الآية رقم (1) - ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ

﴿ ن : من الأحرف المقطّعة، وحروف اللّغة العربيّة ثمانية وعشرون حرفاً نصفها أربعة عشر حرفاً، وهو عدد الحروف المقطّعة في فواتح السّور، وقد يوجد منها في أوّل السّورة حرفٌ واحدٌ، مثل: ﴿ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق]، وكذلك قوله تعالى: ﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص]، وكذلك قوله عز وجل هنا: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، ومرّةً يأتي من الحروف المقطّعة اثنان، مثل قوله تعالى: ﴿حم [الأحقاف]، ومرّةً يأتي ثلاثة حروف مقطّعة، مثل: ﴿الم[البقرة]، ومرّةً يأتي الحقّ تعالى بأربعة حروف مقطّعة، مثل قوله عز وجل: ﴿المص [الأعراف]، ومرّةً يأتي بخمسة حروف، مثل قوله تعالى: ﴿كهيعص [مريم]، ونلاحظ أنّ الحرف في السّور البادئة بحرفٍ واحدٍ ليس آية، ولكنّنا نقرأ قول الحقّ تعالى: ﴿حم [الشّورى]، وهي آية، وكذلك نقرأ قول الحقّ تعالى: ﴿عسق [الشّورى]، كآية مع أنّها حروفٌ مقطّعة، ونقرأ قول الحقّ تعالى: ﴿كهيعص  [مريم]، كآيةٍ بمفردها، ونقرأ: ﴿طس في أوّل سورة النّمل ملتحمة بما بعدها في آيةٍ واحدةٍ: ﴿طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ[النّمل]، وإذا رأينا هذه الحروف المقطّعة فلنعلم أنّ الحقّ تعالى نطق بها بأسماء الحروف، ونحن نتكلّم بمسمّيات الحروف لا بأسمائها.

وقد تدلّ هذه الحروف المقطّعة على اسمٍ من الأسماء، مثل: ﴿طه [طه]، فـ: (طه) اسمٌ من أسماء رسول الله ,، ومثل: ﴿ن حرفٌ، وهو اسمٌ للحوت، قال تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا [الأنبياء: من الآية 87]، و﴿ق [ق]، حرفٌ، وهو اسمٌ لجبلٍ اسمه جبل قاف.

وسرّ الإعجاز في القرآن الكريم أن تكون مادّته ومادّة غيره من الكلام واحدة، حروفاً وكلمات؛ لذلك كثيراً ما يقول الحقّ تعالى بعد الحروف المقطّعة: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [يوسف: من الآية 1]؛ أي: أنّ الكتاب المبين مكوّنٌ من مثل هذه الحروف الّتي تستخدمونها، وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى: ﴿طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ [النّمل]. ولكلّ حرفٍ من الحروف المقطّعة مفتاحٌ وأسرارٌ، وقد قيل كثيراً حول الحروف المقطّعة، فهذه الحروف مبنيّة على الوقف: ألفْ لامْ ميمْ هكذا بالسّكون، ولم يقل: ألفٌ لامٌ ميمٌ على الوصل؛ لذلك يقول النّبيّ ,: «مَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: ﴿الم﴾ حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ»([1])، وهذه الحروف خامات القرآن الكريم، فَمِن مثلها يُنسَج كلام الله تعالى، وإن أردتَ أن تميّز مهارة النّسج عند بعض العمّال مثلاً، لا تعطي أحدهم قطناً والآخر صوفاً والآخر حريراً مثلاً؛ لأنّك لا تستطيع التّمييز بينهم باختلاف الخامات، فالحرير بطبيعته سيكون أنعم وأرقّ، وإنّما تُوَحِّد المادّة الخام عند الجميع.. فكأنّ الله تعالى يقول لنا: القرآن الكريم معجزٌ، بدليل أنّكم تملكون حروفه ذاتها، ومع ذلك عجزتم وستعجزون عن معارضته، وعن الإتيان بمثله، أو سورةٍ من مثله، فقد استخدم القرآن الكريم حروفكم وكلماتكم وألفاظكم ذاتها، وجاء بها في صورةٍ بليغةٍ عزَّ عليكم الإتيان بمثلها، فقد نزل بأسلوبٍ عربيٍّ، وتحدّى العرب وهم أصل الفصاحة والبلاغة والبيان، وأصحاب التّعبير الجميل والأداء الرّائع، ونزل في قريش الّتي جمعت في لغتها لغات القبائل العربيّة كلّها، وقد خرج منها صناديد كذَّبوا محمّداً , وكفروا بدعوته، فهل سمعنا منهم مَنْ يقول مثلاً: ما معنى: ﴿الم أو ﴿حم ؟ والله لو كان فيها مَطْعَن ما تركوه، فهذا دليلٌ على أنّهم فهموا هذه الحروف، وعرفوا أنّ لها معنىً عميقاً.

وقلنا: إنّ هذه الحروف الأربعة عشر مجموعة في عبارة: نصٌّ حكيمٌ له سرٌّ قاطع.

﴿ن: أخذها بعضهم على أنّها الحوت، فالنّون من أسماء الحوت، وجمعه: (نينان)، كحوت وحيتان، لذلك سُـمِّيَ به يونس عليه السلام، فقال تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا  [الأنبياء: من الآية 87].

﴿ وَالْقَلَمِ: قسمٌ بالقلم، والواو هنا واو القسم، وللحقّ تعالى أن يُقسم بما يشاء على ما يشاء، والقسم يأتي لتأكيد المقسَم عليه بالمقسَم به، وتأكيد المقسَم عليه إنّما يأتي؛ لأنّ هناك مَنْ يَشكّ فيه، وقد أقسم تعالى بكثيرٍ من الأمور في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَالطُّورِ [الطّور]، وقال عز وجل: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ [البلد]… إلخ من الآيات الّتي أقسم بها الله تعالى، وقد يقول قائلٌ: كيف يقول تعالى: ﴿ لَا أُقْسِمُ [البلد: من الآية 1]، ثمّ يأتي بجواب القسم؟ الجواب: لقد جاء هنا بقوله: ﴿ لَا أُقْسِمُ [البلد: من الآية 1]، وكأنّه يوضِّح ألّا حقّ لكم في الإنكار، ولذلك ما كان يصحّ أن أُقسم لكم، ولو كنت مُقسِماً لأقسمتُ بكذا وكذا.

والله تعالى قد أقسم بالشّمس وبمواقع النّجوم، وبالنّجم إذا هوى، فهو الخالق العليم بكلّ ما خلق، ولا يعرف عظمة المخلوق إلّا خالقه، وهو العالم بمهمّة كلّ كائنٍ خلقه، وقد أمرنا ألّا نُقسِم إلّا به تعالى.

ويأتي القسم لتأكيد المعنى، ولذلك يقول أحد الصّالحين: مَنْ أغضب الكريم حتّى ألجأه أنْ يُقسِم؟، والحقّ تعالى هنا يُقسِم بالقلم، والقلم يُطلَق على القلم الّذي نكتب به، لذلك قال تعالى هنا: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ ، ويُطلَق القلم أيضاً على القِداح الّتي كانوا يقترعون بها إذا اختلفوا على شيء، قال تعالى: ﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ [آل عمران: من الآية 44]، وقد ذكر الحقّ تعالى القلم مجموعاً في آيةٍ أخرى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان]، والأقلام إنّما كانت تؤخَذ من الأشجار ذات الأغصان والفروع، ولا تُؤخَذ من النّبات الّذي ليس له ساق، مثل العشب.

﴿وَمَا يَسْطُرُونَ: أي: يكتبون، وبعض العلماء قال: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ؛ أي: ما تكتبه الحفظة من أعمال بني آدم، فقوله تعالى ﴿يَسْطُرُونَ: المقصود به الملائكة، وغيرهم قالوا: ما تولّى الله تعالى لعباده من الكتابة الّتي فيها منافع الخلق ومصالح العباد والبلاد.

([1]) سنن التّرمذيّ: أبواب فضائل القرآن، بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنَ القُرْآنِ مَا لَهُ مِنَ الأَجْرِ، الحديث رقم (2910).

«ن» حرف لا إعراب له

«وَالْقَلَمِ» جار ومجرور متعلقان بفعل قسم محذوف تقديره أقسم

«وَما» اسم موصول معطوف على ما قبله

«يَسْطُرُونَ» مضارع وفاعله والجملة صلة.

 

{وَالْقَلَمِ} … قَسَمٌ بِالقَلَمِ الَّذِي تَكْتُبُ بِهِ المَلَائِكَةُ، وَالنَّاسُ.

 {وَمَا يَسْطُرُونَ} … وَالَّذِي يَكْتُبُونَهُ بِالقَلَمِ