بعد كلّ تلك المنن والنّعم من الله عزَّوجل، وبعد أن تاب الله عليهم قالوا لسيّدنا موسى: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾، وهذه هي النّظرة المادّيّة لبني إسرائيل. ومن عظمة الله سبحانه وتعالى أنّه غيب: ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ ]الأنعام[، ولا يكون الإيمان بالمشاهدة الحسّيّة، ولا يسمّى إيماناً ما كان بالأشياء الحسيّة، فنحن لا نؤمن بالموجود المحسوس، فمثلاً لا أقول: أنا أؤمن بوجود هذا القلم الّذي في يدي، فهذه حقيقة، ولكن لو قيل لي: إنّ هناك قلماً خارج هذا المكان، فقد أومن بذلك وإن كان غائباً عن حواسّي إذا لمست وشاهدت كتابات وأنا في طريقي إلى هنا ولمست نتائج معيّنة تدلّ عليه، ولله المثل الأعلى، فهذه الأمثلة لتقريب الفكرة إلى الأذهان. فالإيمان لا يكون بشيء موجود أمامي فهذا شيء موجود بالعلم، أمّا الإيمان فإنّه يكون بما غاب عن حواسّي.
والله سبحانه وتعالى يقول لنا: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ ]الذّاريات[، والآيات الدّالّة عليه كثيرة، ومنها هذه الرّوح الّتي لا ندركها ولا نراها: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ ]الإسراء: من الآية 85[، وهناك كثير من الموجودات لا نراها ولا ندركها، وهذا لا يعني أنّها ليست موجودة، ففي الجوّ من حولنا جراثيم كثيرة لا نراها لكنّها موجودة ونلمس آثارها ويمكن رؤيتها بالمجاهر.. وهم يريدون الإله شيئاً مجسّداً أمامهم يرونه بالعين، فطلبوا رؤية الله سبحانه وتعالىجهرة بشكلٍ واضح ومحسوس، فقال عزَّوجل: ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾، وقد يقول قائل: إنّ سيّدنا موسى عليه السَّلام أيضاً طلب رؤية الله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ ]الأعراف: من الآية 143[، فما الفارق بين طلبه وطلب بني إسرائيل؟ والجواب: هو أنّ موسى عليه السَّلام قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾، فطلب الرّؤية من الله سبحانه وتعالى، هو يؤمن به، ولم يجعل الرّؤية شرطاً على الإيمان بالله سبحانه وتعالى. ولا تمكن رؤية الله سبحانه وتعالى في الدّنيا؛ لأنّ جسد الإنسان وحواسّه لها إدراكات محدودة تحكمها. واستعدادات الجسد في الدّنيا تختلف عن مقاييس رؤيته في الآخرة، وقد قال سبحانه وتعالى في وصف أهل الجنّة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ ]القيامة[.
وقد اخترع الإنسان آلاتٍ تريه ما لا تراه العين المجرّدة، فالنّظارات يستخدمها إذا ضعف بصره فيرى من خلالها بشكل جيّد، والله سبحانه وتعالى قادر على كلّ شيء، وكان يستطيع أن يُري وجهه الكريم لسيّدنا موسى، لكنّه أراد سبحانه وتعالى أن يؤدّب موسى عليه السَّلام فقال له: ﴿لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ ]الأعراف: من الآية 143[.
﴿لَن تَرَانِي﴾: فلا تطلب رؤيتي، ولكن انظر إلى أثري: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا﴾ ]الأعراف: من الآية 143[، فلم يستقرّ الجبل، وبمجرّد تجليّات الله على الجبل جعله دكّاً وخرّ موسى صعقاً.
أمّا بنو إسرائيل فقد قالوا: ﴿يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ وسيّدنا موسى عليه السَّلام لم ينكر الإيمان بالله سبحانه وتعالى عندما قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ ]الأعراف: من الآية 143[، إذ هو يؤمن بوجود الله سبحانه وتعالى، وبسبب محبّته لله تعالى أراد أن يكرم نفسه، وقد أكرمه الله سبحانه وتعالىب أن جعله كليماً له، فأراد الرّؤية، وطلب ذلك في تأدّب كبير وكان دقيقاً في طلبه: (أي إن تفضّلت أنت يا ربّ) ولم يقل مثلاً: اجعلني أنظر، فهو يعلم أنّ الرّؤية لا تكون إلّا من الله سبحانه وتعالى وبكلمة ﴿ كُنْ﴾ ، لكنّ الأمر قد حسم فلا أحد يرى الله عزَّوجل في هذه الدّنيا ولا حتّى الأنبياء عليهم السلام