الآية رقم (1) - سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ

بدأت هذه السّورة بقوله: ﴿سُبْحَانَ﴾؛ لأنّها تتحدّث عن حدثٍ عظيمٍ خارق للعادة والنّواميس، ومعنى ﴿سُبْحَانَ﴾: أي: تنزيهاً لله سبحانه وتعالى تنزيهاً مطلقاً، أن يكون له شبيه أو مثيل فيما خلق، لا في الذّات، فلا ذاتَ كذاته، ولا في الصّفات، فلا صفات كصفاته، ولا في الأفعال، فليس في أفعال خَلْقه ما يُشبِه أفعاله سبحانه وتعالى، فإن قيل لك: الله سبحانه وتعالى موجودٌ وأنت موجود، فنزّه الله عز وجل أن يكون وجودك كوجوده عز وجل؛ لأنّ وجودك من عدم، وليس ذاتيّاً فيك، ووجوده سبحانه وتعالى ليس من عدم، وهو ذاتيّ فيه سبحانه وتعالى، فذاته سبحانه وتعالى لا مثيلَ لها، ولا شبيه في ذوات خلقه، وكذلك إن قيل: السَّمْع أو البصر… فكلّ أمرٍ يجب أن ننزه الله عز وجل فيه.

ومن معاني: ﴿سُبْحَانَ﴾؛ أي: أتعجّب من قدرة الله عز وجل.

وكلمة ﴿سُبْحَانَ﴾ جاءت هنا لتشير إلى أنَّ ما بعدها أمرٌ خارج عن نطاق قدرات البشر، فإذا ما سمعتَه إيّاك أنْ تعترضَ، لماذا؟ لأنّنا ننزِّه الله سبحانه وتعالى أن يُشابه فِعْلُه فِعْلَ البشر، فإن قال لك: إنّه أسرى بنبيّه صلى الله عليه وسلم من مكّة إلى بيتَ المقدس في ليلة، مع أنّهم يضربون إليها أكباد الإبل شهراً، فإيّاك أن تنكر، فربّك لم يقُلْ: سَرَى محمّد، بل أُسْرِي به، فالفعل ليس لمحمّدٍ صلى الله عليه وسلم ولكنّه لله سبحانه وتعالى، وما دام الفعل لله عز وجل فلا تُخضعْه لمقاييس الزّمن والمكان لديك، ففِعْل الله عز وجل ليس علاجاً ومزاولة كفعل البشر.

ولو تأمّلنا كلمة ﴿سُبْحَانَ﴾ نجدها في الأشياء الّتي ضاقتْ فيها العقول، وتحيَّرتْ في إدراكها، وفي الأشياء العجيبة، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾[يس]، فالأزواج؛ أي: الزّوجين الذّكر والأنثى، ومنهما يتمّ التّكاثر في النّبات، وفي الإنسان، وقد فسّر لنا العلم الحديث قوله: ﴿وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يس: من الآية 36]، بما توصَّل إليه من اكتشاف الذّرّة والكهرباء، وأنّ فيهما السّالب والموجب الّذي يساوي الذّكر والأنثى؛ لذلك قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذّاريات]، ومنها قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الرّوم]، فمَنْ يطالع صفحة الكون عند شروق الشّمس وعند غروبها، ويرى كيف يَحُلُّ الظّلام محلَّ الضّياء، أو الضّياء محلّ الظّلام، لا يملك أمام هذه الآية إلّا أن يقول: سبحان الله، ومنها قوله سبحانه وتعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ [الزّخرف: من الآية 13]، هذه كلّها أمور عجيبة، لا يقدر عليها إلّا الله عز وجل، فكلّها وردتْ فيها كلمة ﴿سُبْحَانَ﴾.

وكلمة: ﴿سُبْحَانَ﴾  اسمٌ يدلُّ على الثّبوت والدّوام، فكأنّ تنزيه الله سبحانه وتعالى موجودٌ وثابتٌ له قبل أن يوجَد المنزِّه، كما نقول في الخلق، فالله عز وجل خالق ومُتَّصف بهذه الصّفة قبل أنْ يخلق شيئاً، وكما تقول: فلانٌ شاعر، فهو شاعرٌ قبل أن يقول القصيدة، فلو لم يكن شاعراً ما قالها، فتنزيه المولى سبحانه وتعالى ثابتٌ له قبل أن يوجَد مَنْ يُنزِّهه سبحانه وتعالى، فإذا وُجِد المنزِّه تحوَّل الأسلوب من الاسم إلى الفعل، فقال سبحانه وتعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحشر: من الآية 1]، وهل سبَّح وسكت وانتهى التّسبيح؟ لا، بل قال: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾[الجمعة: من الآية 1]، على سبيل الدّوام والاستمرار، وما دام الأمر كذلك والتّسبيح ثابتٌ له، وتُسبِّح له الكائنات في الماضي والحاضر، فلا تتقاعس أنت أيُّها المكلَّف عن تسبيح ربّك، يقول سبحانه وتعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى].

﴿الَّذِي أَسْرَى﴾: من السُّرى، وهو السّير ليلاً، فالحقّ سبحانه وتعالى أسرى بعبده، فالفعل لله سبحانه وتعالى، وليس لمحمّد صلى الله عليه وسلم، فلا نقيس الفعل بمقياس البشر، وقد استقبل أهل مكّة هذا الحدث استقبال المكذِّب، فقالوا: كيف هذا ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً، وهم كاذبون في قولهم؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَدَّعِ أنّه سَرَى، بل قال: أُسْرِي بي.

ومعلومٌ أنّ قَطْع المسافات يأخذ من الزّمن على قدر عكس القوّة المتمثّلة في السّرعة؛ أي: أنّ الزّمن يتناسب عكسيّاً مع القوّة، فلو أردنا مثلاً الذّهاب إلى طرطوس سيختلف الزّمن لو سِرْنا على الأقدام عنه إذا ركبنا سيّارة أو طائرة، فكلّما زادت القوّة قَلَّ الزّمن، فما بالك لو نسب الفعل والسّرعة إلى الله سبحانه وتعالى، إذا كان الفعل من الله عز وجل فلا زمن، فإنْ قال قائلٌ: ما دام الفعل مع الله عز وجل لا يحتاج إلى زمن، لماذا لم يَأْتِ الإسراء لمحةً فحسْب، ولماذا استغرق ليلة؟ نقول: لأنّ هناك فرْقاً بين قطْع المسافات بقانون الله سبحانه وتعالى وبين مَرَاءٍ عُرِضَتْ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الطّريق، فرأى مواقف، وتكلَّم مع أشخاص، ورأى آيات وعجائب، هذه هي الّتي استغرقت الزّمن، وقلنا: إنّك حين تنسب الفعل إلى فاعله يجب أن تُعطيه من الزّمن على قَدْر قوّة الفاعل، هَبْ أنّ قائلاً قال لك: أنا صعدتُ بابني الرّضيع قمّة جبل (إفرست)، هل تقول له: كيف صعد ابنك الرّضيع قمّة (إفرست)؟ هذا سؤال في غير محلِّه، وكذلك في مسألة الإسراء والمعراج يقول سبحانه وتعالى: أنا أسريتُ بعبدي، فمن أراد أنْ يُحيل المسألة ويُنكرها، فليعترض على الله سبحانه وتعالى صاحب الفعل لا على محمّد صلى الله عليه وسلم.

لكن كيف فاتتْ هذه القضيّة على كفّار مكّة؟ ومن تكذيب كفّار مكّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج نأخذ رَدّاً جميلاً على هؤلاء الّذين يخوضون في هذا الحادث بعقولٍ ضيّقة وبإيمانيّة سطحيّة في عصرنا الحاضر، فيطالعوننا بأفكار سقيمة ما أنزل الله عز وجل بها من سلطان، ونسمع منهم مَنْ يقول: إنّ الإسراء كان منَاماً، أو كان بالرّوح دون الجسد، ونقول لهؤلاء: لو قال محمّد لقومه: أنا رأيتُ في الرّؤيا بيت المقدس، هل كانوا يُكذِّبونه؟ ولو قال لهم: لقد سَبَحتْ روحي اللّيلة حتّى أتتْ بيت المقدس، أكانوا يُكذِّبونه؟ أتُكذَّب الرّؤى أو حركة الأرواح؟! ففي إنكار الكفّار على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم له دليلٌ على أنّ الإسراء كان حقيقة تمّت لرسول الله صلى الله عليه وسلم برُوحه وجسده، وكأنّ الحقّ سبحانه وتعالى ادَّخر الموقف التّكذيبيّ لمكذِّبي الأمس، ليردّ به على مُكذِّبي اليوم.

﴿بِعَبْدِهِ﴾: العبد كلمة تُطلَق على الرّوح والجسد معاً، هذا مدلولها، ولا يمكن أن تُطلَق على الرّوح فقط، لكن، لماذا اختار الحقّ سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم هذه الصّفة بالذّات؟ ولم يقل مثلاً: سبحان الّذي أسرى بحبيبه، أو: سبحان الّذي أسرى بنبيّه، سبحان الّذي أسرى بخليله.. بصفيّه.. برسوله.. بل قال: بعبده؟ لأنّ الله سبحانه وتعالى جعل في الكون قانوناً عامّاً للنّاس، وقد يُخرَق هذا القانون أو النّاموس العامّ ليكون معجزةً للخاصّة الّذين ميَّزهم الله سبحانه وتعالى عن سائر الخَلْق، فكأنّ كلمة (عبده) هي حيثيّة الإسراء؛ أي: أُسْرِي به؛ لأنّه صادق العبوديّة لله عز وجل، وما دام هو عبدٌ أخلص في عبوديّته لربّه عز وجل، استحقّ أنْ يكون له ميْزة وخصوصيّة عن غيره، فالإسراء والمعراج عطاءٌ من الله سبحانه وتعالى استحقَّه رسوله بما حقّق من عبوديّة لله عز وجل، وفَرْقٌ بين العبوديّة لله سبحانه وتعالى والعبوديّة للبشر، فالعبوديّة لله عز وجل عِزٌّ وشرفٌ يأخذ بها العبدُ الخَيْرَ من الله عز وجل، وقال الشّاعر:

وَمِمّا زَادَني شَرَفاً وَعِزّاً
دُخُولِي تَحْتَ قولِكَ: يَا عِبَادِي                     .
وكِدْتُ بأخْمُصِي أَطَأَ الثُّريَّا
وَأنْ صَيَّرت أحمدَ لِي نبيّاً
.

أمّا عبوديّة البشر للبشر فنقْصٌ ومذلَّةٌ وهوانٌ، حيث يأخذ السّيّد خَيْر عبده، ويحرمه ثمَرَ كَدِّه، لذلك، فالمتتبّع لآيات القرآن الكريم يجد أنّ العبوديّة لا تأتي إلّا في المواقف العظيمة مثل: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾، وقوله عز وجل: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ [الجنّ: من الآية 19]، وهذا العبد يكفيه عِزّاً وكرامةً أنّه إذا أراد أن يُقابل ربّه، فما عليه إلّا أنْ يتوضّأ وينوي المقابلة قائلاً: الله أكبر، فيكون في معيّة ربّه عز وجل في لقاءٍ يحدِّد مكانه ومُوعده ومُدّته، ويختار موضوع المقابلة، ويظلّ في حضرة ربّه إلى أن يُنهي المقابلة متى أراد، وما أحسنَ قول الشّاعر:

حَسْبُ نَفْسِي عِزّاً بِأَنِّي عَبْدٌ هُو في قُدْسِه الأعَزِّ ولكِنْ                     . يَحْتَفِي بِي بِلَا مَواعِيدَ رَبُّ
أنَا أَلْقَى متَى وَأَيْنَ أُحِبُّ
.

فما بالنا اليوم لو حاولنا لقاء عظيمٍ من عظماء الدّنيا؟! وكم سنلاقي من المشقّة والعنت؟ وكم.. وكم؟ ويُحَدَّد الزّمان والمكان، والموضوع والطّريقة، بينما مالك الملك تستطيع أن تُحدّد أنت الوقت والطّريقة…، وأن تبقى في حضرته ما تشاء، وقد كان الرّسول صلى الله عليه وسلم -وهو المتخلِّق بأخلاق الله سبحانه وتعالى- إذا سلَّم على أحدٍ لا ينزع يده من يده حتّى يكون الرّجل هو الّذي ينزع يده.

﴿لَيْلًا﴾: سبق أن قُلْنا: إنّ السُّرى هو السّير ليلاً، فكانت هذه كافية للدّلالة على وقوع الحدث ليلاً، ولكنّ الله سبحانه وتعالى أراد أنْ يؤكّد ذلك، فقد يقول قائلٌ: لماذا لم يحدث الإسراء نهاراً؟ نقول: حدث الإسراء ليلاً، لتظلَّ المعجزة غَيْباً يؤمن به مَنْ يُصدِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ذهب في النّهار لرآه النّاس في الطّريق ذهاباً وعودةً، فتكون المسألة حِسّيّةً مشاهدةً لا مجالَ فيها للإيمان بالغيب، لذلك لـمّا سمع أبو جهل خبر الإسراء طار به إلى المسجد الحرام، وقال: إنّ صاحبكم يزعم أنّه أُسْرِي به اللّيلة من مكّة إلى بيت المقدس، فمنهم مَنْ قلّب كفَّيْه تعجُّباً، ومنهم مَنْ أنكر، ومنهم مَن ارتدّ، أمّا الصِّدِّيق أبو بكر t فقد استقبل الخبر استقبالَ المؤمن المصدِّق، ومن هذا الموقف سُمِّي الصّدّيق، وقال قولته المشهورة: “إن كان قال فقد صدق”، فعمدته أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما أنّه قال فهو صادقٌ، هذه قضيّةٌ مُسلَّمٌ بها عند الصِّدِّيق t، ثمّ قال: «إنَّا لَنُصَدِّقه في أبعد من هذا، نُصدِّقه في خبر السّماء (الوحي) ، فكيف لا نُصدّقه في هذا»؟ فالحقّ سبحانه وتعالى جعل هذا الحادث مَحكّاً للإيمان، ومُمحِّصاً ليقين النّاس، حتّى يغربل مَنْ حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يبقى معه إلّا أصحاب الإيمان واليقين الثّابت الّذي لا يهتزّ ولا يتزعزع، لذلك قال سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾ [الإسراء: من الآية 60]، وهذا دليلٌ آخر على أنّ الإسراء لم يكُنْ مناماً، فالإسراء لا يكون فتنةً واختباراً إلّا إذا كان حقيقةً لا مناماً، فالمنام لا يُكذِّبه أحدٌ ولا يختلف فيه النّاس.

لكن لماذا قال عن الإسراء: (رُؤْيَا) يعني: المناميّة، ولم يقُلْ: (رؤية) يعني: البصريّة؟ قالوا: لأنّها لـمّا كانت عجيبة من العجائب صارت كأنّها رؤيا مناميّة، فالرّؤيا محلّ الأحداث العجيبة.

وورد في الإسراء أحاديث كثيرة تكلَّم فيها العلماء: أكان بالرّوح والجسد؟ أكان يقظةً أم مناماً؟ أكان من المسجد الحرام أم من بيت أمِّ هانئ؟ ونحن لا نختلف مع هذه الآراء، ونُوضِّح ما فيها من تقارب، فمن حيث: أكان الإسراء بالرّوح فقط أم بالرّوح والجسد؟ فقد أوضحنا وَجْه الصّواب فيه، وأنّه كان بالرّوح والجسد جميعاً، فهذا مجال الإعجاز، ولو كان بالرّوح فقط ما كان عجيباً، وما كذَّبه كفّار مكّة.

﴿مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾: هذه الآية هي الّتي تربط قلوب مليارات المسلمين بالمسجد الأقصى، ومن هنا تأتي قدسيّة المسجد الأقصى الّذي يُدَنِّسه الصّهاينة المجرمون اليوم.

المسجد الحرام هو بيت الله عز وجل: الكعبة المشرّفة، وسُمّي حراماً؛ لأنّه حُرّم فيه ما لم يحرُمْ في غيره من المساجد، وكلّ مكانٍ يُخَصّص لعبادة الله عز وجل نسمّيه مسجداً، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التّوبة: من الآية 18]، ويختلف المسجد الحرام عن غيره من المساجد، أنّه بيتٌ لله سبحانه وتعالى باختيار الله عز وجل، وغيره من المساجد بيوتٌ لله سبحانه وتعالى باختيار خَلْق الله عز وجل؛ لذلك كان بيت الله سبحانه وتعالى باختياره عز وجل قِبْلةً لبيوت الله عز وجل باختيار خَلْق الله سبحانه وتعالى.

وقد يُراد بالمسجد المكان الّذي نسجد فيه، أو المكان الّذي يصلح للصّلاة، كما جاء في الحديث الشّريف: «وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً»([1])؛ أي: صالحةً للصّلاة فيها.

ولا بُدَّ أن نُفرِّق بين المسجد الّذي حُيِّز وخُصِّص كمسجدٍ مستقلٍّ، وبين أرضٍ تصلح للصّلاة فيها ومباشرة حركة الحياة، فالإنسان ممكن أن يكون في أيّ مكانٍ ويُصلّي، في المصنع، في المزرعة، في الطّريق، في البيت.. أمّا المسجد فللصّلاة حصراً، ولا يُباشر فيه إلّا أمور الدّين، كتلاوة القرآن الكريم والصّلاة.. ولا يجوز مباشرة أيّ عملٍ من أعمال الدّنيا في المسجد، لذلك قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَـمْ تُبْنَ لِهَذَا»([2])؛ ذلك لأنّ المسجد خُصِّص للعبادة والطّاعة، وفيه يكون لقاء العبد بربّه عز وجل، فعلينا ألّا نشغل بأمور الدّنيا عندما ندخل إلى المسجد.

﴿إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾: المبتدأ هو المسجد الحرام، والمنتهى هو المسجد الأقصى.

﴿الْأَقْصَى﴾: نقول: هذا قصيٌّ؛ أي: بعيدٌ، وهذا أقصى؛ أي: أبعد، فالحقّ سبحانه وتعالى كأنّه يلفت أنظارنا إلى أنّه سيوجد بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى مسجدٌ آخر قصيٌّ؛ أي: أقلّ بعداً من المسجد الأقصى، وقد كان فيما بعد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالمسجد الأقصى: أي: الأبعد، وهو مسجد بيت المقدس، وهو أولى القبلتين الّتي صلّى المسلمون باتّجاهها، فربط الله سبحانه وتعالى قلوب المؤمنين بهذا المسجد الكريم.

﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾: البركة: أن يُؤتي الشّيءُ من ثماره فوقَ المأمول منه، وأكثر ممّا يُظنّ فيه، كأن تُعِدّ طعاماً لشخصين، فيكفي خمسة أشخاص فتقول: طعامٌ مبارَكٌ، وقوله سبحانه وتعالى﴿بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾: دليلٌ على المبالغة في البركة، فإنْ كان سبحانه قد بارك ما حول الأقصى، فالبركة فيه من باب أَوْلى، كأن تقول: مَنْ يعيشون حول فلان في نعمةٍ، فمعنى ذلك أنّه في نعمةٍ أعظم.

لكن بأيّ شيءٍ بارك الله سبحانه وتعالى حوله؟ لقد بارك الله عز وجل حول المسجد الأقصى ببركة دنيويّة، وبركة دينيّة:

– بركة دنيويّة بما جعل حوله من أرضٍ خِصْبةٍ عليها الحدائق والبساتين الّتي تحوي مختلف الثّمار، وهذا من عطاء الرّبوبيّة الّذي يناله المؤمن والكافر.

– وبركة دينيّة تتمثّل في أنّ الأقصى مَهْد الرّسالات ومَهْبط الأنبياء عليهم السّلام، تعطَّرَتْ أرضه بأقدام إبراهيم وإسحق ويعقوب وعيسى وموسى وزكريّا ويحيى، وفيه هبط الوحي وتنزّلتْ الملائكة.

﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾: اللّام هنا للتّعليل، كأنّ مهمّة الإسراء من مكّة إلى بيت المقدس أن نُرِي رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات، وكلمة: الآيات لا تُطلق على مطلق موجود، إنّما تُطلق على الموجود العجيب، كما نقول: هذا آيةٌ في الحُسْن، فالآية هي الشّيء العجيب، ولله عز وجل آياتٌ كثيرةٌ، والله سبحانه وتعالى يريد أن يجعل لرسوله صلى الله عليه وسلم خصوصيّةً، وأن يُريه من آيات الغيب الّذي لم يَرَهُ أحد، ليرى صلى الله عليه وسلم حفاوة السّماء به، ويرى مكانته عند ربّه الّذي قال له: ﴿وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النّحل: من الآية 127]؛ لأنّك في سَعةٍ من عطاء الله عز وجل، فإن أهانك أهل الأرض فسوف يحتفل بك أهل السّماء في الملأ الأعلى، وإنْ كنت في ضيقٍ من الخَلْق فأنت في سَعةٍ من الخالق.

﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾: أي: الحقّ سبحانه وتعالى.

السّمع: إدراك يدرك الكلام، والبصر: إدراك يدرك الأفعال والمرائي، فلكلٍّ منهما ما يتعلّق به، لكن سميعٌ وبصيرٌ جاء هذا في ختام آية الإسراء الّتي بيَّنَتْ أنّ الحقّ سبحانه وتعالى جعل الإسراء تسليةً للرّسول صلى الله عليه وسلم بعد ما لاقاه من أذى المشركين وعنتهم، وكأنّ معركةً دارت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والكفّار حدثتْ فيها أقوالٌ وأفعالٌ من الجانبين.

وهو (سَمِيعٌ) لأقوال الرّسول صلى الله عليه وسلم (بَصِيرٌ) بأفعاله، حيث آذاه قومه وكذّبوه وألجؤوه إلى الطّائف، فكان أهلها أشدَّ قسوةً من أهل مكّة، فعاد مُنكَراً دامياً، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟، إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ تَكُنْ غَضْبَاناً عَلَيَّ، فَلَا أُبَالِي، إِنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمَرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ العُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، لَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ»([3])، فالله عز وجل سميعٌ لقول نبيّه صلى الله عليه وسلم، وبصيرٌ لفعله، فقد كان صلى الله عليه وسلم في أشدِّ ظروفه حريصاً على دعوته.

الآن هناك بعض الأسئلة الّتي قد ترد حول هذا الموضوع، بأنّه إذا كان صحيحاً ما نقول، لماذا لم يعرج بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم مباشرةً من مكّة إلى سدرة المنتهى؟ نقول: إنّ رحلة الإسراء والمعراج مقسومةٌ إلى قسمين: رحلةٌ أرضيّةٌ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، في البداية المسجد الحرام، وفي النّهاية المسجد الأقصى، وبينهما آياتٌ، وهذه الآيات هي المرائي الّتي رآها النّبيّ صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم لا يُعطي هذه الآيات، وإنّما يُعطينا اللّقطة الملزمة لبيان الرّسول صلى الله عليه وسلم فقط فيما يتعلّق بموضوع الإسراء من مكانٍ أرضيٍّ إلى مكانٍ أرضيٍّ، لكنّ المعراج هو من الأرض إلى السّماء، وكثيرٌ من المشكِّكين وضِعَاف الإيمان يبحثون في أحاديث الإسراء عن مأخذ، فيعترضون على المرائي الّتي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل عنها جبريل عليه السلام، فكان اعتراضهم أنّ هذه الأحداث في الآخرة، فكيف رآها محمّد صلى الله عليه وسلم؟ ونقول لهؤلاء: لقد قصُرَتْ الأفهام عن إدراك قدرة الله عز وجل في خَلْق الكون، فالكون لم يُخلَق هكذا، بل خُلِق بتقديرٍ أزليٍّ له، ولتوضيح هذه المسألة نضرب هذا المثل: هَبْ أنّك أردتَ بناء بيت، فسوف تذهب إلى المهندس المختصّ وتطلب منه رَسْماً تفصيليّاً له، ولو كنت ميسور الحال تقول له: اعمل لي نموذجاً مُصغَّراً للبيت، فالحقّ سبحانه وتعالى خلق هذا الكون أزلاً، فالأشياء مخلوقةٌ عند الله عز وجل، ثمّ يبرزها سبحانه وتعالى على وَفْق ما قدّره: ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂﳃ [يس]، انظر: ﲾ ﲿ ﳀ ، كأنّ الشّيء موجودٌ والله سبحانه وتعالى يظهره فحسب، لا يخلقه بدايةً، بل هو مخلوقٌ جاهزٌ ينتظر الأمر الإلهيّ ليظهر في عالم الواقع؛ لذلك قال أهل المعرفة: (أمور يُبديها ولا يبتديها).

وإن كان الحقّ سبحانه وتعالى قد ذكر الإسراء صراحةً في هذه الآية، فقد ذكر المعراج بالالتزام في سورة النّجم، في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾[النّجم]، ففي الإسراء قال سبحانه وتعالى: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾، وفي المعراج قال: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ [النّجم]؛ ذلك لأنّ الإسراء آيةٌ أرضيّةٌ استطاع الرّسول صلى الله عليه وسلم بما آتاه الله سبحانه وتعالى من الإلهام أنْ يُدلِّل على صِدْقه في الإسراء به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ لأنّ النّاس يعرفون المسجد الحرام، ومنهم من رأى المسجد الأقصى، وعلى علمٍ بالتّاريخ، وأنّه لم يسبق للنّبيّ صلى الله عليه وسلم أنْ رأى بيت المقدس أو سافر إليه، فقالوا له: صِفْه لنا، وهذه شهادةٌ منهم أنّه لم يَرَهْ، فتحدَّوْهُ أن يصفه، والرّسول صلى الله عليه وسلم حينما يأتي بمثل هذه العمليّة، هل كان عنده استحفاظ كامل لصورة بيت المقدس، خاصّة وقد ذهب إليه ليلاً؟ فصورته لم تكن واضحةً أمام النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتفاصيلها كلّها، وهنا تدخّلتْ قدرة الله عز وجل فجلَّاه الله سبحانه وتعالى له، فأخذ يصفه لهم كأنّه يراه الآن، كما أنّ الطّريق بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى طريقٌ مسلوكٌ للعرب، فهو طريق تجارتهم إلى الشّام، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنّ عيراً لهم في الطّريق، ووصفها لهم وصفاً دقيقاً، وأنّها سوف تصلهم مع شروق الشّمس في يومٍ مُعيّنٍ، وفعلاً تجمّعوا في صبيحة هذا اليوم ينتظرون العير، وعند الشّروق قال أحدهم: ها هي الشّمس أشرقتْ، فردَّ الآخر: وها هي العير قد ظهرتْ، فاستطاع صلى الله عليه وسلم أن يُدلِّل على صدق الإسراء؛ لأنّه آيةٌ أرضيّةٌ يمكن التّدليل عليها، بما يَعْلمه النّاس عن بيت المقدس، وبما يعلمونه من عِيرهم في الطّريق، أمّا ما حدث في المعراج، فآيات كبرى سماويّة لا يستطيع الرّسول صلى الله عليه وسلم التّدليل عليها أمام قومه، فأراد الله سبحانه وتعالى أنْ يجعل ما يمكن الدّليل عليه من آيات الأرض وسيلة لتصديق ما لا يوجد دليل عليه من آيات الصّعود إلى السّماء، وإلّا فهل صعد أحدٌ إلى سدرة المنتهى، فيصفها له رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فجاء الإسراء مقدّمة للمعراج، فالله سبحانه وتعالى خَرق نواميس الكون في الزّمن والمسافة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم في الإسراء، فالّذي خرق له النّواميس في آيات الأرض من الممكن أنْ يخرق له النّواميس في آيات السّماء، فالله سبحانه وتعالى يُقرِّب الغيبيّات الّتي لا تُدركها العقول بالمحسّات الّتي تدركها.

والنّبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَّ الأنبياء عليهم السّلام في المسجد الأقصى، فكان المسجد الأقصى في أرض فلسطين المباركة مطار الإسلام، واستلم النّبيّ صلى الله عليه وسلم إمامة البشريّة، استلمها شعب بني إسماعيل العرب من شعب بني إسرائيل، فالأنبياء الّذين جاؤوا قبل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كلّهم جاؤوا من نسل إسرائيل (يعقوب) عليه السلام، فهذه الرّاية لإمامة البشريّة انتقلت من شعب بني إسرائيل إلى بني إسماعيل، وهي عمليّة تمّت في المسجد الأقصى، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَّ بهم جميعاً، وصعد إلى السّموات من المسجد الأقصى، فربط المسجد الأقصى إيمانيّاً وقُدسيّاً بمشاعر المسلمين جميعاً، وكان الإسراء له سببٌ والمعراج له سببٌ آخر، فبالإسراء ربط الله سبحانه وتعالى المسجد الحرام بالمسجد الأقصى وأمَّ به النّبيّ صلى الله عليه وسلم الأنبياء عليهم السّلام كلّهم، والمسجد الأقصى مهد الأنبياء جميعاً، ومُقدَّس عند المسلمين، وبعد ذلك كُرِّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ورُفع إلى مكانٍ لم يصل إليه مَلَكٌ، حتّى جبريل عليه السلام ابتعد ولم يستطع أن يقترب، هذا المكان هو مكان الأنس والقرب من الله سبحانه وتعالى لفرض أعظم ركنٍ، الرّكن الرّكين في الإسلام وهو الصّلاة، فالله سبحانه وتعالى كأنّه استدعى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمعراجٍ عظيمٍ إلى الحضرة وإلى سدرة المنتهى وأعطاه لأمّته من بعده الصّلاة، الّتي هي معراج القلوب إلى علّام الغيوب سبحانه وتعالى، فأصبحت أنت في الصّلاة في إسراءٍ وفي معراجٍ، وكأنّك متّصلٌ بالله سبحانه وتعالى كما اتّصل النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ يغشى السّدرة ما يغشى، حيث اقترب النّبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم في سُبحات الأنوار، فقال سبحانه وتعالى: السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته، فضجّت الملائكة: السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين، وقالت الملائكة: نشهد أن لا إله إلّا الله ونشهد أنّ محمّداً رسول الله، في هذه اللّحظات الخالدة في تاريخ البشريّة فُرِضَت الصّلاة على الأمّة الإسلاميّة، فكانت عطاءً من الله سبحانه وتعالى، وكان هذا هو موضوع المعراج، أمّا بالنّسبة إلى تفاصيل المعراج، فعندما نصل إلى سورة النّجم إن شاء الله تعالى يمكن أن نتابع هذا الأمر.

والمتأمّل في رحلة الإسراء والمعراج يجدها إلى جانب أنّها تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتخفيفٌ عنه، إلّا أنّ لها هدفاً آخر أبعد أثراً، وهو بيان أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُؤيّدٌ من الله عز وجل، وله معجزات، وتُخرَق له القوانين والنّواميس العامّة؛ ليكون ذلك كلّه تكريماً ودليلاً على صدق رسالته.

فالمعجزة: أمرٌ خارقٌ للعادة الكونيّة يُجريه الله عز وجل على يد رسوله؛ ليكون دليلاً على صدقه، ومن ذلك ما حدث لإبراهيم الخليل عليه السلام، حيث ألقاه قومه في النّار الّتي من خواصّها الإحراق، فهل كان المراد نجاة إبراهيم عليه السلام من النّار؟ لو كان القصد نجاته من النّار ما كان الله سبحانه وتعالى مكَّنهم من الإمساك به، ولو أمسكوه فيمكن أنْ يُنزِل الله عز وجل المطر فيطفئ النّار، فالمسألة ليست نجاة إبراهيم عليه السلام، بل المسألة إثبات خَرْق القوانين والنّواميس له عليه السلام، فشاء الله عز وجل أنْ تظلَّ النّار مشتعلةً، وأن يُمسكوا به ويرموه في النّار، وتتوفّر الأسباب كلّها لحرقه عليه السلام، وهنا تتدخّل عناية الله سبحانه وتعالى لتظهر المعجزة الخارقة للقوانين، فمن خواصّ النّار الإحراق، وهي خَلْقٌ من خَلْقِ الله عز وجل، يأتمر بأمره، فأمر اللهُ سبحانه وتعالى النّارَ ألَّا تَحرِق، فقال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء]، وربّما يجد المشكِّكون في الإسراء والمعراج ما يُقرّب هذه المعجزة لأفهامهم بما نشاهده اليوم من تقدُّمٍ علميٍّ يُقرِّب لنا المسافات، نحن لا نتحدّث عن التّقدّم العلميّ وعن سلطان العلم وكيف غزا الفضاء، وكيف ينتقل النّاس إلى كواكب أخرى في أزمنةٍ قياسيّةٍ، والهبوط على سطح القمر.. كلّ هذه الأمور من علم البشر، فكيف بالله سبحانه وتعالى خالق البشر وخالق العلم؟!

وكذلك من الأمور الّتي وقفتْ أمام المعترضين على الإسراء والمعراج حادثة شَقِّ الصّدر الّتي حكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتأمّل فيها يجدها عملاً طبيعيّاً لإعداد الرّسول صلى الله عليه وسلم لما هو مُقبِلٌ عليه من أجواءٍ ومواقف جديدة تختلف في طبيعتها عن الطّبيعة البشريّة، ونحن نفعل مثل هذا الإعداد حينما نسافر من بلدٍ إلى آخر، فيقولون لك: البس ملابس كذا، وخذ حقنة كذا لتساير طبيعة هذا البلد، وتتأقلم معه، فما بالك ومحمّد صلى الله عليه وسلم سيلتقي بالملائكة وبجبريل وهم ذوو طبيعةٍ غير طبيعة البشر، وسيلتقي بالأنبياء عليهم السّلام، وهم في حال الموت، وسيكون قاب قوسيْن أو أدنى عند سدرة المنتهى؟ فلا غرابة في أنْ يحدث له تغييرٌ ما، ليستطيع مباشرة هذه المواقف، وإذا استقرأنا القرآن الكريم فسوف نجد فيه ما يدلُّ على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من لقائه بالأنبياء عليهم السّلام في هذه الرّحلة، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾ [الزّخرف: من الآية 45]، والرّسول صلى الله عليه وسلم إذا أمره ربّه أمراً نفّذه، فكيف السّبيل إلى تنفيذ هذا الأمر: واسأل مَن سبقك من الرّسل؟! لا سبيل إلى تنفيذه إلّا في لقاءٍ مباشرٍ ومواجهةٍ، فإذا حدَّثَنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج، فلا يتسلّل الشّكّ إلّا إلى قلوب ضعاف الإيمان واليقين، فالفكرة في قضيّة الإسراء والمعراج دائرةٌ بين يقين المؤمن بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين تحكيم المنطق الّذي يعتقد أنّ الأمور كلّها تخضع له، فما أكثر الأمور الّتي وقف فيها الإنسان ولم يفهم كُنْهَها، ومع مرور الزّمن وتقدُّم العلوم تكشّفت له تدريجيّاً.

والمتأمّل في هذه السّورة يجدها تسمّى سورة الإسراء، وبدأت بقوله سبحانه وتعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى﴾ ، ونعتقد أنّ الآيات التّالية ستتابع الحديث عن الإسراء، وإذ بالآية التّالية تكون: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾، يتحدّث عن بني إسرائيل، فما الحكمة من ذِكْر بني إسرائيل بعد الإسراء مباشرةً؟

سبق أن قلنا: إنّ الحكمة من الكلام عن الإسراء بعد آخر النّحل أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في ضيقٍ ممّا يمكرون، فأراد الله سبحانه وتعالى أنْ يُخفِّف عنه، فكان حادث الإسراء، ولـقد أَلِفَ بنو إسرائيل أنّ الرّسول يُبعَثُ إلى قومه فحسب، كما رأَوا موسى عليه السلام، فعندما يأتي محمّدٌ صلى الله عليه وسلم ويقول: أنا رسولٌ للنّاس كافّةً سيعترض عليه هؤلاء، وسيقولون: إنْ كنتَ رسولاً فعلاً وسلَّمنا بذلك، فأنت رسولٌ للعرب دون غيرهم، ولا دَخْل لك ببني إسرائيل، فَلَنا رسالتنا وبيت المقدس عَلَمٌ لنا، لذلك أراد الله سبحانه وتعالى أن يلفت شعب بني إسرائيل إلى عموم رسالة سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جعل بيت المقدس قبلةً للمسلمين في بداية الأمر، ثمّ أسرى برسوله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى؛ ليدلّل بذلك على أنّ بيت المقدس قد دخل في مقدّسات الإسلام، وأصبح منذ هذا الحدث في حَوْزة المسلمين.

ثمّ يبدأ الحديث عن موسى عليه السلام وعن بني إسرائيل؛ لأنّ الخصم إلى يوم القيامة هم اليهود، قال سبحانه وتعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [المائدة: من الآية 82]، ولنجد أنّه بعد فترةٍ من الزّمن من سيدنّس المسجد الأقصى الّذي باركه الله عز وجل وسيحتلّه هم الّذين يدّعون الانتساب لإسرائيل، لذلك كانت الآية التّالية مباشرةً:

([1]) صحيح البخاريّ: كتاب التّيمّم، الحديث رقم (335).

([2]) صحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصّلاة، بَابُ النَّهْيِ عَنْ نَشْدِ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْجِدِ وَمَا يَقُولُهُ مَنْ سَمِعَ النَّاشِدَ، الحديث رقم (568).

([3]) المعجم الكبير للطّبرانيّ: مَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ مُسْنَدِ عَبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَرٍ، الحديث رقم (181).