الآية رقم (45) - وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ

في الآية قبل السّابقة قال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ والقرآن الكريم حين يتحدّث عن الصّلاة يتحدّث عن (إقامة) ولا يتحدّث عن أداء، وهذا أمر هامّ جدّاً؛ لأنّ بعض النّاس يقول: أنا أصلّي بقلبي، فنقول له: صلّ، ولكن هذه ليست إقامة الصّلاة، فالإقامة لها شروطها وأركانها وفرائضها المعروفة من طهارة وستر واستقبال للقبلة وركوع وسجود.. وهذا معنى إقامة الصّلاة.

وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَأمر، أمّا هنا فالمقصود الاستعانة، وكأنّ الله سبحانه وتعالى يقول لنا: ستكون في هذه الحياة ابتلاءات، والإنسان على هذه الأرض ليس محصّناً من الابتلاءات من مرض وموت وفقر وهمّ وغمّ.. ولا أحد ينجو منها، فمن كان محصّناً من المرض أو الموت فليمنع نفسه منها، ولا يمكن لأحد أن يمنع نفسه؛ لأنّ الإنسان أغيار، يعتريه التّبدّل، ويتعرّض لأمورٍ كثيرة، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ]البقرة[، والاستعانة بالصّلاة غير إقامة الصّلاة، وكأنّ الله سبحانه وتعالى يقول لنا في هذه الآية: ستكون هناك ابتلاءات في الحياة، وأنا أعطيكم سلاحين يؤدّيان وظيفة واحدة، تستعينون بهما على مواجهة هذه الابتلاءات، وعليكم أن تأخذوهما معاً، ولا يصحّ أن تأخذوا واحداً وتتركوا الآخر، وهما: الصّبر والصّلاة. وليس هناك إنسان محصن، فما دام هو إنساناً فستعتريه كلّ الابتلاءات من مرض وكآبة وهرم وغيرها.. فاستعن بهذين السّلاحين على مواجهتهما. وقدّم الصّبر على الصّلاة لأهمّيته، وقد قال سيّدنا عليّ كرم الله وجهه: (الصّبر من الإيمان كالرّأس من الجسد)؛ لأنّ الصّبر فيه مجاهدة للنّفس ومكابدة أكثر من الصّلاة. وهناك صبر على المحذور، وصبر على المأمور، وصبر على المقدور. وهناك أوامر طلبها الله سبحانه وتعالى منّا نصبر على أدائها كالصّوم وترك الشّهوات.. وهناك أمور نخشى الوقوع فيها ونحذر منها. وهناك أمور قدّرها الله علينا وقضاها، وعلينا أن نصبر على تحمّلها. ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ]الزّمر: من الآية 10[، وكلّ حسنة بعشر أمثالها إلّا الصّبر فهو بغير حساب؛ لأنّه علامة الإيمان الحقيقيّ. وقد يقول قائل هنا: إنّ الاستعانة تكون بالله سبحانه وتعالى فكيف تقولون: نستعين بالصّبر والصّلاة؟ وفي الحديث الصّحيح عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: كنت خلف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوماً فقال: «يا غلام، إنّي أعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجَاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلّا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء، لم يضرّوك إلّا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصّحف»([1]) وهذا حديث صحيح، ولكنّنا أُمرنا ألّا نسجد لغير الله أيضاً، وقال الله سبحانه وتعالى لنا: بأن نستقبل القبلة في صلاتنا، فنحن نتوجّه كما أمرنا الله جلَّ جلاله وهكذا يأمرنا الله سبحانه وتعالى هنا بالاستعانة بالصّبر والصّلاة؛ لأنّ طريقة الاستعانة بالله تكون باستخدام ما أمرنا الله عزَّوجل به، والاستعانة بالصّبر والصّلاة هي استعانة بالله. والصّلاة اتصال مع الله عزَّوجل وأيّ عظيم تريد مقابلته تحتاج إلى موعد مسبق منه ووقت محدّد وهو الّذي يتحدّث، وينهي المقابلة متى يشاء. أمّا الله سبحانه وتعالى فأنت تقابله متى تشاء، وأين تحبّ، وهو لا ينهي المقابلة أبداً، بل أنت تنهيها حين تريد. وعطاء الله لا ينفد، وعطاء البشر ينفد: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ]النّحل: من الآية 96[، فالاستعانة بالصّلاة هي استعانة بالله، وهذا ما قاله أحد العابدين:

حسب نفسي عزّاً بأنّي عبدُ هو في قدسه الأعزّ ولكنْ                     . يحتفي بي بلا مواعيد ربُّ
أنا ألقاه متى وأين أحبُّ
.

فهذه عظمة الصّلاة والاستعانة بها وبالزكاة.

﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ولم يقل: وإنّهما لكبيرتان؛ لأنّ الغاية من كليهما واحدة، والغرض واحد، وهذا مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ]الجمعة: من الآية 11[، ولم يقل: انفضّوا إليهما؛ لأنّ الغاية واحدة، وإن كان اللّهو شيئاً والتّجارة شيئاً آخر، وهذا أسلوب القرآن العظيم. فمن هم الخاشعون؟

كان الإمام زين العابدين رضي الله عنه عندما يدخل إلى الصّلاة يصفرّ وجهه ويرتجف، فإذا سئل عن السّبب كان يقول: أتدرون بين يدي من أقف؟ وهو الخاشع الزّاهد. ونحن الآن نصلّي ونلتفت وتجول بنا الخواطر وننظر إلى هنا وهناك، وهذا ليس خشوعاً، والخشوع هو أن نعرف بين يدي من نقف.


(([1] جامع التّرمذيّ: كتاب صفة القيامة والرّقائق والورع، الحديث رقم (2453).

وَاسْتَعِينُوا: الواو عاطفة، استعينوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة معطوفة.

بِالصَّبْرِ: متعلقان باستعينوا.

وَالصَّلاةِ: معطوف على الصبر.

وَإِنَّها: الواو حالية، إن حرف مشبه بالفعل والهاء اسمها.

لَكَبِيرَةٌ: اللام لام المزحلقة وكبيرة خبر إن.

إِلَّا: أداة حصر.

عَلَى الْخاشِعِينَ: متعلقان بكبيرة. والجملة في محل نصب حال.

وَاسْتَعِينُوا: اطلبوا المعونة على أموركم بِالصَّبْرِ حبس النفس على ما تكره وَالصَّلاةِ

قال القرطبي وغيره: خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها، وكان عليه السّلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة

وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ: أي وإن الصلاة لشاقّة ثقيلة

الْخاشِعِينَ: الساكنين إلى الطاعة.