أتاح الله تبارك وتعالى لآدم عليه السَّلام وزوجه فترة تجربة في جنّة التّجربة، وقد ضعف آدم عليه السَّلام وضعفت زوجه فأكلا من الشّجرة المحرّمة، فكانت نتيجة المعصية أن قال لهما الله سبحانه وتعالى: ﴿اهْبِطُوا﴾. وهذا هو سبب الهبوط المباشر، وهو المعصية، وفي جنّة التّجربة يربط الأمور بأسبابها المرئيّة للنّاس، أمّا علم الله سبحانه وتعالى فهو قديم كاشف، وكان يعلم أنّ الشّيطان سيفعل كذا وكذا، وأنّ آدم عليه السَّلام سيعصي بضعفه. فهل عصى آدم ربّه بإرادة الله، أم خارجاً عن إرادة الله؟ والجواب: عصى بإرادة الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعله مختاراً، ويحاسبه على اختياره، ولا يحاسبه على إرادة الله، وقد قال تبارك وتعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ ]البلد[، وقال جلَّ جلاله: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ ]الإنسان[.
﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ﴾: الزلّة: تعني العثرة والكبوة، فقال لهما فيما يرويه تبارك وتعالى: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ ]الأعراف: من الآية 20[، قال لهما إبليس: إذا أكلتم من هذه الشّجرة فستصلون إلى ملك لا يبلى، وإلى الخلود.
وهذه هي أمنية الإنسان في الحياة دائماً أن يخلد فيها ولا يتحوّل عنها، فهو يريد ملكاً لا يفنى من المال وغيره، ويريد الخلود. ولو بحثتم في كلّ أهل الأرض فستجدونهم يريدون الملك والخلود في هذه الحياة. وكلّ إنسان يعمل وكأنّه سيخلد في الدّنيا، ويعمل للخلود، وهذه هي النّقطة الّتي دخل منها إبليس على آدم، فدخل عليه من قوانين: ملكٍ لا يبلى، وخلودٍ لا يفنى.. وعلى هذا فُطر ابن آدم، قال تبارك وتعالى: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾ ]القيامة[. هكذا أزلّ إبليسُ آدمَ وزوجه، فأخرجهما ممّا كانا فيه، وفي سورة (طه) يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ﴾ ]طه[، فدلّه على الشّجرة المحرّمة، وقال له: يا آدم؛ كُل من هذه الشّجرة تبقَ خالداً فلا تموت، ويصبح لديك ملكٌ لا يبلى، وهذه هي رغبة الإنسان الشّديدة في الحياة.
وقد ضعف آدم عليه السَّلام أمام هذا الإغراء بالخلود في جنّته فعصى ربّه، وهذا ضعف في الإرادة، وضعف في الذّاكرة، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ ]طه[، فنسي، وكان الله سبحانه وتعالى قد قال له: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ ]البقرة: من الآية 35[.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى علاجاً للمعصية وهو التّوبة، أمّا المعصية الّتي كان سببها الاستكبار فهي كفر بالله جلّ وعلا. وهذا هو الفارق بين معصية آدم ومعصية إبليس الّذي: ﴿أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ ]البقرة: من الآية 34[.
وحين لعنه الله وطرده من رحمته أراد أن يغوي آدم عليه السَّلام وزوجه، ويخرجهما من طاعة الله سبحانه وتعالى بتزيين المعصية لهما عن طريق الوسوسة.
﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾: أخرجهما من الهناء ورغد العيش والسّكن؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى قال لآدم: ﴿اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ﴾ ]البقرة: من الآية 35[، والسّكن هو الهدوء والاطمئنان والرّاحة، وفي سورة أخرى يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ]الرّوم[، وهكذا يتحدّث القرآن الكريم عن الزّواج في أرقى صورة، ويرفع قيمة المرأة على وجه الأرض، ويقدّس الحياة الزّوجيّة. وكلّ هذا كان موجوداً في جنّة التّجربة، فلمّا كان الإغواء والمعصية، أُخرجا ممّا كانا فيه.
﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ﴾: صدر الأمر الإلهيّ بالهبوط، والأمر موجّه إلى (آدم وزوجه وإبليس)، فكان الهبوط (جميعاً)؛ لأنّ كلّ بني آدم يحملون جزئيّات آدم، وكلّ ذريّته كامنة وموجودة فيه، فآدم يتزوّج من حوّاء وينجب الأولاد، والأولاد يتزوّجون وينجبون.. وهكذا نجد أنّ كلّ ذريّة آدم كانت موجودة فيه واشتركت في الهبوط. ولم يكن العلم في زمن التّنزيل قد اكتشف قضيّة المورّثات، والأجنّة، ومراحل تطوّر الجنين.. وباكتشاف هذه القضايا تتّضح لنا آية عهد الفطرة الّتي يولد عليها الإنسان؛ لأنّ آدم عليه السَّلام كان مؤمناً إيمان مشاهدة، وكان في جنّة التّجربة، وتلقّى الأوامر من الله سبحانه وتعالى مباشرة قبل أن يكون نبيّاً.
وقولنا الكفر ستر للإيمان يعني أنّ الإيمان موجود قبل الكفر.
وفي سورة (طه) يقول سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ ]طه: من الآية 123[، فصيغة المثنى هنا تعني فريقين:
الفريق الأوّل: آدم وحوّاء.
والفريق الثّاني: إبليس.
فهبطوا جميعاً. والجنّ مرتبطون بإبليس، والإنس مرتبطون بآدم.