الله تعالى لا يريد العنت بمن آمن به، ولا يكلّفهم ما لا يطيقون، فلا يطلب من عباده قضاء ليلهم كلّه في عبادته والرّكوع والسّجود له عز وجل، بل يقول تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ﴾، وفي آيةٍ أخرى يقول: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ﴾ [الإسراء: من الآية 79]، حتّى عندما خاطب رسول الله ﷺ قال: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزّمّل]، فقم من اللّيل جزءاً منه، لذلك قال تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ﴾ فمن للبعضيّة؛ أي: بعض اللّيل، ﴿فَاسْجُدْ لَهُ﴾: والسّجود علامة الخضوع وعلامة العبوديّة لله تعالى؛ لأنّك تضع أشرف شيءٍ فيك، وهو وجهك، على الأرض خضوعاً وخشوعاً له، والسّجود لله تعالى تشريفٌ للمؤمن السّاجد لله عز وجل ورفعٌ لمقامه، فهو لا يسجد لموازٍ له، أو لمخلوق مثله، بل يسجد لمن خلقه، يسجد للعظيم الّذي لا أعظم منه.
﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا﴾: والتّسبيح هو التّنزيه عمّا لا يليق بذات المنزَّه، فاجعل نفسك مسبِّحاً لذاته العليّة دائماً، والتّسبيح فعلٌ مستمرٌّ لا ينقطع ولا ينقضي.
ونجد في هذه الآية أمراً عجيباً، ففي بداية الآية قال: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ﴾؛ أي: اسجد وصلّ له تعالى جزءاً من اللّيل لا كلّه، إنّما عند التّسبيح قال: ﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا﴾، فتسبيحك لله تعالى لا ينقطع ولا يجب أن ينقطع، والكون كلّه مسبِّحٌ لله عز وجل، فلا تتأخّر أيّها الإنسان عن ركب المسبِّحين، والسّورة الّتي معنا سورة الإنسان ترسم للإنسان طريق فلاحه ونجاحه في الآخرة، والحقّ تعالى يقول في آيةٍ أخرى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ﴾ [الطّور: من الآية 48- الآية 49]، هنا أيضاً تسبيحٌ مستمرٌّ، حين تقوم؛ أي: حين تقوم اللّيل صلاةً وتسبيحاً وتحميداً وتكبيراً لله عز وجل، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَفْتَتِحُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قِيَامَ اللَّيْلِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ، كَانَ إِذَا قَامَ كَبَّرَ عَشْراً، وَحَمِدَ اللَّهَ عَشْراً، وَسَبَّحَ عَشْراً، وَهَلَّلَ عَشْراً، وَاسْتَغْفَرَ عَشْراً، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي وَعَافِنِي»، وَيَتَعَوَّذُ مِنْ ضِيقِ الْمَقَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ([1])، ثمّ إنّ قوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾[الطّور]، تسبيحٌ دائم مستمرّ، يلهج به اللّسان حتّى تدبر النّجوم ويذهب اللّيل وتظهر تباشير الفجر فيصلّي الفجر، ثمّ تسبيحٌ إلى أن تشرق الشّمس.
([1]) سنن أبي داود: أَبْوَابُ تَفْرِيعِ اسْتِفْتَاحِ الصَّلَاةِ، بَابُ مَا يُسْتَفْتَحُ بِهِ الصَّلَاةُ مِنَ الدُّعَاءِ، الحديث رقم (766).