هناك آية أخرى تتعلّق بالسّجود، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾] الأعراف[.
وقد يتساءل العقل البشريّ: هل خُلقنا مع آدم؟ والجواب: نعم، الخطاب لكلّ بني آدم، من آدم عليه السَّلام إلى أن تقوم السّاعة على من بقي من ذريّته؛ لأنّنا معاشر بني آدم نحمل أجزاء من جزئيّات آدم عليه السَّلام بالوراثة.. والله تبارك وتعالى خاطب الجزئيّات؛ لأنّه هو الله سبحانه وتعالى، وحين أخذ جلَّ جلاله العهد على آدم.. كانت الشّهادة من ذريّته مكنونة فيه، وكلّ تناسل بين البشر يأتي بجزئيّات من آدم عليه السَّلام فعندما قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ﴾ أي: خلقناكم من صلب آدم عليه السَّلام ، ونُشير هنا إلى D.N.A والمورّثات.
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾: كيف يسجدون لآدم، والسّجود لا يكون إلّا لله سبحانه وتعالى؟ نقول: مَن الآمر بهذا؟ فالسّجود لأمرٍ هو سجود للآمر، والسّجود هنا هو سجود تحيّة وتعظيم، وقد لا يكون بالشّكل الّذي نعرفه نحن عن السّجود.
قال: ﴿فَسَجَدُوا﴾ ، ولم يقل: (سجدوا له)، فهم سجدوا لأمر الآمر وهو الله سبحانه وتعالى، ولم يسجدوا لآدم. وهذا مثل أمر الله سبحانه وتعالى لنا بالصّلاة تجاه الكعبة، فنحن لا نصلّي للكعبة ولا نسجد ولا نركع لها، وإنّما نسجد لله تعالى، وما قيمة الكعبة لولا أنّ الله سبحانه وتعالى هو الّذي أمرنا بأن نولّي وجوهنا شطرها حين نصلّي؟ والسّجود معناه الخضوع لأمر الآمر، والله عزَّوجل يقول: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا﴾، فهل عُمّم الأمر الإلهيّ على الملائكة جميعاً بالسّجود لآدم، أم هي مجموعة من الملائكة؟ الأمر كان لمجموعة من الملائكة، وهذه الملائكة لها علاقة بالعمل مع آدم عليه السَّلام ونستنتج ذلك من خلال آيات أخرى، مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار[، وقوله جلّ وعلا: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾] النّازعات[، فهناك ملائكة لها مهمّات مع بني آدم على الأرض.
وهنا في هذه الآية جمع من الملائكة من له صلة بابن آدم وذريّته فيما بعد في ساحة الملأ الأعلى. وهناك ملائكة تختلف مهمّاتهم، مثل: حملة العرش، فلا علاقة لهم بهذا الأمر، وهم (العالون)، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾] ص[. وقد سجد الملائكة الّذين أمروا بالسّجود طاعةً لله سبحانه وتعالى، وقد كرّم الله آدمَ بالعلم، وجعل رسالة الإسلام هي رسالة العلم والإيمان، فقال سبحانه وتعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾] المجادلة: من الآية 11[، فالجاهل بالعلم الدّينيّ والعلم الدّنيويّ لا يحقّ له أن يتصدّى لتفسير وشرح القرآن الكريم.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة بالسّجود لآدم تكريماً للعلم الّذي أعطاه إيّاه، ولحريّة الاختيار الّتي خصّه بها. أمّا الملائكة فهي مخلوقات نورانيّة لا تعصي الله جلَّ جلاله فيما أمرها، وتفعل ما تؤمر، وليس لها اختيار. أمّا الإنس والجنّ فهم مختارون بين أن يكونوا طائعين أو عصاة، أو كافرين، قال سبحانه وتعالى: ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾] الكهف: من الآية 29[، فكلّ دعوة للإسلام بالإجبار والإكراه هي دعوة باطلة، وكلّ الحركات الإرهابيّة والتّكفيريّة الّتي تزعم بأنّها تنتسب للإسلام لا علاقة لها بالنّص القرآنيّ، ولا بالفقه الإسلاميّ، ولا بما جاء به نبيّ الإسلام صلَّى الله عليه وسلَّم.
فالله سبحانه وتعالى ترك للإنسان حريّة الاختيار حين قال عزَّوجل: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾] الأحزاب: من الآية 72[، وهذه الأمانة هي أمانة الاختيار بين الكفر والإيمان، والطّاعة والمعصية. وعندما صدر الأمر الإلهيّ بأمر الملائكة بالسّجود.. يظهر لنا وجود إبليس مع الملائكة، فالملائكة لا يعصون ربّهم فيما أمرهم، واستثناء إبليس من جنس الملائكة استثناء منقطع؛ لأنّ إبليس ليس من جنسهم، هكذا أورد الله سبحانه وتعالى الخبر، وكلام الله هو كلام الخالق العالم من الأزل، الكاشف للأحداث، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ] الشّورى: من الآية 42[، ومجال عقلنا لا يحيط بكمالات جلال الله وصفاته.
وإذا كان إبليس موجوداً مع الملائكة الّتي ستتولّى شؤون الخلق على الأرض من حفظة وكتبة وغيرهم، فإنّ إبليس أيضاً ستكون له مهمّة، وهو اختار هذا الدّور باختياره، وعِلمُ الله سبحانه وتعالى أزليّ قديم، كاشف وليس مانعاً للاختيار. وكان إبليس موجوداً مع فريق الملائكة الّتي ستباشر عملها مع الإنسان. والسّؤال لماذا قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ وإبليس معهم، وهو أدنى مرتبة منهم؟ الجواب: أنّ خطاب المجموعة يكون باسم أصحاب المرتبة الأعلى، فلو أردنا مثلاً التّحدّث إلى مجموعةٍ من الوزراء وكان معهم معاونوهم، فالأمر الطّبيعيّ أن نقول: أيّها الوزراء، وحين يصدر الأمر للأعلى فإنّ الأدنى يُنفّذ معهم؛ لأنّ الأمر شمل الجميع. فالملائكة أعلى مقاماً من إبليس، إبليس من الجنّ، وكان طائعاً في ذلك الوقت، ولم يكن عاصياً، ولكنّه ﴿أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ﴾ حين أُمر بالسّجود؛ لأنّ له حريّة الاختيار. ولقد علمنا أنّه كان من الجنّ من الآية الّتي في سورة (الكهف): ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ ] الكهف: من الآية 50[، ومع وجود هذا النصّ لا مجال للاجتهاد.
عصى إبليس -لعنه الله-، وعصى آدم عليه السَّلام: ﴿وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ﴾ ]طه: من الآية 121[، ثمّ تاب عليه: ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ﴾ ]طه[، أمّا إبليس فقال الله عزَّوجل عنه إنّه رجيم: ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ ] الحجر[، فبماذا اختلفت معصية إبليس -لعنه الله- عن معصية سيّدنا آدم عليه السَّلام؟ الجواب: أنّ معصية إبليس كانت استكباراً، أمّا معصية آدم عليه السَّلام فكانت ضعفاً، فقد ردّ إبليس الأمر على الآمر، وهو الله سبحانه وتعالى، وكان سبب معصيته هو الكِبر، والاستكبار مفتاح الكفر، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾ ] الأعراف[، بينما يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾] النّساء: من الآية 28[، فالله عزَّوجل يتسامح مع من أذنبَ بسبب ضعفه، مثال: إن قلتُ لك: صلّ، فأجبتَ: أتمنى ذلك، لكنّ وقتي ودوامي وظروفي لا تسمح..، فهذا اسمه ضعف، أمّا لو قلتَ: لا يوجد شيء اسمه صلاة، فهذا ردّ الأمر على الآمر، وهو استكبار على الله عزَّ وجل وهذا هو الفرق بين معصية إبليس ومعصية آدم، فإبليس قد ردّ الأمر على الله جلَّ جلاله كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾] الأعراف: من الآية 12[، لذلك: ﴿أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾.
فإذاً هناك فرقٌ كبير، يقول الإمام الغزاليّ: (فرقٌ كبير بين من ضعفت إرادته في الحقّ، وبين مَن قويت إرادته في الباطل)، فمن ضعفت إرادته في الحقّ وارتكب ذنباً يمكن التّسامح معه، أمّا من أصرّ واستكبر فلا تسامح معه.. ومن هنا صار الاشتقاق من إبليس: أبلس: أي يئس من رحمة الله سبحانه وتعالى.