الآية رقم (188) - وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ

(وَلَا تَأْكُلُوا): الأكل لا يُطلَق على ما يدخل المعدة من طعام فقط، المال هل يؤكل؟ (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) هنا يتحدّث عن المجتمع المسلم، لكن ما علاقة النّهي عن أكل الأموال بالباطل بالصّيام؟

الصّيام ليس للجوع والعطش، وإنّما للتّقوى والقرب من الله سبحانه وتعالى، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، لكن ما هي شروط إجابة الدّعاء؟ وقد ذكر النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: الرّجل يطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السّماء يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذّي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك؟([1]). الّذي غُذّي من حرام ويأكل المال بالباطل فلا يمكن أن يُستجاب له، ولا يكون من المتّقين، وصيامه امتناع عن الطّعام والشّراب فقط.

(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ): من أكل بباطل جاع بحقّ، من يأكل أموال النّاس فإنّه سيجوع، ومثاله: رجل يملك دنيا عريضة ولا يستطيع أن يأكل طعاماً يأكله أكثر النّاس فقراً في هذه الدّنيا، فكلّ هذا المال الّذي جمعه من حرام يكون بالنّسبة له لا قيمة له. من يأكل حقّ غيره من الميراث، أو يأكل حقّ أخواته البنات، أو جمع مالاً من حرام وورّثه لأولاده ماذا يكون حالهم من هذا الميراث؟ الجواب: من أكل بباطل جاع بحقّ.

(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ): أكل مال النّاس بالباطل يكون بدفع الرّشوة، والرّشوة تُدفع لمن يحكم في أيّ قضيّة من القضايا، ليس فقط قضاة المحاكم، بل كلّ من يكون له حكم في قضيّة ما، مثال: أتيت إلى كوّة مصرف لتقبض مالاً وكان هناك مَن يقف بالدّور، فدفعت رشوة وأخذت دور غيرك، فأنت أكلت مالاً بباطل؛ لأنّك أخذت زمن غيرك، لا تستطيع أن تعمل هذا الشّيء إلّا بدفع رشوة، فأكل المال بالباطل يحتاج إلى رشوة.

(وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ): أين ذكر الرّشوة في هذه الآية؟

(وَتُدْلُوا): من الدّلو، والحبل الّذي يعلّق به الدّلو اسمه الرِّشاء، من هنا جاءت كلمة الرّشوة، لذلك جاءت الجملة (وَتُدْلُوا بِهَا) أي الرّشوة.

(بِالْإِثْمِ): الإثم هو الذّنب.

(وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ): لا يمكن أن تأكل حقّ غيرك، إلّا وأنت تعلم أنّك تأكل حقّ غيرك، فكلّ فساد بالمجتمع السّبب الأساس فيه هو أكل المال بالباطل، الفساد هو تغير موازين العدل في المجتمع، فعندما يكون هناك سرقة واختلاس وغصب ورشوة فهذا فساد وسببه أنّ الإنسان يريد أن يأكل حقّ غيره.

حتّى الزّنى هو اعتداء على حقّ الغير، أتى فتى من قريش النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزّنا، فأقبل القوم عليه وزجروه فقالوا: مه مه، فقال: ادنه، فدنا منه قريباً فقال: أتحبّه لأمّك؟، قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: ولا النّاس يحبّونه لأمّهاتهم، قال: أفتحبّه لابنتك؟، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا النّاس يحبّونه لبناتهم، قال: أفتحبّه لأختك؟، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا النّاس يحبّونه لأخواتهم، قال: أتحبّه لعمّتك؟، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا النّاس يحبّونه لعمّاتهم، قال: أتحبّه لخالتك؟، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا النّاس يحبّونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه وقال: اللّهمّ اغفر ذنبه، وطهّر قلبه وحصّن فرجه، فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء([2])، فعالجها النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم على أنّها اعتداء على حقوق النّاس، وتعدّي على حقوق الغير.

وتسهيل الفساد هو فساد ويكون ذلك عن طريق الرّشاء أي الرّشوة، لذلك لعن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الرّاشي والمرتشي والرّائش، يعني الّذي يمشي بينهما([3])؛ لأنّ الرّشوة هي عمليّة تُحضَّر من أجل إفساد المجتمع بشكل كامل، ونحن نقول: إنّنا بحاجة إلى القيم الأخلاقيّة، فأيّ قيم أخلاقيّة يمكن أن تكون كالقيم الموجودة في هذه الآيات؟ تسدُّ كلّ منافذ الفساد.

وليس بعامرٍ بنيانُ قومٍ
وإذا أُصيب القومُ في أخلاقهم

إذا أخلاقُهم كانت خَرابا
فأقمْ عليهم مأتماً وعَويلا

وَلا: الواو للاستئناف لا ناهية جازمة.

تَأْكُلُوا: فعل مضارع مجزوم بحذف النون، والواو فاعل والجملة استئنافية.

أَمْوالَكُمْ: مفعول به.

بَيْنَكُمْ: ظرف متعلق بمحذوف حال من أموالكم.

بِالْباطِلِ: جار ومجرور متعلقان بتأكلوا.

وَتُدْلُوا: الواو عاطفة تدلوا عطف على تأكلوا، وقيل منصوب بأن المضمرة.

بِها: جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

إِلَى الْحُكَّامِ: جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

لِتَأْكُلُوا: اللام لام التعليل، تأكلوا فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد لام التعليل وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال

الخمسة والواو فاعل والمصدر المؤول في محل جر باللام والجار والمجرور في محل نصب مفعول لأجله.

فَرِيقاً: مفعول به.

مِنْ أَمْوالِ: متعلقان بفريقاً.

النَّاسِ: مضاف إليه.

بِالْإِثْمِ: جار ومجرور متعلقان بالفعل لتأكلوا.

وَأَنْتُمْ: الواو حالية، أنتم مبتدأ.

تَعْلَمُونَ: فعل مضارع والواو فاعل والجملة خبر المبتدأ. والجملة الاسمية حالية.

وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ: أي يأكل بعضكم مال بعض بغير وجه مشروع، والمراد بالأكل:الأخذ والاستيلاء

وعبر به، لأنَّ المقصود الأعظم من المال هو الأكل.

وأكل المال بالباطل له وجهان:

الأول- أخذه على وجه الظلم والسرقة والغصب ونحو ذلك.

والثاني- أخذه من جهة محظورة كالقمار، وأجرة الغناء، ونحو ذلك من سائر الوجوه التي حرمها الشرع.

وقد انتظمت الآية تحريم كل هذه الوجوه.

والباطل: في اللغة: الذاهب أو الزائل، والمراد به هنا الحرام شرعاً كالسرقة والغصب.

ويشمل كل ما أخذ دون مقابل، أو دون رضا من صاحبه، أو أنفق في غير وجه حقيقي نافع.

وَتُدْلُوا: تلقوا بالأموال

إلى الحكام: رشوة للوصول إلى الحكم القضائي لصالحكم.

فَرِيقاً: الفريق من الشيء: الجملة والطائفة منه.

بِالْإِثْمِ: أي متلبسين بالإثم، أي الظلم والتعدي: وهو شهادة الزور أو اليمين الكاذبة الفاجرة أو نحوها، وسمي ذلك إثما، لأنَّ الإثم

يتعلق بفاعله.

وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ: أنكم مبطلون آثمون، وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية.