إنّ هؤلاء المنافقين يشعرون بالضّيق والحصار، ويخافون أن يتكلّموا لوجودهم مع المسلمين، ولكنّهم لا يُعدِمون وسيلةً للتّعبير عن إشراكهم، فيغمز الواحد منهم بعينه، أو يشير إشارةً بيده، فإذا كانوا قد تساءلوا من قبل: ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾ فقد كان سؤالاً يتعلّق بالتّكاليف، أمّا في هذه الآية فليس فيها تكاليف جديدةٌ، بل كانوا يريدون أن يقولوا شيئاً، ولكنّهم لم يستطيعوا التّكلّم بأفواههم فتكلّموا بأعينهم ونظراتهم، فكأنّ النّظر نفسه كان فيه هذه العبارة: ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا﴾ فما أجمل التّعبير القرآنيّ، أحياناً انفعالات وجه الإنسان هي الّتي تعطي الإجابة وعدم الرّضا.
﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾: دليلٌ على أنّهم في خوفٍ من أن يضبطهم أحدٌ، وبعد ذلك يتسلّلون خارج دائرة الاستماع للقرآن الكريم أو الرّسول الكريم، فهم لا يستطيعون الاستماع إلى منطق الحقّ؛ لأنّه يلجم الباطل، والواحد منهم غير قادرٍ على الإعلان بأنّه كافرٌ، فينسحب وينصرف كلّ واحدٍ منهم، لذلك نجد أنّ بعضهم قد قال من قبل: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ ]فصّلت: من الآية 26[، وذلك نتيجةً لانصرافهم نفسيّاً إلى النّفاق، فيساعدهم سبحانه وتعالى على ذلك، فما داموا لا يعرفون قيمة الإيمان فليذهبوا بعيداً عنه.
﴿صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾: يقول الحقّ سبحانه وتعالى ذلك؛ لأنّهم انصرفوا عن الإيمان، والله سبحانه وتعالى هو مصرّف القلوب، فلا يقولنّ قائلٌ: ما ذنبهم والله سبحانه وتعالى هو مصرّف القلوب؟ الجواب: لقد انصرفوا، فصرف الله سبحانه وتعالى قلوبهم.
﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾: أي لا يفهمون، والفهم أوّل مرحلةٍ من مراحل الذّات الإنسانيّة، هناك فرقٌ بين الفهم والعلم، فالفهم هو امتلاك قدرةٍ على تفهّم ذاتيّة الأشياء لِـمَلَكةٍ في الشّخص، لكنّ العلم أنّك قد لا تفهم بذاتك، وإنّما يُفهمك غيرك ويُعلّمك، فأنت قد تعلم جزئيّةً لا من عندك ولكن من معلّمٍ لك، لكن قد يقول قائلٌ: ما داموا لا يفهمون ما ذنبهم؟ نقول: الّذي لا يفهم عليه أن يتقبّل التّعليم، لكنّ هؤلاء لم يفهموا ولم يتعلّموا، بل وأصرّوا على عدم قبول العلم.