﴿مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ﴾ يقصد من التّوراة، والمقصود هنا هو أن يؤمنوا بالقرآن الكريم الّذي جاء مصدّقاً لكلّ الرّسالات السّماويّة السّابقة.
وقد بشّر بهذه الرّسالة سيّدنا عيسى عليه السَّلام، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ [الصفّ[. فهم كفروا بكلّ الأنبياء، وكذّبوا كلّ الأنبياء، وخرجوا على كلّ الأنبياء. وموكب الرّسالات هو موكب واحد، قال الله تبارك وتعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ [الشّورى: من الآية 13[، والدّين لا يمكن أن يكون سبباً للتّفرقة؛ لأنّ الدّين واحد، والإله واحد. والله عزَّوجل أراد الرّحمة للنّاس جميعاً، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾] الأنبياء[. وأيّة دعوة تحرّض على بقيّة البشر بغضّ النّظر عن انتماءاتهم.. لا أصل لها، لأنّ الدّين دعوة إلى التّكاتف والمحبّة والخير للجميع.
﴿وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾: استخدم الخطاب القرآنيّ هنا كلمة: ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ﴾؛ لأنّ بني إسرائيل شعب مادّيّ، ولا يفهم إلّا بالخطاب المادّيّ كالبيع والشّراء، فقرّب الفكرة إلى أذهانهم من الجانب الّذي يفهمونه، والدّنيا كلّها ثمن قليل لمخالفة أوامر الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الإنسان ابن أغيار، لا يستمرّ على حال واحدة، فاليوم صحيح وغداً مريض، واليوم حيّ وغداً ميّت، والدّنيا زائلة، ومهما كان الثّمن فهو قليل إلى جانب النّعيم الخالد والدّائم في الآخرة، وعمر الإنسان كلّه قليل بالنّسبة إلى الخلود في الآخرة، فمن يغامر بهذه التّجارة الخاسرة وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ ]الصفّ[. والتّجارة الرّابحة هي التّجارة الّتي تبني فيها لتزداد، وتزرع لتحصد، ولا تبني لتفنى، وفي الدّنيا أنت تبني للفناء أنت ومالك، وكان سيّدنا عليّ كرّم الله وجهه يقول: (نعم الخادم المال، وبئس السيّد المال)، فلا تصبح خادماً للمال، وهو الّذي يجب أن يخدمك.
﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾: وهنا أيضاً قدّم المفعول به؛ لأنّ التّقوى لا تكون إلّا لله عزَّوجل. والتّقوى هي جوامع كلّ خير. وعبّر سيّدنا عليّ عن التّقوى بقوله: (التّقوى هي: الخوف من الجليل، والعمل بالتّنزيل، والرّضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرّحيل).
وعندما نقول: اتّق الله، أي اتّق صفات الجلال من الله، واتّق صفات غضب الله كي لا تدخل النّار، وكي تكون من السّعداء الفائزين.