﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾: كلمة يسيّركم تدلّ على أنّ الّذي يسيّر هو الله سبحانه وتعالى، لكنّنا نجد في القرآن الكريم آياتٍ تنسب السّير إلى البشر، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ ]الأنعام[، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ﴾ ]القصص: من الآية 29[، وقوله عز وجل: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾ ]سبأ: من الآية 18[، وقد توّهم بعضهم أنّ في ذلك تعارضاً، لكنّنا لو فطنّا إلى تعريف الفاعل عند أصحاب النّحو كيف يرفعونه لعرفنا كيف تكون المشيئة الإلهيّة، مثلاً: في اللّغة العربيّة حين نقول: نجح أحمد، فهل هو الّذي نجح؟ أو أنّ الّذي سمح له بالنّجاح شخصٌ آخر؟ المصحّح، الأستاذ، الّذي كتب الأسئلة، هم من سمحوا له بالنّجاح تقديراً لإجاباته، لكن هنا الفاعل يأتي أنّه أحمد، وأحمد لم ينجح بنفسه، كذلك في اللّغة عندما تقول: مات فلانٌ، ما إعراب مات؟ مات: فعلٌ ماضٍ، فلانٌ: فاعلٌ، فهل فلانٌ فعل الموت بنفسه؟ الجواب: إنّ الموت وقع عليه واتّصف به؛ لأنّ تعريف الفاعل هو اسمٌ يدلّ على مَن فعل الفعل أو اتّصف به، وهنا إذا أردنا أن ننسب الأشياء إلى السّببيّة، قلنا بالسّبب: سار الإنسان، لكن بالحقيقة هل يستطيع أن يسير لولا أنّ الله سبحانه وتعالى سيّره وجعل له الأقدام الّتي يسير عليها أو الفلك أو السّيارات أو … إلخ؟ فأيّ حركةٍ للإنسان تعود إلى الله سبحانه وتعالى، وكلّ أسباب الوجود إن نظرنا إليها مباشرةً وجدناها منسوبةً إلى من هو فاعلٌ لها بشكلٍ مباشرٍ، لكن إن تتبّعنا السّبب وجدنا أنّها تُنسب إلى الله جل جلاله، فإذا سألك أحدهم: مَن صنع الكرسيّ؟ تُجيب: النّجّار، وإذا سألت النّجّار: مِن أين أتيت بالخشب؟ فيقول: مِن التّاجر، فتسأل التّاجر: مِن أين استوردت الخشب؟ يقول: مِن بلاد الغابات.. وهكذا، إذاً تسلسل كلّ حركةٍ في الوجود لا بدّ أن ينتهي إلى واجب الوجود وهو الله سبحانه وتعالى، نحن نقرأ في القرآن الكريم قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ﴾ ]النّجم[، فسبحانه خلق الضّحك والبكاء، والسّير في البرّ والبحر كلاهما مختلفٌ عن الآخر، فالسّير في البرّ شيءٌ وفي البحر شيءٌ آخر، فإذا سار الإنسان في الأرض على اليابسة وانقطعت به السّبل، فيمكن أن يستصرخ أحداً من المارّة أو ينتظر حتّى يأتي أحدٌ ويساعده، أمّا المرور في البحر فهو أصعب وأخطر إذ لا توجد فيه طرقٌ ولا أناسٌ، ولا يمكن أن يستصرخ أحداً، لذلك نجد أنّ الله سبحانه وتعالى في هذه الآية قال: ﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ﴾ فتحدّث عن السّير في البحر وترك البرّ؛ لأنّ البحر أصعب.
﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ﴾: الفلك: هي السّفن، وتأتي مرّةً مفردةً ومرّةً بالجمع، والوزن واحدٌ في الحالّتين، فعندما تحدّث سبحانه وتعالى عن سيّدنا نوح عليه السلام قال: ﴿ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ﴾ ]هود: من الآية 37[، فهي سفينةٌ واحدةٌ سمّاها فلكاً، هذه الحالة لها نظائر في اللّغة العربيّة مثل: أُسد، تأتي بالإفراد وبالجمع.
﴿ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾: يصف الرّيح هنا بأنّها طيّبةٌ، والقرآن الكريم بطبيعة أسلوبه حين يتكلّم عن الرّيح بلفظ الإفراد يكون المقصود بها العذاب، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ]الأحقاف[، وإذا تكلّم عنها بلفظ الجمع فهي للرّحمة، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ ]الحجر: من الآية 22[، ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ ]الأعراف: من الآية 57[، ونجد أنّ القرآن الكريم فصّل أمر الرّياح وأوضح مهمّتها، فمثلاً الأبنية الضّخمة مثل ناطحات السّحاب لا تثبت بمكانها إلّا نتيجة توازن تيّارات الهواء من حولها؛ أي الرّياح تأتي من أكثر من اتّجاه، فإن حدث تفريغٌ للهواء باتّجاه جانبٍ من جوانب البناء ينهار، هذا ما نراه الآن بطريقة الهدم، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ يمكن أن تُفسّر هنا بالسّفن الشّراعيّة الّتي تسير بالهواء المتجمّع في أشرعتها، ولكن مع حدوث تقدّمٍ في صناعة السّفن تعدّى الشّراع، وانتقل إلى البخار ثمّ إلى الكهرباء، فإنّ كلمة الحقّ سبحانه وتعالى فيها إعجازٌ، فهي تستوعب مراحل الارتقاء بالاختراعات البشريّة؛ لأنّ كلمة الرّيح وردت في القرآن الكريم بمعنى القوّة أيّاً كانت، هواءً أو محرّكاً يسير بأيّ طاقةٍ، ذريّةٍ أو نوويّةٍ أو كهربائيّةٍ، والدّليل على ذلك قول الحقّ سبحانه وتعالى : ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ ]الأنفال: من الآية 46[؛ أي قوّتكم، فإعجاز القرآن الكريم في الكلمة الّتي جاءت بها تستوعب العقول البشريّة في العهود القادمة وتطوّر العلم، ولا تصادم العقل البشريّ وقت النّزول، وهذا القول الكريم يضمّ ثلاث وقائع: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا﴾ الوجود في الفلك هذه واحدةٌ، الثّانية جريان الفلك بريحٍ طيّبةٍ، ثمّ الفرح بها، هذه ثلاثة أشياء جاءت في فعل الشّرط، ثمّ يأتي جواب الشّرط فيه ثلاثة أشياء أيضاً، أوّل هذه الأشياء في جواب الشّرط: ﴿ جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ﴾ الثّاني: ﴿ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ﴾، الثّالث: ﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾.
﴿رِيحٌ عَاصِفٌ﴾: هي الرّيح المدمّرة والمغرقة.
﴿ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾: الموج عمليّاً يأتي من الأسفل، والرّيح تأتي من الأعلى فترفع الموج ليدخل إلى السّفينة، ويقاس ارتفاع الموج كلّ يومٍ حسب قوّة الرّيح، فحين تكون الرّيح خفيفةً يظهر سطح مياه البحر مجعّداً، وحين تكون الرّيح ساكنةً نجد صفحة المياه مبسوطةً، وقد جاءتهم الرّيح العاصف فازداد عنف الموج.
﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾.: نتيجة ازدياد عنف الموج ظنّوا أنّهم قد أُحيط بهم وانتهوا؛ أي غرقوا، والإحاطة: هي عدم وجود منفدٍ للفرار، لذلك نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يتكلّم عن الكافرين بقوله: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ ]البقرة: من الآية 19[، فليس هناك منفدٌ يفلتون منه، وفي هذه الآية لحظة الظّنّ أنّهم قد أُحيط بهم يبدؤون بالدّعاء، ويتركون حالة الاعتزاز بأنفسهم، ويتّجهون إلى الله سبحانه وتعالى الّذي أنكروه، ففي لحظة الخطر لا يمكن لأحدٍ أن يكذب على نفسه أو يخدعها، ولذلك نجد سيّدنا الإمام جعفر الصّادق رضي الله عنه في حوارٍ بينه وبين سائلٍ سأله عن الله سبحانه وتعالى، قال الإمام للسّائل: ألم تركب البحر؟ فقال: بلى، قال: هل حدث مرّةً أن هاجت بكم الرّيح عاصفة؟ قال: نعم، قال: وانقطع الأمل بالملّاحين ووسائل النّجاة؟ قال: نعم، قال: فهل خطر ببالك وانقدح في نفسك أنّ هنالك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟ قال: نعم، قال الإمام جعفر: فذلك هو الله. كذلك هؤلاء الّذين كفروا بالله سبحانه وتعالى لجؤوا إليه حين عصفت بهم الرّيح وعلا عليهم الموج.
﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾: هذا يعني أنّهم لم يدعوه فقط، بل دعوه بإخلاصٍ، وأقرّوا بوحدانيّته تبارك وتعالى، وأنّه لا شريك له؛ لأنّهم يعلمون أنّ هذا الشّريك لن ينفعهم بهذه الحالة أبداً.