الآية رقم (6) - بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ

فستعلم يا محمّد وسيعلم مخالفوك ومُكذِّبوك مَن المفتون الضّالّ منك ومنهم، ومعنى ﴿الْمَفْتُونُ: الذّي قد افتُتِن عن الحقّ وضلّ عنه، والمفتون مفعول بمعنى المصدر؛ أي: الجنون والضّلال؛ أي: بأيّكم الجنون والضّلال؟

ولنا هنا وقفة لفظيّة مع قوله تعالى﴿ بِأَيِّكُمُ؛ لأنّ السّياق كان من الممكن أن يكون: أيّكم المفتون؛ أي: أيّكم المجنون، فالفهم السّطحيّ للأسلوب قد يتساءل: لماذا جاءت الباء هنا؟ وبعضهم قال: إنّ الباء هنا زائدة، ونقول: إيّاك أن تقول: إنّ في كلام الله تعالى حرفاً زائداً؛ لأنّ معنى ذلك أنّ المعنى يتمّ بغير وجوده ويكون فضولاً وزائداً على الحاجة ولا فائدة فيه، وهذا لا يصحّ في كلام الله عز وجل، ولكن عليك أن تقول: أنا لا أفهم لماذا جاء حرف الباء هنا، والعرب قديماً سمعوا القرآن الكريم ساعة نزوله، وسمعوا قول الحقّ تعالى: ﴿ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ، ولم يعترض أو يقل أحدٌ منهم: إنّ وجود الباء هنا خروجٌ عن الأسلوب الصّحيح لِلّغة العربيّة، فلو كان هناك حرفٌ واحدٌ خارج عن مألوف وصحيح اللّغة لصرخوا به وأعلنوه، والحقّ تعالى قد تحدّاهم أن يأتوا باختلافٍ أو بمطعنٍ واحدٍ في القرآن الكريم، ولم يقل واحدٌ منهم: إنّ في القرآن الكريم لحناً؛ أي: خطأً، وهذا دليلٌ على أنّ الأسلوب القرآنيّ يتّفق مع الـمَلَكة العربيّة.

وقوله تعالى: ﴿ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ: هي في الأصل: فتبصر ويُبصرون أيّكم المفتون؛ أي: أييكم الضّالّ المجنون، ولكنّ الباء جاءت هنا لتؤدّي معنى آخر، فـ (مفتون)؛ أي: مفعول بمعنى المصدر؛ أي: بأيّكم الجنون أو الضّلال، وبعضهم قال: أي: بأيّكم الشّيطان؟ فالشّيطان هو المفتون الّذي إن اتّبعه شخصٌ وأصبح كالسّاكن في روحه، فيكون متلبّساً به، ويقول الحقّ تعالى عن الّذي يمسّه الشّيطان فيقوم يتخبّط كأنّه مجنون: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: من الآية 275]، فالتّخبّط هو الضّرب على غير استواء وهدى.

والباء في قوله تعالى: ﴿ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُلها معنى، وهي ليست زائدة؛ لأنّك إن حذفت شيئاً فالكلام يفسد ولا يُؤدّي المراد منه؛ لأنّ لله تعالى مرادات في كلامه، وهذه المرادات لا بدّ أن يُحقِّقها أسلوبه.

ومن العلماء مَن قال: إنّ الباء في قوله تعالى: ﴿ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُبمعنى: (في)؛ أي: في أيّكم؟ في أيّ طائفة منكم؟ في أيّ جماعةٍ منكم الجنون؟

ونلحظ أنّ الحقّ تعالى أشبع ياء: (أيّ) بياء أخرى، فكانا ياءين: ﴿بِأَيِّكُمُ ، وهذا إشارة أنّ جنون المشركين بلغ الغاية وتجاوز الحدّ، وأنّهم المجانين لا أنت يا محمّد؛ لأنّ مِثلك لا يصحّ أن يُرمَى بالجنون، فالّذي على خُلُقٍ عظيم لا يكون مجنوناً أبداً، ومَنْ رَماك بالجنون فقد رجع على نفسه بالجنون.

ونتوقّف قليلاً عند أمرٍ مهمٍّ، وهو استخدام اللّغة العربيّة في التّفسير بشكلٍ صحيحٍ، وليس بالشّكل الّذي يعتقده بعضهم، فموضوع اللّغة العربيّة حاسمٌ وجازمٌ ومهمٌّ جدّاً في تفسير معاني القرآن الكريم، ولذلك قال المولى تعالى في سورة يوسف﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف]، فمن يحاول أن يُعطي تفسيراً للقرآن الكريم، وأن يجنح باتّجاهات معيّنة، نقول له: إنّ الضّابط الأوّل هو ضوابط لغويّة عربيّة، فكلّ إنسان غير مختصّ بفقه اللّغة العربيّة لا يمكن له أن يفسِّر القرآن الكريم، فللتّفسير أهله، ولمن يتصدّى لمعاني الكلمات المشبعة في كلام الله عز وجل المنزّل بلسانٍ عربيّ مبين عليه أوّلاً أن يتعلّم اللّغة العربيّة، وبعد ذلك يُحاور ويُناقش ويستند ويقول: بأنّ هذا لا يصحّ، فما أجمعت عليه الأمّة عبر سنواتها مأخوذٌ ضمن ضوابط وقواعد التّفسير الّتي منها: تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بأحاديث النّبيّ ﷺ الصّحيحة، وتفسير القرآن الكريم باللّغة العربيّة.. إلى ما هنالك من قواعد يعرفها علماء التّفسير جميعاً.

«بِأَيِّكُمُ» جار ومجرور خبر مقدم

«الْمَفْتُونُ» مبتدأ مؤخر والجملة مفعول به لأحد الفعلين السابقين.

 

{بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ} … فَي أَيِّ الفَرِيقَيْنِ الفِتْنَةُ، وَالجُنُونُ؟