الآية رقم (2) - الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ

الله سبحانه وتعالى جعل للإنسان روحاً يهبه بها الحياة، ولذلك لنا أن نتصوّر أنّ للموت حقيقة، فإذا ما تسلّل للإنسان فإنّه يسلب الرّوح منه.

وبذلك نستطيع أن نفهم قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ﴾، فالموت ليس عمليّةً سلبيّةً كما يتوهّم بعض النّاس، بل هو عمليّةٌ إيجابيّة، وهو مخلوقٌ بسرٍّ دقيق للغاية يناسب دقّة الصّانع.

والحقّ سبحانه وتعالى هنا قدّم الموت على الحياة، مع أنّنا في ظاهر الأمر نرى أنّ الحياة تأتي أوّلاً ثمّ يأتي الموت، لا، إنّ الموت يكون أوّلاً، ومن بعده تكون الحياة، فالحياة تعطي للإنسان ذاتيّةً ليستقبل بها الأسباب المخلوقة، فيحرث الأرض أو يتاجر في الأشياء أو يصنع ما يلائم حياته، ويمتّع به سمعه وبصره فيظنّ أنّ الحياة هي المخلوقة أوّلاً.

ينبّهنا الله سبحانه وتعالى هنا ويقول: لا تستقبلوا الحياة إلّا إذا استقبلتم قبلها ما يناقضها، وبما أنّ الإنسان خُلق فهو ميّت، فيقول لنا عن نفسه: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ﴾، وهذا ما يسهّل علينا فهم الحديث القدسيّ الشّريف الّذي يشرح لنا كيف يكون الحال بعد أن يوجد أهل الجنّة في الجنّة وأهل النّار في النّار، ويأتي الحقّ سبحانه وتعالى بالموت في صورة كبش ويذبحه، فعن أبي هريرة t قال، قال رسول الله ﷺ: «يُؤْتَى بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُوقَفُ عَلَى الصِّرَاطِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَطَّلِعُونَ خَائِفِينَ وَجِلِينَ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ مَكَانِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَطَّلِعُونَ مُسْتَبْشِرِينَ فَرِحِينَ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ مَكَانِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ، فَيُقَالُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْفَرِيقَيْنِ كِلَاهُمَا: خُلُودٌ فِيمَا تَجِدُونَ، لَا مَوْتَ فِيهَا أَبَداً»([1])، وتجسيد الموت في صورة كبش كما جاء في الحديث معناه أنّ للموت كينونة،  فيعلّمنا الله سبحانه وتعالى أنّه يقضي على الموت فنحيا في خلودٍ بلا موت.

والله سبحانه وتعالى هو الّذي خلق الموت والحياة وهو الباقي الّذي لا يموت، وليس في حاجةٍ لاستبقاء حياته إلى أحدٍ من البشر؛ فهو سبحانه وتعالى قادرٌ على كلّ شيءٍ ولا يَخرُجُ شيءٌ عن نطاق قدرته، وهو سبحانه وتعالى قبل أن يمتنّ علينا بالحياة، فهو يحذّرنا أن يأخذنا الغرور بها، وينبّهنا إلى أن نستقبلها ونحن نعرف أنّه جل جلاله أوجد ناقض الحياة، وهو الموت، والله سبحانه وتعالى لم يقل: إنّه خلق الحياة والموت، بل قال: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾، وذلك حتّى نستقبل جميعاً الحياة وقد سبق في أذهاننا الموت، وحتّى لا نتعالى ونتغافل عن هذه النّهاية، فلنرتّب حركة الحياة على هذا الأساس، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزّمر]، وقال جل جلاله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران]، وكان نقش خاتم سيّدنا عمر t: “كفى بالموت واعظاً يا عمر”([2])، وقال سيّدنا عليّ كرّم الله وجهه: “النَّاسُ نِيَامٌ، فَإِذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا”([3])، وممّا قيل عن الموت:

نسير إلى الآجال في كلّ لحظةٍ
ولم أَرَ مثلَ الموتِ حقّاً كَأنّما
وما أصعب التّفريط في زمنِ الصِّبا
تَرَحَّلْ من الدُّنيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى                     .
وأعمَارُنا تُطوى وهُنَّ مَرَاحِلُ
إذا ما تخَطّته الأمَانيُّ بَاطِلُ
فكيفَ بِهِ والشَّيبُ للرّأسِ شَامِلُ
فَعُمرُكَ أيّــــــامٌ وَهُنَّ قلائلُ
.

هذه حقيقة الموت، وقد كان سيّدنا عمر بن عبد العزيز يقول: “يا ساكن القبر غداً، ما غرّك من الدّنيا، هل تعلم أنّك تبقى أو تبقى لك؟! جاء الأمر من السّماء، جاء غالب القدر والقضاء، جاء من الأمر الأجل ما يمتنع منه، هيهات، يا مغمض الوالد والولد والأخ ومكفّنه، يا مغسّل الميت ومخلّيه، يا تاركه وذاهباً عنه، ماذا تقول لملك الموت؟”، فهذا أمرٌ منتهٍ، وكلّنا يرى بعينه: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾ [طه]، من التّراب وإلى التّراب، هذه حقيقة:

إنَّ الطّبيبَ لهُ علمٌ يُدِلُّ بِه
حتّى إذا مــا انتهت أيّامُ رحلتِه                     .
إن كان للمرءِ في الأيّامِ تأخيرُ
حـارَ الطّبيبُ وخانتـــــــــه العقـاقيرُ
.

انتهى أمر الأجل، مهما بلغ الإنسان من مال وسطوة وسلطان…

هَبْ أنّك قد ملكت الأرض طُرّاً
أليس غداً مصيرك جوف قبرٍ                     .
ودانَ لك البلاد فكان ماذا؟!
ويحثو التّرب هذا ثمّ هذا؟!
.

وكان سيّدنا عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه يقول: “مسكينٌ ابنُ آدَمَ، مَكتومُ الأجل، مَكنونُ العِلَل، محفوظ العمل، تؤلِمه البقَّة، وتقتله الشَّرْقَةُ، وَتُنتِنهُ العَرْقَة، عجبت كيف يفرح بالدّنيا مَن يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، كيف يفرح بالدّنيا مَن تقوده حياته إلى موته ويقوده عمره إلى أجله”. هذه هي حقيقة الحياة والموت، ليس هذا الكلام لكي يزهد الإنسان وينتظر الموت، بل ليجعل حساباته صحيحة ودقيقة، ولينظر بأنّ هذه الحياة لها نهاية، وأنّ الصّورة لم تكتمل، وأنّه عليه أن يصبر، ويتوقّع الابتلاءات والأمراض والموت، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة]، لماذا قدّم الله سبحانه وتعالى الصّبر؟ لأنّ هذه الحياة فيها موتٌ وأمراضٌ وابتلاءات، ولا يستطيع إنسان أبداً مهما حاول أن يُبعد الابتلاءات عن حياته، مهما بلغ من شأنه، فعندما تكون معادلة الحياة أمامنا هكذا فالإنسان يُحسن العمل والأخلاق، فلا يسرق ولا يرتشي ولا يكذب ولا ينمّ.. ويُحبّ الآخرين ويتقبّلهم، ويعيش بأمنٍ واطمئنان وسلامٍ ورضىً بقضاء الله سبحانه وتعالى، فيكون إصلاح الحياة بفكرة الموت في معادلة الحياة، وهي موجودة، فهل استطاع أحدٌ أن يؤخِّر إنساناً عن الموت ولو للحظة واحدة؟! قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾[الأعراف: من الآية 34]، فهذا الأمر محسوم، فلماذا لا يكون الإنسان كما قال بعضهم: “اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً”؟!، وقد بيّن لنا القرآن الكريم ذلك فقال: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [القصص: من الآية 77]، هذا اختصار المعادلة كلّها الّتي يجب أن يعيش الإنسان من خلالها.

﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾: وجودنا في الحياة هو ابتلاء، فالإنسان يحاسب على عمله، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ [النّجم]، فالإنسان على عمله، والإنسان بما يقدّم في حياته الدّنيا من عمل، ويصل بها إلى رحمات الله سبحانه وتعالى.

﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾: العزيز؛ أي المستغني عن عبادة خلقه، فالله سبحانه وتعالى لا يضرّه كُفْرُنَا ولا ينفعه إيمانُنَا، ولكن هي أعمالنا يحصيها لنا، وفي الحديث القدسيّ: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئاً، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً، فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»([4])، فهو مستغنٍ عن عبادة خلقه، ولولا مغفرته لذنوب عباده ما دخل أحدٌ الجنّة، قال ﷺ: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَداً عَمَلُهُ الجَنَّةَ»، قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَا، وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ»([5])، فمن صفاته سبحانه وتعالى بأنّه غفورٌ، وأنّه يجازي الإنسان على عمله، قال سبحانه وتعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزّلزلة]، فهو العزيز الغالب القادر لا يستطيع أحدٌ أن يعلو عليه، وهو سبحانه وتعالى العزيز المطلق، لا إله إلّا هو: ﴿ رَبِّ الْعِزَّةِ ﴾ [الصّافّات: من الآية 180]، العزّة في كلّ ألوانها له سبحانه وتعالى، وهو سبحانه وتعالى الغفور؛ لأنّه سبحانه وتعالى بعزّته يغفر ويصفح عن المذنبين: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[المائدة].

([1]) سنن ابن ماجه: كتاب الزّهد، بَابُ ذِكْرِ الشَّفَاعَةِ، الحديث رقم (4327).

([2]) موطّأ الإمام مالك: رجال الموطّأ، عمر بن الخطّاب t، الحديث رقم (266).

([3]) كشف الخفاء ومزيل الإلباس: المجلّد الثّاني، حرف النّون، الحديث رقم (2795).

([4]) صحيح مسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تحريم الظّلم، الحديث رقم (2577).

([5]) صحيح البخاريّ: كتاب المرضى، بَابُ تَمَنِّي الـمَرِيضِ الـمَوْتَ، الحديث رقم (5673).

«الَّذِي» بدل

«خَلَقَ» ماض وفاعله مستتر

«الْمَوْتَ» مفعول به والجملة صلة

«وَالْحَياةَ» معطوفة على الموت

«لِيَبْلُوَكُمْ» مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل مستتر والكاف مفعول به والمصدر المؤول من أن والفعل في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بخلق

«أَيُّكُمْ» اسم استفهام مبتدأ

«أَحْسَنُ» خبره

«عَمَلًا» تمييز والجملة الاسمية مفعول به ثان ليبلوكم

«وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» مبتدأ وخبراه والجملة حال.

خلق الموت أوْدَه . أو قدّرَه أزلاً
ليبلوكم ليَختبركم فيما بين الحياة والموت
أحسن عملا أصْوبَه وأخلَصَه أو أسْرَع طاعة