﴿قُلْ أَنْزَلَهُ﴾: أي: القرآن الكريم، أنزله مرّة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، ثمّ نزل مُنَجّماً.
﴿الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: فلا تظنّ أنّك بمجرّد خَلْقك قدرْتَ أن تكشف أسرار الله تعالى في كونه، إنّما ستظلّ هناك أسرار إلى قيام السّاعة لا نعرفها، وكلّما اكتشفنا سرّاً وقفنا عند سرّ آخر؛ لأنّ الحقّ تعالى يريد أن يُبطل هذه المدّعيات، ويأتي بأشياء غيبيّة، لم تكن تخطر على بال المعاصرين لسيّدنا رسول الله ﷺ، ثمّ تتّضح هذه الأشياء على مَرِّ القرون، مع أنّ القرآن الكريم نزل في أُمّة أمّيّة، والرّسول الكريم الّذي نزل عليه القرآن الكريم رجل أمّيّ، ومع ذلك يكشف لنا القرآن الكريم كلّ يوم عن آية جديدة من آيات الله عزَّ وجلَّ، كما قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصّلت: من الآية 53]، والحقّ تعالى يكشف لرسوله ﷺ شيئاً من الغيبيّات، ليراها المعاصرون له، ليلقم الكفّارَ الّذين اتّهموه حجراً، فيكشف بعض الأسرار كما حدث في بدر، حيث وقف النّبيّ ﷺ في ساحة المعركة بعد أن عرف أنّ مكّة ألقتْ بفلذات أكبادها وسادتها في المعركة، وقف يشير بعصاه إلى مصارع الكفّار، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، كَانَ يُرِينَا مَصَارِعَ أَهْلِ بَدْرٍ، بِالأَمْسِ، يَقُولُ: «هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَداً، إِنْ شَاءَ اللهُ»، قَالَ عُمَرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ مَا أَخْطَئُوا الحُدُودَ الَّتِي حَدَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ([1])، ومَنِ الّذي يستطيع أن يحكم مسبقاً على معركة فيها كَرٌّ وفَرٌّ، وضَرْب وانتقال وحركة، ثمّ يقول: سيموت فلان في هذا المكان، والوليد بن المغيرة الّذي قال عنه القرآن الكريم: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾[القلم]، يعني: ستأتيه ضربة على أنفه تَسِمُه بسِمَة تلازمه، وبعد المعركة يتفقّده القوم فيجدونه كذلك، هذه كلّها أسرار من أسرار الكون، يُخبِر بها الله تعالى رسوله ﷺ، والرّسول ﷺ يُخبِر بها أمّته في غير مظنَّة العلم بها. فالمعنى: قل يا محمّد في الرّدّ عليهم ولإبطال دعواهم: ﴿الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وسوف يفضحكم ويُبطِل افتراءكم على رسول الله ﷺ من قولكم: إفك وكذب وافتراء وأساطير الأوّلين، وسوف يُخْزِيكم أمام أعْينِ النّاس جميعاً، وعلى عهد رسول الله ﷺ قامتْ معركة بين الفُرْس والروم غُلبت فيها الرّوم، فأنزل الله تعالى عليه: ﴿الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾[الرّوم]، فأيُّ عقل يستطيع أنْ يحكم على معركة ستحدث بعد عدّة سنوات؟ لو أنّ المعركة ستحدث غداً لأمكن التّنبّؤ ببعض نتائجها، بناءً على حساب العَدد والعُدّة والإمكانات العسكريّة، لكن مَنْ يحكم على معركة ستدور رحاها بعد سبع سنين؟ ومَنْ يجرؤ أن يقولها قرآناً يُتْلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة، فلو أنّ هذه المدّة مرَّت، ولم يحدث ما أخبر به رسول الله ﷺ لكفَر به مَنْ آمن، وانفضَّ عنه مَنْ حوله، فما قالها رسول الله ﷺ قرآناً يُتْلَى ويُتعبَّد به إلّا وهو واثق من صِدْق ما يُخبر به؛ لأنّ الّذي يخبره ربّه عزَّ وجلَّ الّذي يعلم السّرَّ في السّموات والأرض؛ لذلك قال هنا الحقّ تعالى: ﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وما دام أنّ الّذي أنزل القرآن الكريم هو تعالى الّذي يعلم السِّرّ في السّموات والأرض، فلن يحدث تضارب أبداً بين منطوق القرآن الكريم ومنطوق الأكوان؛ لأنّ خالقهما واحد تعالى فمن أين يأتي الاختلاف أو التّضارب؟
﴿إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾: فما مناسبة الحديث عن المغفرة والرّحمة هنا؟ قالوا: لأنّ الله تعالى يريد أن يترك لهؤلاء القوم الّذين يقرّعهم مجالاً للتّوبة وطريقاً للعودة إليه عزَّ وجلَّ وإلى ساحة الإيمان، وفي الحديث الشّريف: فَنَادَاهُ مَلَكُ الجِبَالِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَقد سمع قَول قَوْمك لَك وماردّوا عَلَيْكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بَلْ أَستَأْنِي بِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً»([2])، وكان الصّحابة يألمون أشدّ الألم، إنْ أفلتَ أحد رؤوس المشركين من القتل في المعركة، كما حدث مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص قبل إسلامهما، وهم لا يدرون أنّ الله تعالى كان يدَّخِرهم للإسلام فيما بعد، فقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ حتّى لا يقطع سبيل العودة إلى الإيمان بسيّدنا رسول الله ﷺ على مَنْ كان كافراً به، فيقول لهم: مع ما حدث منكم، إنْ عُدْتم إلى الجادّة وإلى حظيرة الإيمان ففي انتظاركم مغفرة الله تعالى ورحمته، ولـمّا قال أحدهم لسيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: هذا قاتل أخيك -يشير إليه- والمراد زيد بن الخطّاب، فما كان من عمر رضي الله عنه إلّا أن قال: وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام؟.
([1]) صحيح مسلم: كتاب الجَنَّةِ وَصِفَةِ نَعِيمِهَا وَأَهْلِهَا، باب 17، الحديث رقم (2873).