﴿الر﴾: الأحرف المقطّعة هي من الآيات المتشابهات؛ أي فيها تأويلٌ، ولا يعلم تأويلها إلّا الله عز وجل، وقد يتبيّن لنا جزءٌ من هذا التّأويل، وهي أسرار روحيّة تتعلّق بافتتاح أو بمفتاح هذه السّورة.
وقد قال العلماء في الأحرف المقطّعة أقوالاً كثيرةً فسّرناها سابقاً.
﴿كِتَابٌ﴾: إذا أُطلقت كلمة (كتاب) انصرف معناها إلى القرآن الكريم، فهو يسمّى كتاباً وقرآناً وتنزيلاً، وله أسماءٌ كثيرةٌ، وكلمة (كتاب) تدلّ على أنّه مكتوبٌ، وكلمة (قرآن) تدلّ على أنّه مقروءٌ، وهذان الاسمان هما العُمدة في أسماء القرآن الكريم؛ لأنّه كتاب مقروءٌ ومكتوبٌ.
﴿أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ﴾: كلمة ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ تدلّ على أنّه جاء من علوٍّ، وقول الحق: ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ للتّعدّي؛ أي من منطقة اللّوح المحفوظ ليُباشر مهمّته في الوجود.
﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾: إنزال القرآن الكريم إليك يا محمّد لتُخرج النّاس من الظّلمات إلى النّور، ولم يقل الحقّ سبحانه وتعالى لرسول الله ﷺ ما قاله للرّسل السّابقين الّذين كانت رسالة كلٍّ منهم محدّدة بقومٍ معيّن، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾]الأعراف[، ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾ ]الأعراف: 85[، وعن سيّدنا عيسى عليه السلام قال: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ ]آل عمران: من الآية 49[، أمّا سيّدنا رسول الله فقد بعثه الله جل جلاله إلى النّاس كافّة، فقال: ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ﴾، ولم يقل: (لتخرج قومك)، وهذا دليلٌ على عموميّة الإسلام وعموميّة الرّسالة، ويعزّزها قول الحقّ تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾]الأعراف: من الآية 158[، وبذلك تبطل حُجّة من قالوا: بأنّه مرسلٌ للعرب فقط، فهنا لدينا اصطفاءين لسيّدنا رسول الله ﷺ، الاصطفاء الأوّل أنّ الحقّ سبحانه وتعالى اختاره رسولاً، ومجرّد اختياره رسولاً فهذه منزلةٌ عاليةٌ عظيمةٌ، أمّا الاصطفاء الثّاني والعظيم بأنّه رسولٌ للنّاس كافّةً لكلّ الأزمان والأماكن، ولكلّ النّاس واللّغات والقوميّات، وهذه منزلةٌ عاليةٌ أخرى؛ لأنّها تستوعب المكان والزّمان والألسنة والأقوام.
ثمّ يأتي الإعجاز في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾، ولم يقل: (من الظّلمات إلى الأنوار)، هذا كلام الله جل جلاله، والفارق بين كلام الله سبحانه وتعالى وكلام البشر كالفارق بين الله سبحانه وتعالى وبين البشر، فقد شاء جل جلاله أن يأتي بالظّلمات كجمعٍ ويأتي بالنّور كمفردٍ؛ لأنّ النّور واحدٌ لا يتعدّد، أمّا الظّلمات فمتعدّدة بتعدّد الأهواء، ظلمةٌ هنا وظلمةٌ هناك، وهكذا يشاء الله سبحانه وتعالى أن يجلّي المعاني بالـمُحسّات الّتي يُدركها الجميع، فلا شكّ أنّ الظّلمة تستر الأشياء الّتي قد يصطدم بها الإنسان، أمّا النّور فهو يوضّح الأشياء، بل ونحتاج أيضاً إلى نورٍ يجلّي المظاهر المعنويّة من حقدٍ وحسدٍ وخوفٍ وأمنٍ واطمئنانٍ وأمانةٍ ووفاءٍ وغير ذلك، هذا هو النّور الّذي جاء به سيّدنا رسول الله ﷺ يجلّي الحسّ والمعنى في آنٍ واحدٍ لنتجنّب الأشياء الّتي تطمسها الظّلمة، ولنسير على بيّنةٍ من المعاني، ولذلك يُفسّر لنا الحقّ سبحانه وتعالى الأمر المعنويّ فيقول: ﴿ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، هذا هو الصّراط المستقيم الّذي بدأنا به: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ]الفاتحة[، الّذي يُخرجنا إليه محمّد بن عبد الله ﷺ، ويريد الحقّ سبحانه وتعالى أن يجلّي لنا الطّريق إلى هذا الصّراط، فجاء بالظّلمات والنّور ليوضّح هذا المعنى، حيث يكون الطّريق المستقيم هو أقصر وسيلةٍ للغاية المرجوّة من الحياة الدّنيا والآخرة، ويكون طريق الظّلمات هو الطّريق غير الآمن.
﴿إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾: العزيز: هو الّذي يَغلب ولا يُغلب، والحميد: هو من ثبتت له صفة الحمد من غيره، وإن لم يصدر حمد من غيره فهو حميدٌ في ذاته، ويجب أن يُحمد مع أنّك إن حمدته أو لم تحمده فهو حميدٌ، مثلاً، ولله المثل الأعلى، يُقال: بأنّ فلاناً حميد الخصال، فإذا مدحته أم لم تمدحه فهو حميد الخصال، فالله سبحانه وتعالى خالق قبل أن يخلق الخلق، وهو الرّازق قبل أن يخلق المرزوق، وهو مُعزٌّ قبل أن يوجد من يُعزّه، محمودٌ قبل أن يوجد من يحمده، توّابٌ قبل أن يوجد من يتوب عليه، هذا هو معنى الحميد.