الآية رقم (39) - بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ

﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ﴾: هؤلاء الّذين كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه هم مَن أخذتهم المفاجأة حين حُدّثوا بشيءٍ لا يعرفونه، فكذّبوا بما جاء به رسول الله ﷺ من القرآن الكريم قبل أن يتبيّنوا جمال الأداء ونسق القيم العالية الّتي جاءت فيه، وإذا ما سنحت لهم فرصةٌ يتبيّنون فيها جمال الأداء ودقّة الإعجاز، فقد يتّجهون إلى الإيمان، كما حدث مع سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فقد كان كافراً، ثمّ علم أنّ أخته فاطمة وزوجها قد أسلما، فذهب إليها في منزلها وضربها فسال الدّم منها، وعندما هدأت موجة العناد والغضب، طلب أن يقرأ الصّحيفة الّتي كُتب عليها من سورة (طه)، فقرأها فأسلم؛ لأنّه استقبل القرآن الكريم بروحٍ لا عناد فيها.

﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾: أي لم يعرفوا مراميه، وبمجرّد سماعهم عن رسالة النّبيّ ﷺ اتّهموه بالكذب -والعياذ بالله- وهذا يدلّ على أنّهم لم يفهموا ما نزل عليه ﷺ، قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44) {فصّلت: من الآية 44}، فالقلوب المملوءة بالبغض للنّبيّﷺ وللإسلام لا يمكن أن تؤمن.

﴿وَلَمَّا ﴾: (لم) من أدوات النّفي والجزم، مثل قولنا: لم يأتِ فلانٌ، فهي لنفي المضارع وقلبه ماضياً، كأنّه لم يأت بالأمس، أمّا النّفي بـ (لـمّا) فيعني أنّ النّفي مستمرٌّ إلى الحال وقريبٌ منه، ويتوقّع ثبوته، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ {الحجرات}.

﴿تَأْوِيلُهُ ۚ ﴾: التّأويل: هو ما نُرجِع الشّيء إليه، وهذا يوضّح لنا أنّ هناك قضايا من القرآن الكريم لم يأت تفسيرها بعد، ستفسّرها الأحداث في المستقبل، فإمّا أن يكون من بقي من الكفّار يرى ما أخبر به القرآن الكريم، وقد جاء على وفق ما أخبر به النّبيّ ﷺ، وممكن أن يكون معنى التّأويل أيضاً أن يأتي في الآخرة.

﴿كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾: أي انظر يا محمّد لموكب الرّسل من بدء إرسالهم إلى أن وصل الأمر إليك، هل أرسل الله سبحانه وتعالى رسولاً ونصر الكافرين عليه؟ لقد كانت الغلبة دائماً للرّسل الكرام، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ {المجادلة}، وعرفنا ما حدث للظّالمين، فمنهم من أغرقهم الله سبحانه وتعالى، ومنهم من خسف به الأرض، ومنهم من أخذته الصّيحة.

﴿الظَّالِمِينَ﴾: الظّلم هو نقل الحقّ لغير صاحبه، والحقوق تختلف في مكانتها، فهناك حقٌّ أعلى وحقٌّ أوسط وحقٌّ أدنى، يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ {لقمان: من الآية 13}؛ لأنّ في هذا نقل الألوهيّة من الله سبحانه وتعالى إلى غيره.

«بَلْ»: حرف إضراب وعطف.

«كَذَّبُوا»: ماض وفاعله والجملة معطوفة.

«بِما»: الباء جارة وما موصولية ومتعلقان بكذبوا.

«لَمْ»: جازمة.

«يُحِيطُوا»: مضارع مجزوم بحذف النون والواو فاعل والجملة صلة.

«بِعِلْمِهِ»: متعلقان بيحيطوا.

«وَلَمَّا»: الواو حالية ولما حرف جازم.

«يَأْتِهِمْ»: مضارع مجزوم بحذف حرف العلة والهاء مفعول به.

«تَأْوِيلُهُ»: فاعل والهاء مضاف إليه والجملة حالية.

«كَذلِكَ»: الكاف جارة واسم الإشارة في محل جر متعلقان بصفة لمفعول مطلق محذوف.

«كَذَّبَ الَّذِينَ»: ماض واسم موصول فاعل.

«مِنْ قَبْلِهِمْ»: متعلقان بمحذوف صلة الموصول.

«فَانْظُرْ»: الفاء عاطفة وأمر وفاعله مستتر.

«كَيْفَ»: اسم استفهام في محل نصب خبر مقدم.

«كانَ عاقِبَةُ»: كان واسمها.

«الظَّالِمِينَ»: مضاف إليه مجرور بالياء لأنه جمع مذكر سالم والجملة مفعول به لانظر.

بَلْ كَذَّبُوا: بل سارعوا إلى التكذيب.

بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ: أي القرآن أول ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم بشأنه.

وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ: لم يطلعوا على تأويله، ولم تبلغ أذهانهم معانيه، ولم تتحقق عاقبة ما فيه من الوعيد، أو تقع أخباره عن المغيبات، حتى يتبين لهم أنه صدق أم كذب.

والمعنى: أن القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى، ثم إنهم فاجؤوا بتكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه، ويتفحصوا معناه.

كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: رسلهم.

فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ: بتكذيب الرسل، أي آخر أمرهم من الهلاك، فكذلك نهلك هؤلاء.