﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾ : نقول: جَهدَ فلان يجهد؛ أي: أتعب نفسه واجتهد، ألحّ في الاجتهاد وجاهد غيره، فـ: (جاهد) تدلّ على المفاعلة والمشاركة، وهي لا تتمّ إلّا بين طرفيْن، وفي هذه الصّيغة (المفاعلة) نغلّب الفاعليّة في أحدهما والمفعوليّة في الآخر، مع أنّهما شركاء في الفعل، فكلٌّ منهما فاعل في مرّة، ومفعول في أخرى، كأن نقول: شارك زيدٌ عمراً، وشارك عمرو زيداً، أو: أنّ الّذي له ضِلع أقوى في الشّركة يكون فاعلاً والآخر مفعولاً.
وبعد أن بيَّن الحقّ سبحانه وتعالى أنّ مثوى الكافرين المكذِّبين في جهنّم، وما داموا قد ظَلموا هذا الظّلم العظيم، فلا بُدَّ أن يوجد تأديب لهم، هذا التّأديب لا لإرغامهم على الإيمان، لقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: من الآية 29]، إنّما التّأديب أن نجهر بدعوتنا، وأن نعلي كلمة الحقّ، فمن شاء فليؤمن، ومَنْ شاء فليظلّ على حاله، فالآية تبيّن موقف المؤمنين أمام هؤلاء المكذّبين: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ .
معنى: ﴿جَاهَدُوا فِينَا﴾ ؛ أي: من أجلنا ولنصرة ديننا، فهل أُمرنا أن نقاتل المشركين كونهم مشركين، أم أُمرنا أن نُقاتل المشركين كونهم معتدين؟ الجواب: قد يكون الخلاف بينك وبين شخص في مسألة القمّة الإيمانيّة ووجود الإله الواحد، كالملحدين الّذين يقولون: بعدم وجود إله في الكون، وهؤلاء لهم جهاد، هذا الجهاد ليس بالقتال، وإنّما بالنّقاش والحوار، وأهل الشّرك الّذين يقرّون بالإله، ولكن يعتقدون أنّ له شريكاً، فهؤلاء لهم جهاد آخر ونقاش آخر وحوار آخر، جهاد الملاحدة بالمنطق والحجّة، ليقولوا هم بأنفسهم: بوجود إله واحد، ونقول لهم: هل وُجِد مَن ادّعى أنّه خلق ذاته أو خلق غيره؟ فلكلّ خصومة في دين الله عزَّ وجلَّ جدل خاصّ، ومنطق للمناقشة نقوم به في ضوء: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ ، وعلينا أن ننظر أوّلاً ما موقع الجهاد الّذي نقوم به، فجهاد الملاحدة بأسلوب، وجهاد المشركين بأسلوب، وجهاد الآخرين بأسلوب، وجهاد المسلم للمسلم كذلك له منطق إنْ دبَّ بينهما الخلاف، مع أنّ الله سبحانه وتعالى قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام: من الآية 159]، فالمطلوب دائماً هو وحدة الكلمة وليس التّفرّق، وهناك جهاد آخر هو الجهاد القتاليّ، فمتى يكون هذا؟ ومتى أذن الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بالقتال؟ الجواب: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحجّ: الآية 39 ومن الآية 40]، فعندما يحدث اعتداء على المقدّسات وعلى الأرض وعلى العرض يكون الجهاد القتاليّ، كما يفعل الآن أبطال المقاومة في فلسطين، أمّا كلمة جهاد فيقول سبحانه وتعالى: ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: من الآية 52]؛ أي: القرآن الكريم، فنحن لدينا جهاد أصغر وجهاد أكبر، والنّبيّ ﷺ عندما قَدِمَ عليه قوم غزاة، قال: «قدمتم خير مقدم وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، مجاهدة العبد هواه»([1])، فوصف جهاد النّفس بأنّه الجهاد الأكبر، لماذا؟ لأنّنا في ساحة القتال نجاهد عدوّاً ظاهراً، يتّضح لنا عدده وأساليبه، أمّا إنْ كان العدوّ من داخل الإنسان، فإنّه يعزّ عليه جهاده، فأنت تحبّ أنْ تحقّق لنفسك شهواتها، وأنْ تطاوعها في أهوائها ونزواتها، وهي في هذا كلّه تُلِحّ عليك وتتسرَّب من خلالك، فعليك أنْ تقف في جهاد النّفس موقفاً تقارن فيه بين شهوات النّفس العاجلة وما تُورِثك إيّاه من حسرة آجلة باقية، وما تضيعه عليك من ثواب ربّك في جنّة فيها من النّعيم ما لا عَيْن رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فنقول: إنّ من أعظم الجهاد جهاد الإنسان لنفسه؛ لأنّها تُلِحّ عليه أن يُشبع رغباتها، كما أنّها عُرْضة لإغراء الهوى ووسوسة الشّيطان الّذي يُزيِّن لها كلّ سوء، ويُحبِّب إليها كلّ منكر. والقرآن الكريم حينما يُحدّثنا عن الجهاد يُحدّثنا عن أنواع الجهاد كلّها، فيقول مرّة: ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التّوبة: من الآية 41]، ويقول هنا: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾ ، والجهاد في سبيل الله عزَّ وجلَّ؛ أي: في الطّريق إلى الله سبحانه وتعالى لإثبات الإيمان بالإله الواحد، وصدق البلاغ من الرّسول المؤيَّد بالمعجزة والمنهج، هذا سبيله النّقاش والحوار، وليس القتال، أمّا القتال فلا يكون إلّا إن حدث اعتداء على أرضك أو عرضك أو مقدّساتك، ثمّ يأتي جزاء الجهاد في ذات الله جلَّ جلاله :
﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ : أي: ندلّهم على الطّرق الموصِلة إلينا، كأنّ الطّريق إلى الله سبحانه وتعالى ليس واحداً، إنّما سبل شتّى؛ لذلك لا تحقرنَّ من الطّاعة شيئاً مهما كان يسيراً، فإنّ الله سبحانه وتعالى غفر لرجل سقى كلباً يلهث من العطش، ولا تحقرنّ من المعصية شيئاً، فإنّ الله عزَّ وجلَّ أدخل امرأة النّار؛ لأنّها حبست هرّة، ولا تحتقرنّ عبداً مهما كان، فإنّ الله سبحانه وتعالى أخفى أسراره في خَلْقه؛ فرُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبرّه، فقوله سبحانه وتعالى: ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ ؛ أي: السّبل الموصِلة لنعيم الآخرة، سبل الارتقاء في اليقين الإيمانيّ الّذي قال الله سبحانه وتعالى عنه: ﴿يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ﴾ [الحديد: من الآية 12]، ويقول سيّدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “ما قصَّر بنا في علم ما جهلناه، إلّا تقصيرنا في العمل بما علمناه، فالّذي جعلنا لا نعرف أسرار الله أنّنا قصّرنا في العمل بما أمرنا به”، فلماذا يعطينا ونحن لا نعمل بما أخذنا من قبل، لكن حين تعمل بما علمتَ، فأنت مأمون على منهج الله عزَّ وجلَّ، فلا يحرمك المزيد، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمّد]، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: من الآية 29]، والفرقان من أسماء القرآن الكريم، فحين تتّقي الله سبحانه وتعالى على مقتضاه، وبمدلول منهجه في القرآن الكريم يمنحك فرقاناً آخر ونوراً آخر تبصر به حقائق الأشياء، وتهتدي به إلى الحكم الصّحيح.
﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ : الإحسان من الإنسان أن يعبد الله سبحانه وتعالى كأنّه يراه، فإن لم يكن يراه فإنّ الله عزَّ وجلَّ يراه، والإحسان في الأداء أن تزيد عمّا فرض الله عزَّ وجلَّ عليك، لكن من جنس ما فرض، فإذا أنت أحسنتَ أحسن الله سبحانه وتعالى إليك بأنْ يزيدك إشراقاً، ونورانيّة، ويُخفِّف عنك أعباء الطّاعة، ويُقبِّح في نفسك المعاصي.
﴿لَمَعَ﴾ : كلمة (مع) تُفيد المعية، والمعيّة في أعراف البشر أنْ يلتقي شيء بشيء، لكن إذا كانت المعيّة مع الله عزَّ وجلَّ فلنفهم أنّها معيّة أخرى غير الّتي نعرفها مع أصدقائنا، لنأخُذْها في إطار: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشّورى: من الآية 11].
([1]) كنز العمّال: الباب السّادس: في أحكام القتلى، الجهاد الأكبر، الحديث رقم (11260).