لم يسلم رسول الله ﷺ من سخرية الّذين كفروا واستهزائهم، وقد كانوا شديدي العداوة له، فيرمونه بأنظارهم غيظاً عليه وحقداً، فإذا قرأ القرآن الكريم تجدهم ينظرون إليه نظراً شديداً بالعداوة، يكاد يُزلقه؛ أي: يُسقِطه من شدّة النّظر.
﴿لَيُزْلِقُونَكَ﴾: من أزلقه عن موضعه، إذا نحّاه، والزّلق: هو السّقوط، والإزلاق: الإسقاط، فتجد من يبغض إنساناً ينظر إليه نظراً يتمنّى لو صرعه به، أو كما نقول: يأكله بنظره أكلاً.
وبعض العلماء قال: إنّ الإزلاق بالأبصار؛ أي: ما تفعله العين في المعيون؛ أي: المحسود، وقد كان العرب إذا أرادوا إيذاء أحد في نفسه أو ماله يأتون برجلٍ يمكث اليومين والثّلاثة لا يأكل شيئاً، ثمّ يرفع خيمته، فتمرّ به النَّعم والإبل فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه، فما تذهب إلّا قليلاً حتّى يسقط منها ما يسقط صريعاً.
وكانوا يكرهون سماع القرآن الكريم، ويكرهون مَن نزل عليه القرآن، ويكرهون مَن أنزل القرآن الكريم على محمّد ﷺ على وجه الخصوص، لهذا كان إزلاقهم لرسول الله ﷺ بأبصارهم إنّما كان حين يُقرأ عليهم القرآن الكريم، لذلك قال تعالى:
﴿لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ﴾: والذّكر المقصود هنا القرآن الكريم، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر]، وقال عز وجل في آيةٍ أخرى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النّحل: من الآية 44]، وهم سمعوا الذّكر، ولكنّهم لم يتعرَّضوا هنا للطّعن في الذّكر الّذي هو القرآن الكريم، بل تعرَّضوا بالطّعن للّذي سمعوا منه القرآن الكريم، فقالوا:
﴿إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾: وهذا من عمى بصيرتهم وضلالهم، وهم في آيةٍ أخرى يقولون كما أخبر تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾[الحجر].
ونلاحظ أنّ الحقّ تعالى بدأ هذه السّورة بالرّدّ على الكافرين الّذين رموا رسول الله ﷺ بالجنون، فقال تعالى: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وأنهى تعالى السّورة بالرّدّ أيضاً عليهم في نفس الفريّة، فقال تعالى: ﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾.