انظر لدقّة الأداء والتّبليغ، قال الله سبحانه وتعالى للرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿قُل﴾، فقال النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿قُل﴾، ولم يحذف كلمة: ﴿قُل﴾، وهذا من أمانة التّبليغ؛ لأنّه قال له: ﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ فكلّ حرفٍ سيبلّغه دون زيادةٍ ولا نقصانٍ.
﴿قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾: ما أعظم هذه الآية، فمن طبع الإنسان أنّه يقرّ أنّ الطّيّب طيّبٌ، والخبيث خبيثٌ، وعندما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾، إذاً هناك فئةٌ من النّاس سيُعجبهم كثرة الخبيث، وأهمّ ما يُعجب النّاس من كثرة الخبيث هو كثرة المال الحرام، بغضّ النّظر عن كونه طيّباً أو غير طيّبٍ، ففي أيّام أبي جعفر المنصور زمن الخلافة العبّاسيّة كان هناك شيخٌ، وكان واعظاً ومشهوراً في ذلك الوقت يسمّى مقاتل بن سليمان، فقال له أبو جعفر المنصور -وعنده أناسٌ-: عظني، فقال: يا أمير المؤمنين، مات عمر بن عبد العزيز وقد ترك أحد عشر ولداً، وخلّف ثمانية عشر ديناراً، كُفّن منها بخمسة، واشتروا له قبراً بأربعة، وقُسّم الباقي وهو تسعة دنانير على أحد عشر ولداً من أولاد عمر بن عبد العزيز، قال: يا أمير المؤمنين، ومات هشام بن عبد الملك، فكان نصيب إحدى زوجاته الأربع ثمانين ألف دينار، بالإضافة إلى الضّيع والقصور، وكان نصيب الزّوجات الأربع ثلاثمئةٍ وعشرين ألف دينار، والله الّذي لا إله إلّا هو يا أمير المؤمنين، لقد رأيت بعينيّ هاتين في يومٍ واحدٍ ولداً من أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على مئة فرسٍ في سبيل الله، وولداً من أولاد هشام بن عبد الملك يسأل النّاس في الطّريق، هذا هو تفسير قوله جلّ وعلا: ﴿قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾، هذا هو الفارق بين الخبيث والطّيب.