الآية رقم (3) - الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ

﴿الَّذِي خَلَقَ﴾: الله تعالى هو الإله الخالق للكون، وهو تعالى الخالق البديع الحكيم الرّحيم بعباده، وهو الخالق لكلّ ما في السّموات والأرض، ومنزّه عز وجل عن أن يكون له شريكٌ فيما خلق فهو ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾.

والله تعالى خالقٌ، ورحمنٌ، ورحيمٌ، وقهّارٌ، وهو خالق حتّى قبل أن يظهر ما خلق؛ لأنّه بصفة الخالقيّة فيه خَلَقَ، وهو رازقٌ قبل أن يخلق المرزوق، فالصّفة موجودةٌ فيه قائمةٌ به، ونقول نقاشاً: بوجود هذه الصّفات فيه تعالى يقول للشّيء: ﴿كن﴾ فيكون، وإذا جاء الرّسول وأبلغنا أنّ الله تعالى هو الّذي خلق الشّمس، فإمّا أن يكون صادقاً فنسلّم جميعاً بأنّ الله هو الخالق والموجد، وإمّا أنّه غير صادق، فنقول: فلماذا لم يخرج أحدٌ يدّعي أنّه هو الّذي خلقها؟! ولكن دقّة وإعجاز الخلق الّذي لا يمكن أن تصل إليه قوّةٌ بشريّةٌ مفردة، أو قوى بشريّة متعدّدة متعاونة، جعل القضيّة -بالنّقاش الفلسفيّ- محسومة لله تعالى، بما أنّه لا يوجد منازع، وعندما يأتي رسولٌ ليقول: إنّ خالق الأرض والشّمس والسّموات والكون هو الله تعالى، ولم يأت أحدٌ يدّعي أنّه خلق شيئاً من هذا، فصحّة الدّعوى تبقى حتّى يأتي من ينقضها، فالله تعالى قوّةٌ بلا حدود، وقدرةٌ بلا قيود، والله تعالى يسأل: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطّور]، فإذا كان الجواب: لا هذا ولا هذه، فلا هم خُلِقوا هكذا من غير شيءٍ ولا هم الخالقون، وأبلغنا الله تعالى: بأنّه خلقنا وخلق الكون، وبيّن ذلك في كثيرٍ من الآيات القرآنيّة الّتي تتوافق مع العلم، ولله تعالى آياتٌ في كونه، فحينما نتأمّل في الكون من حولنا نجد آياتٍ تدلّ على إبداع الخالق تعالى وعجيب صنعته، ونجد تناسقاً وانسجاماً بين هذه الآيات الكونيّة: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ [فصّلت: من الآية 37]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾ [الشّورى]، وهذه الآيات وغيرها تلفتنا إلى قدرة الله الخالق تعالى.

والخالق جلّ وعلا خلق الكون بأرضه وسمائه، وخلق الخلق، وأنزل القرآن الكريم، ولم يترك الكون هكذا يعمل ميكانيكيّاً، ولم ينعزل عن كونه وعن خلقه؛ لأنّهم في حاجةٍ إلى قيّوميّته تعالى في خلقه.

وقد يشترك الخلق مع الخالق في بعض الصّفات، كما في قوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: من الآية 14]، فهناك من يخلق، ولكنّ الخلق هو الإيجاد من عدم، وهو لله تعالى فقط، فالّذي جاء بالرّمل وصنع منه كوباً فهو خالقٌ للكوب صانعٌ له، أوجد شيئاً لم يكن موجوداً، لكن من شيءٍ موجود، أمّا الله تعالى فأوجد الوجود من لا موجود، والله تعالى احترم إيجاد الإنسان فسمّاه خالقاً له، فهو تعالى أحسن الخالقين، وخير الرّازقين، وخير الوارثين، وخير الماكرين، ومن الأولى أن نلتفت إلى الخالق العظيم الّذي أبدع لنا هذا الكون، وإلى بديع صنعه، وضرورة الإيمان به، فالله تعالى خلق لنا السّموات والأرض، وأوجد لنا الماء والهواء، ووضع في الأرض أقواتها إلى يوم القيامة، قال تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر]، ولذلك عندما جاء الإسلام ليعرض العلم التّجريبيّ أو المادّيّ لفتنا إلى آيات الخالق في الكون، وطلب منّا أن نتأمّل في هذه الآيات ونُعْمِلَ فيها العقل والإدراك، يقول تعالى﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف]، فيلفتنا الله عز وجل إلى آياته لنُعمل فيها العقل ونستنبط منها ما يعطينا الحضارة، والله تعالى خلق السّموات والأرض على غير مثالٍ سابق، قال تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: من الآية 117]؛ أي لم يكن هناك سماءٌ أو أرضٌ أو ملائكة أو جنّ أو إنسان، ثمّ أوجد الله تعالى متشابهاً لهم في شكل أو حجم أو قدرة؛ أي: أنّه تعالى لم يلجأ إلى ما نسمّيه نحن بالقالب، فمسألة خلق السّموات والأرض يجب أن يبدأ منها التّعجّب، وأن نفطن ونشهد أنّه لا إله إلّا الله.

﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾:: وكلمة السّموات في اللّغة جمع، وفي آيةٍ أخرى يقول سبحانه: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [فصّلت]، وقديماً كانوا يقولون: إنّ المقصود بالسّبع سموات هو الكواكب: الشّمس والقمر وعطارد والزّهرة والمرّيخ والمشتري والأرض، وشاء تعالى أن يكذّب هذا القول وأصحابه أحياء، فرأى علماء الفلك كواكب أخرى، مثل: نبتون وبلوتو… وكان في ذلك لفتة سماويّة لمن قالوا: إنّ المقصود بالسّموات السّبع هو الكواكب، وبعضهم قالوا هذا القول بحسن نيّة وبرغبةٍ في ربط القرآن الكريم بالعلم، لكنّهم نسوا أن يدقِّقوا الفهم لما في كتاب الله عز وجل، فسبحانه قد أوضح أنّ الشّمس والقمر والكواكب زينة السّماء الدّنيا، فما بالنا بطبيعة وزينة بقيّة السّموات؟ ويقول الحقّ تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾ [المؤمنون: من الآية 17]، وطرائق: جمع طريقة؛ أي: مطروقة للملائكة، والشّيء المطروق ما له حجم يتسّع بالطّرق، كما تطرق قطعة من الحديد مثلاً، فلننظر إلى السّماء واتّساعها ولنَقُل: سبحان من طرقها، ونلحظ أنّ الله تعالى لم يذكر هنا الأرض، لماذا؟ قالوا: لأنّ الأرض نقف عليها ثابتين لا نخاف من شيءٍ، إنّما الخوف من السّماء أن تندكّ فوقنا، لذلك يقول تعالى بعدها: ﴿وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾ [المؤمنون: من الآية 17]، فلن نغفل عن السّماء من فوقكم وسوف نُمسكها بأيدينا، والحقّ تعالى يعطينا الدّليل الحسّيّ على هذا، وكيف أنّ الله تعالى رفع السّماء فوقنا بلا عمد، ومثال ذلك الطّير يُمسكه الله تعالى في السّماء: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾ [الملك].

والسّماء: هي كلّ ما علاك فأظلّك، هذا معنى السّماء في اللّغة، لكن هل السّماء الّتي يريدها الله تعالى هي كلّ ما علانا؟  إنّ النّجم هو ما علانا، وقد يُقال: إنّ الشّمس علتنا والقمر كذلك.

وقد خلق الله تعالى السّموات طبقات فوق بعضها، والحقّ تعالى يقول: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ [الانشقاق]، يعني: طبقاً بعد طبق، فلا يرى النّاظر أيّ خللٍ في هذا الخلق، وليُعِد الإنسان النّظر إلى السّماء فلن يجد أيّ خلل من شقوق أو فروق.

﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ ﴾: فبرحمته تعالى خلق الكون على هذه الكيفيّة، فأتى الحقّ تعالى بالاسم الذّي كان يجب أن نقدّره حقّ قدره وهو (الرّحمن)، فنحن نعيش في كونه الّذي أعدّه لنا برحمته.

﴿مِنْ تَفَاوُتٍ﴾: انظر إلى أمهر الصّنّاع الآن يسوّي سقفاً لعدّة حجرات ويستخدم مادّةً واحدةً، ويلوّنها بلونٍ واحدٍ، لا بدّ أن تجد اختلافاً من واحدة للأخرى.

وقوله تعالى: ﴿مِنْ تَفَاوُتٍ﴾: من أيّ اختلاف.

فنحن لا نرى في خلق الله عز وجل اختلافا في الخلقة والصّنعة، فهي مستوية لا تنافر فيها ولا نقص ولا عيب ولا خلل، ولا نرى في السّماء اضطراباً ولا اعوجاجاً.

﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾: فليعد الإنسان النّظر إلى السّماء مرّةً أخرى، وليس مجرّد النّظر، بل النّظر المقترن بالتّأمّل والتّفكّر في خلق الله تعالى، فهو بصر وليس نظراً حسّيّاً مجرّداً، لذلك قال تعالى:  ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾.

وقد نظنّ أنّ بعض الألفاظ معناها واحدٌ في الجملة، إلّا أنّ لكلّ لفظٍ منها ملحظاً، فمثلاً: رأى، نظر، لمح، رمق، رنا.. كلّ هذه تدلّ على البصر والرّؤية؛ لكن لكلّ لفظ معنى: فـــ: رمق: رأى بمؤخّر عينه، ولمح: شاهد من بعد، رنا: نظر بإطالة… وهكذا. والبصر مهمّة العين في الأمور الحسّيّة، لكن عندما يقترن البصر بالبصيرة فيضيء القلب بالنّور حتّى يصل ببصره إلى إدراك أنّ خلق الله تعالى لا يعتريه تفاوتٌ ولا خلل، فمَنْ وهبه الله عز وجل دقّة العلم يرى يإشعاعات البصر والعلم عالم الملكوت، ويستخرج الأسرار ويستنبط الحقائق.

﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾: فليُعد الإنسان النّظر إلى السّماء مرّة أخرى فلن يجد أيّ خلل من شقوق أو فروق.

﴿ فُطُورٍ ﴾: هنا معناها شقوق.

فالسّماء العليا هي بشكلٍ واحدٍ لا ترى فيها من فطور، والحقّ تعالى قد أحكم خلق السّماء، فقال تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [الذّاريات]، وفي آيةٍ أخرى قال عز وجل: ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ﴾ [الذّاريات]، يعني محبوكة ومحكمة، والحبكة معناها أنّ ذرّاتها ملتحمة مع بعضها، ليس التحاماً كلّيّاً، إنّما التحام ذرّات، لذلك ترى السّماء ملساء، وقد قال عنها الخالق عز وجل: ﴿ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴾ [النّازعات]، وعلينا أن ننظر إلى السّماء حال صفائها وسوف نراها ملساء لا نتوء فيها ولا اعوجاج على اتّساعها، هكذا قائمة بلا عمد. ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾: ، إنّه نظامٌ دقيقٌ مُحكم، لا دخل للإنسان فيه.

اصنعوا ميزاناً في الأمور كلّها الّتي لكم فيها اختيار حتّى لا تطغوا في الميزان، فكمال قدرة الله تعالى أحكمت خلق السّماء، ﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ﴾ [الرّحمن]، هذا ميزان السّماء فليستقم وليتوازن ميزان الأرض.

«الَّذِي» بدل ثان من اسم الموصول

«خَلَقَ» ماض فاعله مستتر

«سَبْعَ سَماواتٍ» مفعول به مضاف إلى سموات والجملة صلة

«طِباقاً» صفة سبع

«ما تَرى» ما نافية ومضارع فاعله مستتر

«فِي خَلْقِ» متعلقان بالفعل

«الرَّحْمنِ» مضاف إليه

«مِنْ تَفاوُتٍ» مجرور لفظا بمن الزائدة منصوب محلا مفعول ترى والجملة استئنافية لا محل لها

«فَارْجِعِ» الفاء الفصيحة وأمر فاعله مستتر

«الْبَصَرَ» مفعول به والجملة جواب شرط مقدر لا محل لها

«هَلْ تَرى» هل حرف استفهام ومضارع فاعله مستتر

«مِنْ فُطُورٍ» فطور مجرور لفظا بمن الزائدة منصوب محلا مفعول ترى والجملة في محل نصب بفعل محذوف.

 

  طباقا كلّ سَماءٍ مَقـْـــِبـيّة على الأخرى
  تفاوت اختلاف وعَدَم تناسب
  فطور شقوق وصدوع أو خلل