الآية رقم (17) - وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا

فأيْن عاد وثمود وقوم لوط وقوم صالح؟ فالآية هنا قضيّة قوليّة، لها من الواقع ما يُصدِّقها.

وقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ نُوحٍ﴾ دَلَّ على أنّ هذا الأخذ وهذا العذاب لم يحدث فيما قبل نوح عليه السلام؛ لأنّ النّاس كانوا قريبي عَهْدٍ بخَلْق الله سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام، كما أنّه كان يلقّنهم معرفة الله سبحانه وتعالى وما يضمن لهم سلامة الحياة، أمّا بعد نوح عليه السلام فقد ظهر الفساد والكفر والجحود، فنزل بهم العذاب الّذي لم يسبق له مثيل، قال عز وجل: ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر]، ولنا وَقْفة سريعة هنا مع هذه الآيات من سورة الفجر، فقد خاطب الحقّ سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾، و ﴿أَلَمْ تَرَ﴾: بمعنى: ألم تعلم؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم ير ما فعله الله عز وجل بعاد، فلماذا عدل السّياق القرآنيّ عن: (تعلم) إلى: ﴿تَرَ﴾؟ قالوا: لأنّ إعلام الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أصدق من عينه ورؤيته، ومثلها قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾[الفيل]، حيث وُلِد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفيل، ولم يكن رأى شيئاً، فإخبار الله سبحانه وتعالى أصدق من العين.

وفي آيات سورة (الفجر) ما يدلُّنا على أنّ حضارة عاد الّتي لا نكاد نعرف عنها شيئاً كانت أعظمَ من حضارة الفراعنة الّتي لفتتْ أنظار العالم كلّه؛ ذلك لأنّ الحقّ سبحانه وتعالى قال عن عاد: ﴿الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾؛ أي: لا مثيلَ لها في حضارات العالم كلّها، في حين قال عن حضارة الفراعنة: ﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ﴾، مجرّد هذا الوصف فقط.

﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ﴾: كَمْ: تدلّ على كثرة العدد.

﴿الْقُرُونِ﴾: جمع قرن، وهو في الاصطلاح الزّمنيّ مئة عام، ويُطلَق على القوم المقترنين معاً في الحياة، ولو على مبدأ من المبادئ، وتوارثه النّاس فيما بينهم، وقد يُطلَق القرن على أكثر من مئة عام، كما نقول: قرن نوح عليه السلام، قرن هود عليه السلام، قرن فرعون؛ أي: الفترة الّتي عاشها.

﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾: أي: أنّه سبحانه وتعالى غنيٌّ عن إخبار أحد بذنوب عباده، فهو أعلم بها، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السّماء، فهو عز وجل: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾[غافر]، فلا يحتاج إلى مَنْ يخبره؛ لأنّه خبير وبصير.

وهنا قد يقول قائل: بما أنّ الله سبحانه وتعالى يعلم كلّ شيء ولا تخفى عليه خافية، فلماذا يسأل النّاس يوم القيامة عن أعمالهم؟

نقول: لأنّ السّؤال يَرِدُ لإحدى فائدتين:

الأولى: كأنْ يسألَ الطّالب أستاذه عن شيءٍ لا يعلمه، فالهدف أنْ يعلم ما جهل.

والأخرى: كأن يسأل الأستاذ تلميذه في الامتحان، لا ليعلم منه، ولكن ليقرّره بما علم.

وهكذا الحقّ سبحانه وتعالى، ولله المثل الأعلى، يسأل عبده يوم القيامة عن أعماله ليقرّره بها، وليجعله شاهداً على نفسه، كما قال عز وجل: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء]، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ﴾: بمعنى الله سبحانه وتعالى يكفيك فلا تحتاج إلى غيره، وقد سبق أنْ أوضحنا أنّ الله عز وجل في يده السّلطات كلّها حينما يقضي: السّلطة التّشريعيّة، والسّلطة القضائيّة، والسّلطة التّنفيذيّة، وهو سبحانه وتعالى غنيٌّ عن الشّهود والبيّنة والدّليل، فكفى به سبحانه وتعالى حاكماً وقاضياً وشاهداً، ولأنّ الله تبارك وتعالى خبيرٌ بصيرٌ بذنوب عباده، فعقابه عَدْلٌ لا ظلمَ فيه.