الآية رقم (34) - وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ

﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾: نقف هنا عند عظمة الأداء القرآنيّ؛ لأنّ الكلامَ كلامُ ربٍّ، فالقرآن الكريم لـمّا تكلّم عن الفاكهة في كلّ الآيات، قال: ﴿مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾[البقرة: من الآية 266]، فذكر الشّجرة في النّخيل، وذكر الثّمرة في الأعناب، ولم يذكر ثمرة النّخيل وهي التّمر أو البلح، ولم يذكر شجرة العنب وهي الكَرْم، بينما لو كان إنسانٌ هو المتحدّث لقال: النّخيل والكرم، أو قال: البلح والعنب، والله سبحانه وتعالى يريد أن يشير هنا إلى أمورٍ مهمّةٍ: أوّلاً بأنّ النّخيل والأعناب يحتويان على السّكّريّات والنّشويّات والفيتامينات الّتي هي من مقوّمات الحياة، وهما مع الحبوب تكفي الإنسان، ثانياً؛ لأنّ شجرة النّخيل تختلف عن شجرة الكرم، فالكرم إذا قطفنا العنب والورق لا يبقى شيءٌ له قيمة، بينما النّخيل دائم العطاء مستمرّ ويبقى مئات السّنين، بل ويعطي في عدّة مواسم، ويمكن أن يُستَفاد منه في أمورٍ كثيرة، والله سبحانه وتعالى هو الخالق الّذي خلق فهو يعلم ما الّذي ينفع النّاس، لذلك قال: ﴿نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾، فقدّم النّخيل في آيات القرآن الكريم كلّها؛ لأنّنا نستفيد من النّخلة كلّها، لكن هو يريد أن يتحدّث عن إعجاز ويريد أن تنظر بعينيك، ماذا تجد في النّخلة، ولماذا يكرّر ذكر النّخيل؟ إذا نظرنا إلى النّخلة نجد أنّ فيها شمروخ وسباطة والعزق الّذي ينمو عليه البلح، وكيف أنّ هذا التّوازي الموجود، هندسة كونيّة عجيبة لا تخطر ببال البشر أبداً، ولننظر إلى الهندسة الإنسانيّة، فإذا أردنا مثلاً أن نوصل الماء إلى حيٍّ من الأحياء فالهندسة البشريّة تقتضي أن نجعل ماسورة ضخمة، وفي الحيّ نجعل ماسورة أقلّ قطراً من الأولى، ثمّ ماسورة أقلّ للأبنية، وماسورة أقلّ بكثير لكلّ شقّة، فإذا كانت هذه هي هندسة البشر، فما بالنا بهندسة ربّ البشر الّذي هندس النّخلة؟!

﴿وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ﴾: أي أحيا الأرض بالماء، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾[البقرة: من الآية 22]، ونحن نعلم أنّ الحياة مرتبطةٌ بالماء، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾[الأنبياء: من الآية 30]، هنا قال: ﴿وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ﴾، لماذا لم يقل: (وآية لهم الأرض الميتة أنزلنا عليها ماءً من السّماء فأحيينا بها الأرض)؟ بل قال مباشرةً: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا﴾، كيف أحييناها؟ بالماء، ماء المطر أو ماء الأنهار، أو سلك في الأرض ينابيع، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الزّمر: من الآية 21]، فهذا الماء يتجمّع تحت الأرض ويتفجّر ينابيع فيخرج أحياناً بحفر الإنسان، ويخرج أحياناً من غير حفر، فلنلحظ هذه الدّقّة، ونحن نقول عندما تتجمّع الغيوم: ستمطر، ولكن لا ننتبه إلى معملٍ عظيم صانعه ربّ العالمين، يتحرّك هذا المعمل عند نزول الماء، فالنّبات والإنسان يعيش على الماء، وقد جعل الله سبحانه وتعالى ثلاثة أرباع مساحة الكرة الأرضيّة بحاراً ومحيطات، والرّبع فقط يابسة، يسكن عليها البشر كلّهم، فجعل ثلاثة أرباع الكرة الأرضيّة في خدمة الرّبع، حتّى يتّعظ الإنسان، ونحن لا نستطيع أن نعيش بدون ماء نشرب منه ونسقي به الزّرع، فمن أين يأتي هذا الماء؟ من البحار، لكنّ ماء البحر مالح، وماء النّهر عذب، فمن أين أتى ماء النّهر؟ من البحر، ولكن كيف جاء من البحر والمحيط والبحر ماؤهما مالح، وفي البحر كمّيّة الماء لا تنقص ولا تزيد؟ هناك مصنع يعمل بلحظات بأمر ﴿كُنْ﴾ فيكون، فثلاثة أرباع الأرض هي ماءٌ مالح، وهناك موقدٌ إلهيٌّ وهو الشّمس، فتتبخّر مياه البحار بحرارتها وترتفع فتصادف أجواء باردة فتتكاثف وتمطر ماءً حلواً، تنزل الأمطار ويسلكه ينابيع في الأرض وتتفجّر منه العيون وتأتي منه الأنهار وتعود إلى البحار الكمّيّة ذاتها، وهذه عمليّة دائمة مستمرّة، فالماء يؤخذ من البحر، وقد مدّ الله سبحانه وتعالى رقعته؛ لأنّنا لا يمكن أن نعيش من غير الماء.

«وَجَعَلْنا» الواو حرف عطف وماض وفاعله والجملة معطوفة على أحييناها

«فِيها» متعلقان بجعلنا

«جَنَّاتٍ» مفعول به منصوب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم

«مِنْ نَخِيلٍ» متعلقان بمحذوف صفة لجنات

«وَأَعْنابٍ» معطوفة على نخيل

«وَفَجَّرْنا» الواو حرف عطف وماض وفاعله والجملة معطوفة على ما قبلها

«فِيها» متعلقان بفجرنا

«مِنَ الْعُيُونِ» متعلقان بمحذوف صفة لمفعول فجرنا المحذوف.