازى عليه الإنسان في الآخرة، وإيّاكم أنْ تغترُّوا بأنِّي خلقتُ الأسباب مُسخّرةً لكم، فأنا أستطيع أن أقبض هذه الأسباب، وقد أردتُ الحياة بلاءً واختباراً، وفي الآخرة لا سُلْطان للأسباب أبداً: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: من الآية 16].

﴿فَاتَّقُونِ﴾: التّقوى كما قلنا: أن تجعل بينك وبين عذاب الله عز وجل وبين صفات جلال الله جل جلاله شديد العقاب حاجزاً.

«يُنَزِّلُ» مضارع مرفوع فاعله مستتر والجملة مستأنفة

«الْمَلائِكَةَ» مفعول به

«بِالرُّوحِ» متعلقان بينزل

«مِنْ أَمْرِهِ» متعلقان بمحذوف حال والهاء مضاف إليه

«عَلى مَنْ» من اسم موصول متعلقان بينزل

«يَشاءُ» مضارع فاعله مستتر والجملة صلة

«مِنْ عِبادِهِ» متعلقان بمحذوف حال والهاء مضاف إليه

«أَنْ» المخففة واسمها ضمير الشأن محذوف وأن وما بعدها في تأويل المصدر بدل من الروح

«أَنْذِرُوا» أمر وفاعله والجملة خبر

«أَنَّهُ» أن واسمها والمصدر المؤول في محل نصب مفعول به

«لا» نافية للجنس تعمل عمل إن

«إِلهَ» اسمها المبني على الفتح والخبر محذوف والجملة خبر أنه

«إِلَّا» أداة حصر

«أَنَا» بدل من الضمير في الخبر المحذوف

«فَاتَّقُونِ» الفاء الفصيحة وأمر مبني على حذف النون والنون للوقاية وحذفت ياء المتكلم للتخفيف وهي مفعول به

{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي: بالوحي