الآية رقم (4) - وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا

﴿وَقَضَيْنَا﴾: أي: حكمنا حُكْماً لا رجعةَ فيه، وأعلنَّا به المحكوم عليه، والله سبحانه وتعالى هو الّذي يعلن هذا الحكم.

والقضاء يعني الفَصْل في نزاع بين متخاصمين، وهذا الفَصْل لا بُدَّ له من قاضٍ مُؤهَّل، وعلى علمٍ بالقانون الّذي يحكم به، ويستطيع التّرجيح بين الأدلّة، فلا بُدَّ أن يكون القاضي مُؤهّلاً أمام المتنازعين، وهذا أمرٌ مهمٌّ جدّاً بالنّسبة إلى موضوع القضاء، حتّى يكون القضاء عدلاً، والله سبحانه وتعالى يحكم على قضيّة شعب بني إسرائيل هنا من خلال هذه الآيات العظيمة الّتي تبيّن لنا حقيقة ما يجري الآن وحقيقة هؤلاء الّذين يدّعون تدليساً وزوراً أحقّيّتهم في أرضنا وبلادنا وفي مسجدنا الأقصى.

﴿فِي الْكِتَابِ﴾: أي: في التّوراة، كتابهم الّذي نزل على نبيّهم عليه السلام، وهم محتفظون به وليس في كتابٍ آخر، فالحقّ سبحانه وتعالى حَكَمَ حُكْماً وأعلمهم به، حيث أوحاه إلى موسى عليه السلام، فبلّغهم به في التّوراة، وأخبرهم بما سيكون منهم من ملابسات في استقبال منهج الله عز وجل على ألسنة الرّسل عليهم السّلام، وفسادهم في الأرض، فإذا كان رسولهم موسى عليه السلام قد أخبرهم بما سيحدث منهم، وقد حدث منهم فعلاً ما أخبرهم به الرّسول وهم مختارون، فكان عليهم أنْ يخجلوا من ربّهم عز وجل، ولا يتمادوا في تصادمهم وخروجهم عن التّعاليم الإلهيّة، وكان عليهم أن يصدِّقوا رسولهم فيما أخبرهم به.

﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ﴾: جاءتْ العبارة مُؤكَّدة باللّام، وهذا يعني أنّ في الآية قَسَماً دَلَّ عليه جوابه، فكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى يقول: ونفسي لتفسدنّ في الأرض، لأنّ القسَم لا يكون إلّا بالله سبحانه وتعالى.

أو نقول: إنّ المعنى: ما دُمْنا قد قضينا وحكمنا حُكْماً مُؤكَّداً، لا يستطيع أحدٌ الفِكَاك منه، ففي هذا معنى القسَم، وتكون هذه العبارة جواباً لـ (قضينا)؛ لأنّ القَسَم يجيء للتّأكيد، والتّأكيد حاصلٌ في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَضَيْنَا﴾.

فما هو الإفساد؟ الإفساد: أن تعمد إلى الصّالح في ذاته فتُخرجه عن صلاحه، فكُلُّ شيءٍ في الكون خلقه الله سبحانه وتعالى لغايةٍ، فإذا تركناه ليؤدّيَ غايته فقد أبقيناه على صلاحه، وإذا أخللْنا به يفقد صلاحه ومهمّته، والحقّ سبحانه وتعالى قبل أنْ يخلق البشر على هذه الأرض خلق لهم مُقوّمات الحياة في السّماء والأرض والشّمس والهواء..، وليس مقوّمات حياتنا فحسب، بل وأعدَّ لنا في كَوْنه ما يُمكِّن الإنسان بعقله وطاقته أن يَزيدَ الصّالح صلاحاً، فعلى الأقلّ إنْ لم تستطع أن تزيد الصّالح صلاحاً فلا تُفسد ما أصلحه الله سبحانه وتعالى.

وهنا المولى سبحانه وتعالى يتحدّث عن شعب بني إسرائيل:

﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾: وهل أفسد بنو إسرائيل في الأرض مرّتين فقط؟ أو أنّهم أفسدوا مرّاتٍ كثيرة ومتعدّدة تكاد لا تُحصَى؟! فلماذا قال سبحانه وتعالى هنا: ﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾؟ تحدّث العلماء كثيراً عن هاتين المرّتين تحديداً، وفي أيّ فترات التّاريخ حدثتا، وذهبوا إلى أنّهما قبل الإسلام، والمتأمّل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهما بالإسلام، فيبدو أنّ المراد بالمرّتين أحداثٌ حدثتْ منهم في حضْن الإسلام، فالحقّ سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الإسراء ذكر قصّة بني إسرائيل، فدلّ ذلك على أنّ الإسلام تعدّى ووصل، وأصبح بيت المقدس قِبْلةً للمسلمين، ثمّ أُسْرِي برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، وبذلك دخل في حَوْزة الإسلام، فالمرّتان على الأرجح أن تكونا في حضن الإسلام؛ لأنّهم أفسدوا كثيراً قبل الإسلام، ولا دَخْلَ للإسلام في إفسادهم السّابق؛ لأنّ الحقّ تعالى يقول: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾، فإنْ كان الفساد مُطْلقاً؛ أي: قبل أن يأتي الإسلام فقد تعدَّد فسادهم، وهل هناك أكثر من قولهم بعد أن جاوز بهم موسى عليه السلام البحر فرأوا جماعةً يعكفون على عبادة العجل، فقالوا لموسى عليه السلام: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: من الآية 138]، هل هناك فسادٌ أكثر من قتلهم الأنبياء؟ وهذا فسادٌ ثانٍ، وحرّفوا كتاب الله عز وجل؟ وهذا فسادٌ ثالث، والنّاظر في تحريف بني إسرائيل للتّوراة يجد أنّهم حرَّفوها من وجوهٍ كثيرةٍ وتحريفاتٍ متعدِّدةٍ، فمن التّوراة ما نسوه، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾[المائدة: من الآية 13]، والّذي لم ينسَوْهُ لم يتركوه على حاله، بل كتموا بعضه، والّذي لم يكتموه لم يتركوه على حاله، بل حرَّفوه، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾[المائدة: من الآية 13]، ولم يقف الأمر بهم عند هذا النّسيان والكتمان والتّحريف، بل تعدَّى إلى أن أَتَوا بكلامٍ من عند أنفسهم، وقالوا: هو من عند الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه وتعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: من الآية 79]، فهل هناك إفسادٌ في منهج الله عز وجل أعظم من هذا الإفساد؟!

ومن العلماء مَنْ يرى أنّ الفساد الأوّل هو ما حدث في قصّة طالوت وجالوت في قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا﴾ [البقرة: من الآية 246]، فقد طلبوا القتال بأنفسهم وارتضَوْه وحكموا به، ومع ذلك حينما جاء القتال تنصَّلوا منه ولم يقاتلوا، ويرون أنّ الفساد الثّاني قد حدث بعد أن قويَتْ دولتهم، واتّسعتْ رقعتها من الشّمال إلى الجنوب، فأغار عليهم بختنصَّر وهزمهم.

وهذه التّفسيرات على أنّ الفساديْن سابقان للإسلام، ونحن نرى أنّ الأَوْلى أن نقول: إنّهما بعد الإسلام، وهذا ما يَرْبِط سورة الإسراء ببني إسرائيل، وخصوصاً أنّ الإسلام حينما جاء كان يستشهد بأهل الكتاب على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل الكتاب أنفسهم كانوا يستفتحون به على المشركين، فكان أهل الكتاب إذا جادلوا الكفّار والمشركين في المدينة كانوا يقولون لهم: لقد أظلَّ زمان نبيٍّ يأتي فنتّبعه، ونقتلكم معه قتل عادٍ وإِرَم؛ لذلك يقول الحقّ سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: إنّهم ينكرون عليك أنّ الله سبحانه وتعالى يشهد ومَنْ عنده علم الكتاب، فمَنْ عنده علم الكتاب منهم يعرف بمجيئك، وأنّك صادقٌ، وأنّهم كاذبون، فهم كانوا يعرفون النّبيّ صلى الله عليه وسلم أشدّ من معرفتهم لأبنائهم، ولا يُشكّ في شخصيّة الرّسول صلى الله عليه وسلم، وأوصافه الّتي وردت في التّوراة، وبما أنّه كان ذلك وأنكروا، أليس هذا فسادٌ؟! قال سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: من الآية 89]، فلمّا هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أبرم معهم معاهدةً يتعايشون بموجبها، ووفّى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وفّوا، فلمّا غدروا هم، واعتدوا على حرمات المسلمين وأعراضهم، جاس رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال ديارهم، وأجلاهم عن المدينة إلى خيبر؛ وكان هذا بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر]، وهذا هو الفساد الأوّل الّذي حدث من يهود بني النّضير، وبني قَيْنقاع، وبني قريظة، الّذين خانوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن كانوا يستفتحون به على الّذين كفروا، أمّا الفساد الثّاني فهو ما سيفعلونه بعد ذلك، عندما جاؤوا واحتلّوا المسجد الأقصى والأرض العربيّة وأفسدوا في هذه البلاد وقتلوا وشرّدوا ودمّروا وغدروا.

﴿وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾: متى حدث هذا العلوّ الكبير؟ الجواب: في هذه الأيّام، حيث أصبح اليهود يتحكّمون في أكبر دولةٍ في العالم وهي الولايات المتّحدة الأميركيّة، واللّوبي الصّهيونيّ اليهوديّ في الغرب وفي الولايات المتّحدة، هو الّذي يحرّك السّياسات الاقتصاديّة والإجراميّة والعدوانيّة للعالم الغربيّ، فهم لم يعلوا هذا العلوّ كما في هذه الأيّام.