الآية رقم (179) - وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ

﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا﴾: ذرأ؛ أي بثّ ونشر.

﴿لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾: ما دام الله سبحانه وتعالى بثّ ونشر كثيراً من الإنس والجنّ لجهنّم فلماذا يُحاسبهم؟ وهل خلقهم سبحانه وتعالى  ليذرأهم لجهنّم كما هو ظاهر الآية؟ هنا يجب أن نبيّن أنّ العلم في اللّغة العربيّة وبأوجه الإعراب فيها وبعلم تفسير كتاب الله سبحانه وتعالى  يغيب عن أذهان الجاحدين والجاهلين، فالدّين الإسلاميّ هو دين العقل والعلم والعمل، والإسلام لا يقبل شيئاً إلّا إذا محَّصه العقل، وكان أداةً من أدوات التّفكير، وقد بيّن الله سبحانه وتعالى  هذا في كتابه الكريم فقال: ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النّحل: من الآية 44]، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ﴾ [النّساء: من الآية 82]، التّدبّر تقليب الأمور وفق العقل، فإذاً لا يزايدنّ أحدٌ بموضوع العقل على الإسلام ولا على القرآن الكريم ولا على سنّة النّبيّ محمّد :، فهذا هو عين الجهل، وإنّما العقل في الحقيقة إعمال الفكر بالبدائل والبراهين والإثباتات، فعندما نقول مثلاً هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ نحن نعلم أنّ الكون فيه أشياءٌ عابدةٌ بطبيعتها، خلقها الله سبحانه وتعالى  طائعةً: ﴿ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصِّلت]، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحجّ: من الآية 18]، فعندما ذكر النّاس قال: كثيرٌ من النّاس يؤمن وكثيرٌ أيضاً يكفر ويشرك بالله جلّ جلاله؛ لأنّ هذا الإنسان أُعطي أمانة الاختيار، وعندما يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ نعلم أنّ هذه اللّام لام الصّيرورة، لام العاقبة، وليست لام التّعليل؛ أي أنّ الله سبحانه وتعالى  لم يخلق البشر من أجل جهنّم، إنّما خلقهم من أجل العبادة بدليل قوله سبحانه وتعالى : ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذّاريات]، هذه لام التّعليل، والعبادة ليست هي الصّلاة والصّيام والحجّ والزكاة فقط، بل هي كلّ فعل خيرٍ يعود على الغير بالخير، الفلّاح في حقله إذا كان يعمل بتقوى الله فهو في عبادة، والعامل في مصنعه إذا عمل واستغلّ وقته فهو في عبادة، والموظّف في وظيفته في عبادة، كلّ إنسانٍ يقوم بعملٍ يؤدّي إلى الخير فهو في عبادة، فلا يقولنّ قائلٌ: لماذا يُحاسب الله سبحانه وتعالى  النّاس ما دام أنّه ذرأ؛ أي بثّ ونشر كثيراً من الجنّ والإنس من أجل جهنّم؟ الجواب: أنّ هذا من أجل العبادة، فإن أنت عصيت فإنّك تدخل جهنّم، فإذاً هذه لام المآل لام الصّيرورة، كالآية عندما ألقت أمّ موسى موسى في اليمّ فيقول سبحانه وتعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: من الآية 8]، اللّام هنا ليست لام تعليلٍ، هل التقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً؟ كانوا تركوه ليغرق، التقطه آل فرعون ليكون فرحاً وحبّاً وليس ليكون عدوّاً، لكن اللّام هنا لام الصّيرورة؛ أي أنّ مآل هذا الأمر أنّه صار عدوّاً لفرعون.

وَلَقَدْ: اللام واقعة في جواب القسم، قد حرف تحقيق، والواو للاستئناف.

ذَرَأْنا: فعل ماض وفاعل.

لِجَهَنَّمَ: متعلقان بالفعل.

كَثِيراً: مفعول به.

مِنَ الْجِنِّ: متعلقان بمحذوف صفة لكثيرا.

وَالْإِنْسِ: عطف

لَهُمْ: متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ

قُلُوبٌ: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب صفة لكثيرا.

لا يَفْقَهُونَ: مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل ولا نافية لا عمل لها.

بِها: متعلقان بالفعل، والجملة في محل رفع صفة قلوب.

وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها: إعرابهما كإعراب الآية السابقة.

أُولئِكَ: مبتدأ

كَالْأَنْعامِ: متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ أولئك والجملة الاسمية مستأنفة.

بَلْ: حرف إضراب

هُمْ أَضَلُّ: مبتدأ وخبر. والجملة معطوفة.

أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ: إعرابها كإعراب (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) .

وَلَقَدْ ذَرَأْنا: خلقنا وأوجدنا الْجِنِّ مخلوقات خفية لا تدرك بالحواس

لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ: بِها أي لا يفهمون بها الحق، والقلب هنا هو الذي يسمونه أحيانا (الضمير) ويراد به هنا العقل أو الوجدان أي محل الحكم على الأشياء المدركة، وسبب هذا الاستعمال أن آثار الأحداث من خوف أو سرور تنعكس عليه، فيحدث الانقباض أو الانشراح. وكثيرا ما يستعمل في القرآن بمعنى دقة الفهم والتعمق في العلم.

وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها: دلائل قدرة الله، بصر عظة واعتبار

وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ: بِها الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ

أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ: في عدم الفهم والبصر والاعتبار

بَلْ هُمْ أَضَلُّ: من الأنعام لأنها تحرص على ما ينفعها، وتهرب مما يضرها، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة

الْغافِلُونَ: الكاملون في الغفلة