﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾: هنا دليل على القول باللّسان، وعدم الصّبر على الابتلاء، فالقول هنا لا يؤيّده العمل، ولمثل هؤلاء يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصّفّ]، ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: من الآية 14]، ويقول تعالى في صفات المنافقين: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾[المنافقون]، فالله تعالى لا يُكذّبهم في أنّ محمّداً رسول الله، إنّما في شهادتهم أنّه رسول الله؛ لأنّ الشّهادة لا بُدَّ لها أنْ يواطئ القلب اللّسان، وهذه لا تتوفّر لدى المنافق.
﴿فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ﴾: أي: بسبب الإيمان بالله، فلم يفعل شيئاً يؤذى من أجله، إلّا أنّه آمن.
﴿جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾: فتنة النّاس؛ أي: تعذيبهم له على إيمانه كعذاب الله تعالى، فخاف عذاب النّاس وسوَّاه بعذاب الله عزَّ وجل الّذي يحيق به إنْ كفر، وهذا غباء في المساواة بين العذابين؛ لأنّ عذابَ النّاس سينتهي ولو بموت المؤذي المعذِّب، أمّا عذاب الله تعالى في الآخرة فباقٍ لا ينتهي، والنّاس تُعذّب بمقدار طاقتها، والله تعالى يُعذّب بمقدار طاقته تعالى وقدرته، فالقياس هنا قياس خاطئ، وإنْ كانت هذه الآية قد نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة، فالقاعدة الأصوليّة تقول: إنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب، وكان عيّاش بن أبي ربيعة أخا عمرو بن هشام أبو جهل والحارث بن هشام من الأمّ الّتي هي أسماء، فلمّا أنْ أسلم عيّاش ثمّ هاجر إلى المدينة حزنت أمّه أسماء، وقالت: لا يظلّني سقف، ولا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً، ولا أغتسل حتّى يعود عيّاش إلى دين آبائه، وظلّت على هذه الحال الّتي وصفتْ ثلاثة أيّام حتى عضَّها الجوع، فرجعت، وكان ولداها الحارث وأبو جهل قد انطلقا إلى المدينة ليُقنِعا عيّاشاً بالعودة لاسترضاء أمّه، وظلّا يُغريانه ويُرقّقان قلبه عليها، فوافق عيّاش على الذّهاب إلى أمّه، لكنّه رفض الرّدّة عن الإسلام، فلمّا خرج الثّلاثة من المدينة قاصدين مكّة أوثقوه في الطّريق، وضربه أبو جهل مئة جلدة، والحارث مئة جلدة، لكنّ أبا جهل كان أرأف به من الحارث، لذلك أقسم عيّاش بالله لئن أدركه يوماً ليقتلنّه حتّى إنْ كان خارجاً من الحرم، وبعد أن استرضى عيّاش أمّه عاد إلى المدينة، فقابل أخاه الحارث عند قباء، ولم يكن يعلم أنّه قد أسلم فعاجله، ونفّذ ما توعّده به فقتله، ووصل خبره إلى رسول الله ﷺ ونزلت الآية: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾[النّساء: من الآية 92]، ونزلت: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾؛ أي: أراد أنْ يفرّ من عذاب النّاس.
﴿وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾: أي: اجعلوا لنا سهماً في المغنم.
﴿أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾: فالله تعالى يعلم ما يدور في صدورهم وما يتمنّونه لنا، ولذلك يقول تعالى عنهم: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾[التّوبة: من الآية 47].