فهؤلاء اتّفقوا على قطف ثمار بستانهم في الصّباح، ولم يقولوا: إن شاء الله، فدمّرها الله تعالى وأهلكها وهم نائمون، وفي الصّباح انطلقوا إلى جنّتهم وهم يقولون فيما بينهم: ﴿ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ﴾، وهكذا قطعوا الطّريق على أنفسهم حينما حرموا المساكين: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾، ثمّ تنبّهوا إلى ما وقعوا فيه من خطأ، وعادوا إلى صوابهم، فقالوا: ﴿عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ﴾، فهؤلاء لـمّا وقفوا أمام جنّتهم في الصّباح ورأوها قد احترق ثمرها وحرثها وشجرها، ظنّوا أنّهم قد ضلّوا الطّريق إلى جنّتهم، فالضّلال المقصود هنا هو التّيه؛ أي: أنّهم تاهوا عن جنّتهم، لذلك قال بعضهم: أخطأنا الطّريق، ما هذه بجنّتنا، فلقد تركوها بالأمس عامرة بالثّمار، واليوم وجدوها حطاماً وشجراً محترقاً يعلوه السّواد، قد احترقت الثّمار الّتي كانوا يريدون قطعها وصَرْمِها في الصّباح من غير أن يُعطوا الفقراء حقّهم من الحصاد الّذي كانوا يأخذونه سابقاً، لذلك شكّوا أن تكون هذه جنّتهم الّتي رأوها بالأمس وظنّوا أنّهم تاهوا في الطّريق إليها، وأنّ هذه جنّة غير جنّتهم، ولكنّ بعضهم قالوا: ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾، مؤكّدين أنّها جنّتهم فعلاً، وأنّهم لم يضلّوا الطّريق إليها، بل إنّها الحقيقة ماثلة أمامهم، هي جنّتهم وهم حُرِموا خيرها وحُرِموا من ثمرها بسبب نيّتهم السّيّئة في عدم إعطاء الفقراء حقّهم، فكان عقابهم حرمانهم من ثمار جنّتهم أصلاً.
﴿مَحْرُومُونَ﴾: المحروم: الّذي يُصاب زرعه أو ثمره أو نسل ماشيته، فيكون له حقّ على مَن لم يصبه ذلك من النّاس، وهنا لفتة عجيبة فهم قد أصبحوا محرومين؛ أي: مستحقّين للزّكاة، وكأنّهم بعد أن كانوا أصحاب مال يتمثّل في جنّتهم، وكانوا أغنياء عن أن يمدّوا أيديهم للنّاس، تحوّلوا إلى فقراء يستحقّون عطف الآخرين عليهم، لقد أنكروا على الفقراء حقّهم في زرعهم وزكاتهم وحصادهم، فما بالهم اليوم؟ لقد غفلوا عن حكمة الزّكاة والصّدقة، وإعطاء الفقير ممّا رزقهم الله عز وجل، فالضّعيف حين يجد نفسه في مجتمعٍ متكافل ويجد صاحب القوّة قد عدّى من أثر قوّته وحركته إليه، فإنّه لا يحقد عليه؛ لأنّ خيره يأتيه، لذلك نقول للّذين يصلون إلى المرتبة العالية في الغنى أو الجاه أو أيّ مجال: احذروا حين تتمّ لكم النّعمة؛ لأنّ النّعمة إن تمّت لكم عُلُوّاً وغنى وعافية وأولاداً، فيجب أن تعلموا أنّكم من الأغيار، وما دامت النّعمة قد تمّت وصارت إلى النّهاية وأنتم لا شكّ من الأغيار، فإنّ النّعمة لا بدّ أنّها ستتغيّر إلى الأقلّ، فإذا ما صعد إنسانٌ إلى القمّة وهو مُتغيّر فلا بدّ أن ينزل عن هذه القمّة، ولذا يقول الشّاعر:
إذا تمّ شيءٌ بَدَا نقصُه ترقَّبْ زَوالاً إذا قِيلَ: تَـمّ
وخيرات الحياة من مال وثروة إنّما تأتي نتيجة الحركة في الحياة، وحركة المتحرّك في الحياة تقتضي قدرة، فإذا كان الإنسان عاجزاً ولا يجد القدرة على الحركة، فمن أين يعيش؟ إنّ الله تعالى لا بدّ أن يضمن له في حركة القادر ما يعوله، لقد جعل الله تعالى الزكاة عوضاً للفقير وحقّاً في مال الأغنياء الّذي هو مال الله عز وجل، وقد قال رسول الله ﷺ لأنس بن مالك رضي الله عنه: «وَيْلٌ لِلْأَغْنِيَاءِ مِنَ الْفُقَرَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا، ظَلَمُونَا حُقُوقَنَا الَّتِي فُرِضَتْ لَنَا عَلَيْهِمْ، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَأُدْنِيَنَّكُمْ وَلَأُبَاعِدَنَّهُمْ»، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾[المعارج]([1])، وقد كان رجلٌ من أهل اليمامة له مال، فجاء سيلٌ فذهب بماله، فقال رجل من أصحاب النّبيّ ﷺ: هذا المحروم فاقسموا له([2])، فالمحروم ضدّ المرزوق، فهم ممنوعون من الانتفاع بثمرة كدِّهم وتعبهم؛ لأنّهم أرادوا قطع الثّمر وألّا يُعطُوا للفقراء حقّهم، فهؤلاء انقلب حالهم من الغنى إلى الفقر، وأصبحوا محرومين مُستحقِّين للصّدقة والزّكاة بسبب نيّتهم وإرادتهم السّيّئة.
وهنا بدأ الإخوة يتلاومون، ويحاول كلّ منهم التّملّص من مسؤوليّة ما حدث، فيقول الحقّ تعالى عنهم:
([1]) المعجم الأوسط للطّبرانيّ: باب العين، من اسمه عبيد، الحديث رقم (4813).