جاء قوله تعالى هنا ليسلّي قلب نبيّه ﷺ، موضحاً له: إنّهم يُكذِّبونك ويكفرون بالله عز وجل وبك وبالنّور الّذي أنزلناه معك، وقد ترغب في أن ترى أثر هذا لكنّنا سنأخذهم، وجعلنا لكلّ مسألة كتاباً.
﴿فَاصْبِرْ﴾: أي: لا تُرهِق نفسك، فسيأتي لهؤلاء الجاحدين يومهم الّذي يُؤَاخذون فيه بسوء أعمالهم، والصّبر قد يكون ميسوراً سهلاً في بعض المواقف، وقد يكون شديداً وصعباً ويحتاج إلى مجاهدة، فمرّة يقول الحقّ تعالى لرسوله ﷺ: اصبر، ومرّة يقول: اصطبر، فعندما يقول له: اصبر، فيكون على مثل قولهم له: ساحر، وقولهم: شاعر، وقولهم: مجنون وكاهن، كما قالوا عن القرآن الكريم: أضغاث أحلام، وقالوا: أساطير الأوّلين، فاصبر يا محمّد على هذا كلّه؛ لأنّ كلّ قول من أقوالهم يحمل معه دليل كذبهم، فدعك يا محمّد من هؤلاء المكذّبين، واثبت على ما أنت عليه، اصبر على كُرههم، واصبر على لددهم وعنادهم، واصبر على إيذائهم لك ولِـمَنْ يؤمن بك، اصبر على هذا كلّه؛ لأنّ العاقبة في مصلحتك، وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ [الرّوم].
﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾: فاصبر يا محمّد لقضاء ربّك وحكمه فيك وفي هؤلاء المشركين، ولا يُثنيك عن تبليغ ما أُمِرت بتبلغيه تكذيبهم إيّاك وأذاهم لك.
﴿وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾: ولا تكن يا محمّد كصاحب الحوت في العجلة وعدم الصّبر على قومه، وصاحب الحوت هو النّبيّ يونس بن متّى عليه السلام، وهو ذو النّون، والنّون من أسماء الحوت، وجمعه: (نينان) كحوتٍ وحيتان، والحقّ تعالى يقول: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾[الأنبياء]، فاسم النّبيّ يونس عليه السلام ارتبط واقترن بالحوت الّذي ابتلعه، بعد ما دعا قومه إلى الإيمان بالله عز وجل، ولكنّهم كفروا به فأغضبوه وغضب منهم، وكان المفروض أن يتحمّل الأذى الصّادر منهم، وأن يُوَطِّن نفسه على مواجهة مشقّات الدّعوة، ونحن نعلم أنّ العبد الصّالح يونس عليه السلام قد تأثّر وحزن وغضب من عدم استجابة قومه لرسالته الإيمانيّة، حيث رأوا غيماً يملأ السّماء وعواصف، وألقى الله تعالى في خواطرهم أنّ هذه العواصف هي بداية عذاب الله تعالى لهم، فهُرعوا إلى ذوي الرّأي فيهم، فأشاروا عليهم بأنّ هذه هي بوادر العذاب، وقالوا لهم: عليكم بإرضاء يونس؛ لأنّ الله تعالى هو الّذي أرسله، فآمنوا به ليكشف عنكم الغمّة، وهرع النّاس إلى الإيمان بالحيّ الّذي لا يموت، وذهب قوم يونس عليه السلام لاسترضائه بعد عودته من محنة التقام الحوت له، وحين رضي عنهم بدؤوا ينظرون في المظالم الّتي ارتكبوها، حتّى إنّ الرّجل منهم كان ينقض ويهدم جدار بيته؛ لأنّ فيه حجراً قد اختلسه من جارٍ له.. ويونس عليه السلام في أثناء مغاضبته ركب السّفينة، ولكنّ السّفينة تعرّضت للعب الأمواج بها فاضطربت اضطراباً شديداً، وأشرَفَت على الغرق بركّابها، فاقترعوا على أن يُلقوا إلى البحر مَنْ تقع عليه القرعة، فوقعت القرعة على نبيّ الله يونس عليه السلام، يقول الحقّ تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[الصّافّات]، فكان يونس عليه السلام ممّن خسروا القرعة في عُرف النّاس، ووقعت القرعة عليه ليتمّ إلقاؤه في البحر، فابتلعه الحوت: ﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾[الصّافّات]؛ أي: ابتلعه الحوت وقد فعل ما يُلام عليه، وكأنّ الله تعالى يقول له: لقد تسرّعت حين تركتَ قومك وضِقت بهم لأوّل إيذاء تتعرَّض له، وكان عليك أن تصبر وأن تتحمّل الأذى في سبيل دعوتك، فما كان من يونس عليه السلام إلّا أن دعا ربّه وهو في بطن الحوت، قال تعالى:
﴿إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾: والنّداء: هنا الدّعاء، والكظم: كتم الشّيء.