﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾: الحقّ تعالى يُعدُّ نبيَّه ورسولَه ﷺ لأمرٍ عظيم، وهو أمر دعوة قومه للإسلام، ويعلم تعالى أنّهم لا بدّ سيؤذونه بالقول والفعل، وسيقاتلونه ويضربونه.. فلا بدّ من الصّبر، لذلك أراد تعالى أن يُعدّه إعداداً ربّانيّاً، وقد كان رسول الله ﷺ يقول: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ»([1])، وهي علامة الإيمان، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزّمر: من الآية 10]، فالصّبر هو نصف الإيمان، وهو علامة حمل الأعباء، فمهما قالوا عن النّبيّ ﷺ: ساحر ومجنون.. فقد قال له تعالى:
﴿وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾: فإذا كان الصّبر فيه إيلامٌ لك، فليكُنْ صبرك عليهم صبراً جميلاً، وليكُنْ هجرك لهم واعتزالك إيّاهم هَجراً جميلاً، ومادّة هجر وما يُشتقّ منها تدلُّ على تَرْك شيءٍ إلى شيءٍ آخر، والهجر فيه كراهيّة النّفس للشّيء المؤدّي إلى قطْع الصّلة بين رسول الله ﷺ وبين قومه، لكنّنا دائماً نجد الحسن والأحسن والخير من رسول الله ﷺ.
﴿هَجْرًا جَمِيلًا﴾: أي: اعتزلهم اعتزالاً حسناً لا جزع فيه، مع أنّهم آذوك بأنواع الأذى كلِّها، فالاعتزال والهجر الجميل ألّا يدع شفقته عليهم، ولا يدعو عليهم بالهلاك، ولا يمتنع عن دعائهم إلى ما فيه رُشْدهم وصلاحهم، ولذلك تروي لنا سيرة رسول الله ﷺ أنّه قال في وقت أذاهم إيّاه: «اللّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»([2])، ونجد أنّ النّبيّ ﷺ وقد جاء له جبريل عليه السلام قائلاً: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟»، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً»([3])، وهذا من رحمة رسول الله ﷺ بقومه، بل بالعالمين، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء]، فهم محتاجون لأدبك الجمّ، ولتواضعك الوافر، ولجمال خُلُقك، ولبسمتك الحانية، ولنظرتك المواسية، هذا هو الإسلام، فتنازل عن هفوات خصومك وليسعها خُلُقك، وليسعها حِلمك، ولا تغضب لأيّ بادرة تبدر منهم، وقد كان رسول الله ﷺ يؤلمه ويؤذيه تكذيب قومه له؛ لأنّه كان يريد هدايتهم ونجاتهم، وكاد أن يُهلك نفسه، لذلك قال له الحقّ تعالى: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [فاطر: من الآية 8].
([1]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ الـمَغَازِي، بَابُ غَزْوَةِ الطَّائِفِ، الحديث رقم (4335).
([2]) شعب الإيمان للبيهقيّ: حبّ النّبيّ ,، فصل في بيان النّبيّ , وفصاحته، الحديث رقم (1375).
([3]) صحيح البخاريّ: كِتَابُ بَدْءِ الخَلْقِ، بَابُ إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: آمِينَ وَالـمَلاَئِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، الحديث رقم (3231).