الآية رقم (143) - وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ

﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا: الوسطيّة الّتي نتحدّث عنها دائماً هي الّتي جاء بها الإسلام.

﴿لِّتَكُونُوا﴾: هل اللّام هنا لام الصّيرورة أم لام التّعليل؟ اللّام هنا للتّعليل وليست لام الصّيرورة، أي: لن تكونوا شهداء على النّاس إلّا بوسطيّتكم؛ لأنّكم إن كنتم متطرّفين ستؤذون النّاس، فالتّطرّف يؤدّي إلى الأذى والعنت والحرج، وربّنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحجّ: من الآية 78]، والغلوّ مرفوض بأيّ شيء، وأمّة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم بوسطيّتها أُعطيت المنزلة العالية وتشهد يوم القيامة على باقي الأمم([1])؛ لأنّنا أمّة وسط سنشهد على كلّ الأمم، فنحن أمّة الوسطيّة والاعتدال، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «بعثت بالحنيفية السمحة»([2])، فأيّ تطرّف وأيّ تكفير ليس من شريعتنا، بدليل النّصّ القرآنيّ: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، فلن نكون شهداء على النّاس إذا لم نكن أمّةً وسطاً.

﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾؛ لأنّ الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم ما خُيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما، وكان صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا» ([3])، ويقول صلَّى الله عليه وسلَّم: «سدّدوا وقاربوا وأبشروا» ([4])، فأيّ تيسير أكثر من هذا وأعظم؟! بينما يقول المكفّرون: هذا يُذبح، وهذا يُقتل، وهذا يُحدّ، وهذا يُجلَد..

إنّ هذا ليس دين الإسلام، بل هو إرهاب وإجرام.

ديننا دين الوسطيّة والاعتدال في كلّ شيء، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: من الآية 77]،  كلّ شيء على قصد، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف]، فكلّ شيء في ديننا وسط واعتدال، فالإسلام ليس دين قسوة، أين هؤلاء الّذين يقطّعون رؤوس النّاس من الدّين؟! أين نحن من رسولنا صلَّى الله عليه وسلَّم الّذي يقول: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يُحسن إليه، وشرّ بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يُساء إليه، أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا» ([5]) وأشار بالسّبابة والوسطى.

أين نحن من ديننا العظيم الّذي يقول: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون]، أين نحن من هذا الدّين العظيم الّذي عندما تحدّث عن الطّغاة قال: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ * فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ [الفجر]، إنّه الإسلام دين الوسطيّة، دين الاعتدال والخير والمحبّة، دين العطاء والرّحمة، حوّلوه إلى شعارات للقتل والإرهاب والتّكفير والطّائفيّة والبغضاء ولكن: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: من الآية 21].

﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا: الرّسول شهيد على كلّ الأمم وكذلك أمّته.

﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا: أي القبلة إلى المسجد الأقصى.

﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ: إلّا لنعلم من يّتبع الرّسول ممّن لا يتّبعه؛ ليكون حجّة وتمحيصاً وابتلاءً فإذا قال صلَّى الله عليه وسلَّم: توجّهوا إلى هنا، نتوجّه، أو قال: توجّهوا إلى هناك، نتوجّه؛ لأنّنا نؤمن بمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم وبرسالته من عند الله، والله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: من الآية 7], وهذا مفهوم الطّاعة دون أن نعرف الغرض من تحويل القبلة، ولماذا تمّ نسخ هذا الحكم.

﴿وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ: لقد رآها بعضهم كبيرة، فبعد أن صلّوا زمناً طويلاً وهم يتوجّهون لبيت المقدس، كيف يتّجهون ويصلّون لمكان فيه أصنام حول الكعبة؟! لكن المؤمنين يعلمون أنّ عليهم الطّاعة ولا ينظرون إلى علّة الأمر. ولم يترك اليهود عمليّة تحويل القبلة تمرّ دون إرجاف وتشكيك، فقالوا للمسلمين: إنّ صلاتكم خلال سنة ونصف كانت بلا أجر ولا ثواب، فقال الله سبحانه وتعالى للمسلمين: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ: الرّأفة أخصّ والرّحمة أعمّ.

ولو كان القرآن الكريم من عند غير الله لجاءت: (وما كان الله ليضيع صلاتكم) عِوَضاً عن: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾، فعبّر الله سبحانه وتعالى عن الصّلاة بالإيمان؛ لأنّ الصّلاة عماد الدّين، من أقامها أقام الدّين، ومن تركها هدم الدّين، وهو مضمون الإيمان.

هناك أحاديث كثيرة عن رحمة الله سبحانه وتعالى، منها ما رواه سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: أنّه قدم على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سبي فإذا امرأة تسعى إذ وجدت صبيّاً في السّبي أخذته فأرضعته، فقال لنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النّار؟»، قلنا: لا والله، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها»([6]).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يُدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا ربّ، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمّد وأمّته، فيشهدون أنّه قد بلّغ.. فذلك قوله جلّ ذكره: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)». والوسط: العدل. صحيح البخاريّ: كتاب التّفسير، باب سورة (البقرة)، الحديث رقم (4217).
([2]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: باقي مسند الأنصار، حديث أبي أمامة الباهليّ، الحديث رقم (22345).
([3]) صحيح البخاريّ: كتاب العلم، باب ما كان النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يتخوّلهم بالموعظة والعلم، الحديث رقم (69).
([4]) صحيح البخاريّ: كتاب الرّقاق، باب القصد والمداومة على العمل، الحديث رقم (6102).
([5]) كنز العمّال: ج3، الحديث رقم (5994).
([6]) شعب الإيمان: الخامس والسّبعون، الحديث رقم (11018).

وَكَذلِكَ: الواو استئنافية والكاف حرف جر ذلك اسم إشارة في محل جر بحرف الجر والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر

محذوف تقديره مثل ذلك الجعل جعلناكم.

جَعَلْناكُمْ: فعل ماض ونا فاعل والكاف مفعول به أول.

أُمَّةً: مفعول به ثان.

وَسَطاً: صفة لأمة.

لِتَكُونُوا: اللام لام التعليل تكونوا مضارع ناقص منصوب وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمها.

شُهَداءَ: خبرها.

عَلَى النَّاسِ: متعلقان بشهداء.

وَيَكُونَ: الواو عاطفة يكون فعل مضارع ناقص منصوب معطوف على تكونوا.

الرَّسُولُ: اسمها.

عَلَيْكُمْ: متعلقان بشهيدا.

شَهِيداً: خبرها.

وَما: الواو عاطفة، ما نافية.

جَعَلْنَا: فعل ماض ونا فاعله.

الْقِبْلَةَ: مفعول به أول لجعلنا.

الَّتِي: اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة، ومفعول جعلنا الثاني محذوف والتقدير: وما جعلنا القبلة التي كنت

عليها قبلة.

كُنْتَ: ماض ناقص واسمه، وجملة كنت صلة الموصول لا محل لها.

عَلَيْها: الجار والمجرور متعلقان بالخبر.

إِلَّا: أداة حصر.

لِنَعْلَمَ: اللام لام التعليل، نعلم: فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد لام التعليل والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن والمصدر

المؤول من أن المضمرة والفعل في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب على الاستثناء والتقدير: وما

جعلنا القبلة إلا امتحانا للناس للعلم.

مَنْ: اسم موصول في محل نصب مفعول به للفعل قبله.

يَتَّبِعُ الرَّسُولَ: فعل مضارع ومفعوله والفاعل هو والجملة صلة الموصول.

مِمَّنْ: من ومن الموصولية جار ومجرور متعلقان بنعلم التي تعني نميز.

يَنْقَلِبُ: فعل مضارع والفاعل هو والجملة صلة الموصول وكذلك جملة يتبع الرسول.

عَلى عَقِبَيْهِ: عقبي اسم مجرور بالياء لأنه مثنى والهاء في محل جر بالإضافة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي مرتداً

على عقبيه.

وَإِنْ: الواو حالية إن مخففة من الثقيلة لا عمل لها.

كانَتْ: فعل ماض ناقص والتاء تاء التأنيث واسمها ضمير مستتر تقديره هي والتقدير: وإن كانت التولية.

لَكَبِيرَةً: اللام الفارقة كبيرة خبر كانت.

إِلَّا: أداة حصر.

عَلَى الَّذِينَ: جار ومجرور متعلقان بكبيرة.

هَدَى: فعل ماض مبني على الفتحة المقدرة على الألف للتعذر.

اللَّهُ: لفظ الجلالة فاعل مرفوع والجملة صلة الموصول لا محل لها.

وَما: الواو عاطفة ما نافية.

كانَ: فعل ماض ناقص.

اللَّهُ: لفظ الجلالة اسمها.

لِيُضِيعَ: اللام لام الجحود يضيع فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد لام الجحود والفاعل ضمير مستتر يعود إلى الله.

إِيمانَكُمْ: مفعول به وإن المضمرة والفعل في تأويل مصدر في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر كان والتقدير ما

كان الله مريداً لإضاعة إيمانكم.

إِنَّ اللَّهَ: إن ولفظ الجلالة اسمها.

بِالنَّاسِ: جار ومجرور متعلقان برؤوف أو برحيم.

لَرَؤُفٌ: اللام المزحلقة رؤوف خبر إن.

رَحِيمٌ: خبر ثان والجملة الاسمية تعليلية لا محل لها من الإعراب وجملة ما كان الله معطوفة على ما قبلها.

وَسَطاً الوسط: منتصف الشيء أو مركز الدائرة، ثم أستعير للخصال المحمودة، إذ كلّ صفة محمودة كالشجاعة وسط بين الطرفين: الإفراط والتفريط، والفضيلة في الوسط. والمراد: الخيار العدول الذين يجمعون بين العلم والعمل.

عَقِبَيْهِ: العقب مؤخّر القدم، يقال: انقلب على عقبيه عن كذا: إذا انصرف عنه بالرجوع إلى الوراء، وهو طريق العقبين، والمراد: يرتد عن الإسلام.

إِيمانَكُمْ: صلاتكم إلى بيت المقدس، فإنها مسببة عن الإيمان، بل يثيبكم عليه، لأن سبب نزولها السؤال عمن مات قبل التحويل. بِالنَّاسِ المؤمنين.

لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ: في عدم إضاعة أعمالهم، والرأفة: شدّة الرحمة، وهي رفع المكروه وإزالة الضرر، والرحمة أعم، إذ تشمل دفع الضرر وفعل الإحسان.

يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ: استعارة تمثيلية، حيث مثّل لمن يرتد عن دينه بمن ينقلب على عقبيه.

لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ: من صيغ المبالغة، والرأفة: شدّة الرحمة، وقدم الأبلغ مراعاة للفاصلة والمعنى متقارب