الآية رقم (2) - اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ

﴿ اللَّهُ ﴾: عَلَمٌ على واجب الوجود، مطمورةٌ فيه صفات الكمال كلّها، وقد قال النّبيّ ,: «كلّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدَأ فيه ببسم الله الرّحمن الرّحيم أقطع»([1])؛ أي مقطوع النّتيجة؛ لأنّ كلّ عملٍ لا يُبدأ باسمه سبحانه وتعالى لا تستحضر فيه أنّه جل جلاله قد سخّر لك الأشياء، ولم تُسخّرها بقدرتك، لذلك المؤمن يدخل على أيّ عملٍ بحيثيّة (بسم الله الرّحمن الرّحيم)؛ لأنّه سبحانه وتعالى ذلّل كلّ شيءٍ للإنسان، ولو لم يذلّلها عز وجل لما استجابت لنا، وقد أوضح سبحانه وتعالى ذلك بأمثلةٍ بسيطةٍ، فنجد مثلاً أنّ الطّفل الصّغير يمسك بحبلٍ ويربطه في عنق الجمل ويأمره بأن ينخّ على أربعٍ فيمتثل الجمل لذلك، بينما نجد أنّ البرغوث الصّغير يجعل الإنسان ساهراً طوال اللّيل عندما يتسلّل إلى غرفته، ويبذل الإنسان كلّ الجهد ليمسك به أو ليتفاداه فلا يستطيع، وهكذا نعلم أنّ أحداً لم يسخّر الأشياء بإرادته أو مشيئته، ولكنّ الله سبحانه وتعالى هو الّذي يذلّل الكائنات لخدمة الإنسان، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَذَلَّلْنَٰهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴾]يس[، فكلمة الله سبحانه وتعالى هي الاسم الجامع لكلّ صفات الكمال.

﴿ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾: بدأ سبحانه وتعالى هذه الآية بالحديث عن العالم العلويّ ولم يتحدّث عن الأرض، وكلمة ﴿رَفَعَ﴾عندما نستعملها استعمالاً بشريّاً فهي تدلّ على أنّ شيئاً رُفِع عن موضعه إلى أعلى، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ﴾]يوسف: من الآية 100[، فقد رفعهما يوسف عليه السلام إلى موضعٍ أعلى ممّا كانا فيه، فهل كانت السّماء موضوعةً في موضعٍ أقلّ ثمّ رفعها الله تبارك وتعالى؟ الجواب: لا، بل خلقها الله سبحانه وتعالى مرفوعةً، وفي العُرف البشريّ فإنّ مقتضى رفع أيّ شيءٍ وجود أعمدةٍ تحته ترفعه، ولكنّ خلق الله جل جلاله يختلف، فنحن نرى السّماء مرفوعةً على امتداد الأفق، ولم نجد إنساناً يسير في أيّ اتّجاهٍ ويصطدم بأعمدةٍ، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾]الحجّ: من الآية 65[، فإذا كانت السّماء ممسوكةً من الأعلى فهي لا تحتاج إلى عمدٍ، وقوله جل جلاله: ﴿وَيُمْسِكُ﴾؛ أي أنّه سبحانه وتعالى وضع لها قوانين خاصّةً لم نعرفها بعد، وقد قام العلماء المعاصرون بمسح الأرض والفضاء بواسطة الأقمار الصّناعيّة وغيرها فلم يجدوا عمداً ترفع السّموات أو تمسكها، ممّا يعني أنّه سبحانه وتعالى إمّا أنّه حمل السّماء على أعمدةٍ أدقّ وألطف من أن نراها بأعيننا، أو أنّها مرفوعةٌ بغير أعمدةٍ على الإطلاق.

﴿السَّمَاوَاتِ ﴾: جمع سماء، هي كلّ ما علاك فأظلّك، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾]البقرة: من الآية 22[، فالمطر إنّما ينزل من السّحب الّتي تعلو الإنسان وتبدو معلّقةً في السّماء، وإذا أُطلقت كلمة السّماء انصرفت إلى السّماء العُليا الّتي تظلّل ما تحتها، وحين أراد النّاس معرفة ما هي السّماء، هل لها جُرم أو لا؟ هل هي امتدادٌ؟ أجواءٌ؟ هواءٌ؟ لم يتّفق العلماء على الإجابة، وقد نثر الله سبحانه وتعالى أدلّةً على وجوده وقدرته وحكمته وآلة صنعته في الكون ثمّ أعطى للإنسان الأدلّة في نفسه، فقال جل جلاله: ﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾]الذّاريات[، فإذا نظر الإنسان إلى نفسه يجد بها أسراراً عجيبةً، ويتعجّب من الآثار في نفسه الّتي اكتشفتها العقول وما كانت لتدركها سابقاً، وإذا نظر خارج نفسه سيجد أنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾]فصّلت: من الآية 53[، والسّين في قوله سبحانه وتعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ﴾حرف استقبالٍ؛ أي سنريهم دائماً، فهناك عطاءٌ جديدٌ إلى أن تقوم السّاعة، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾ ]غافر[، فحين نفكّر في خلق السّموات والأرض نجدها مسألةً في غاية الضّخامة، ونتحيّر في مسألة الخلق والتّكوين، وهذه كلّها آياتٌ تدلّ على وجود الله سبحانه وتعالى.

﴿عَمَدٍ﴾: اسم جمعٍ، مفردها: عمود أو عِماد، وقد جاءت هذه الآية بمثابة تفسيرٍ لما أُجمل في قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾]يوسف[، فجاء سبحانه وتعالى هنا بالتّفصيل، فأوضح لنا أنّه رفع السّموات بغير عمدٍ ترونها؛ أي لا ترونها بحكم قانون إبصاركم، فالعين وسيلةٌ من وسائل الإدراك لها قانونٌ خاصٌّ، فهي ترى بعض الأشياء ولا ترى أشياء أخرى، فقانون الإبصار له مدىً محدّد، والإنسان غير قادرٍ على إدراك كلّ شيءٍ، والآفاق تختلف من إنسانٍ لآخر، وفي التّعبير اليوميّ الشّائع: فلانٌ ضيّق الأفق؛ أي لا يرى إلّا ما تحت قدميه.

بالنّسبة إلى كتاب الله سبحانه وتعالى علينا أن نكتفي بمعرفة ما يطلبه الله جل جلاله منّا، قال عز وجل: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ﴾]الإسراء[، وقد حجز الحقّ سبحانه وتعالى على المتطفّل أمرين، فلا داعي أن نرهق أنفسنا فيهما، الأمر الأوّل: كيفيّة خلق الإنسان، والأمر الثّاني: كيفيّة خلق السّموات والأرض، قال سبحانه وتعالى: ﴿مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ﴾ ]الكهف: من الآية 51[، ولو كان الله سبحانه وتعالى يريد أن نعلم شيئاً عن تفاصيل هذين الأمرين لأشهد خلقهما لبعض البشر، لكنّه سبحانه وتعالى نفى هذا الإشهاد، لذلك ستظلّ هذه المسألة لغزاً للأبد، يبحث الإنسان بعقله لكن لن يصل إلى نتيجةٍ، والله سبحانه وتعالى أوضح لنا أنّه قد خلقنا من طينٍ ونفخ من روحه، فلنسمع منه كيف خلق الكون، ويدلّ الإعجاز البيانيّ في القرآن الكريم على أنّ بعضاً ممّن يملكون الطّموح أرادوا أن يأخذوا من القرآن أدلّةً على صحّة بعض النّظريات الّتي افترضوها عن خلق الإنسان وخلق الأرض، لكنّه سبحانه وتعالى قال: ﴿ مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ﴾]الكهف[، والمضلّ هو من يضلّل بالمعلومات.

﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾: هذه القضيّة هي أهمّ قضيّةٍ كلاميّةٍ ناقشها علماء الكلام، قضيّة الاستواء على العرش، وحتّى نفهم أيّ قضيّةٍ لا بدّ أن نحلّل ألفاظها لنتّفق على معانيها، ثمّ نبحث جملةً جملةً، وحين نستقرئ كلمة ﴿اسْتَوَى﴾ في القرآن الكريم نجدها قد وردت في آياتٍ عديدةٍ، فقد جاءت مرّةً بمعنى الاستواء؛ أي النّضج، في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾]القصص[؛ أي أنّه قد بلغ نضجه وأصبح رجلاً صالحاً لممارسة ما يُبقي نوعه، وإن تزوّج فسوف ينجب مثله، هذا استواء المخلوق الّذي هو الإنسان، ومرّةً أخرى جاءت بمعنى صعد، قال سبحانه وتعالى: ﴿ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ﴾]النّجم[، والمقصود صعود النّبيّ , وجبريل عليه السلام إلى الأفق الأعلى، وجاءت بقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ]البقرة: من الآية 29[، وإيّاك أن تظنّ أنّ استواءه سبحانه وتعالى إلى السّماء مساوٍ لاستواء البشر، فكلّ شيءٍ بالنّسبة إلى الله عز وجل إنّما نأخذه في إطار: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾]الشّورى: من الآية 11[، والاستواء المطلق شيءٌ مختلفٌ عن الاستواء على العرش، وقد ورد الاستواء على العرش في سبعة مواضع في القرآن الكريم، في سورة (الأعراف) و(يونس) و(الرّعد) و(طه) و(الفرقان) و(السّجدة) و(الحديد)، وورد ذكر العرش في القرآن الكريم بالنّسبة إلى الله جلّ وعلا إحدى وعشرين مرّةً، وهي المواضع الآتية: 1- ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَـوَاتِ وَالأرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾]الأعراف: من الآية 54[، 2- ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾]التّوبة: من الآية 129[، 3- ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَـوَاتِ وَالأرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾]يونس: من الآية 3[، 4- ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ﴾]هود: من الآية 7[، 5- ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ﴾]الرّعد: من الآية 2[، 6- ﴿قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا﴾]الإسراء[، 7- ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾]طه[، 8- ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ ]الأنبياء: من الآية 22[، 9- ﴿ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾]المؤمنون[، 10- ﴿ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾]المؤمنون: من الآية 116[، 11- ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ﴾]الفرقان: من الآية 59[، 12- ﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾]النّمل[، 13- ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ ]السّجدة: من الآية 4[، 14- ﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾]الزّمر: من الآية 75[، 15- ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ ]غافر: من الآية 7[، 16- ﴿ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ﴾]غافر: من الآية 15[، 17- ﴿سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾]الزّخرف[، 18- ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ﴾]الحديد: من الآية 4[، 19-﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾]الحاقّة: من الآية 17[، 20-﴿ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى ٱلْعَرْشِ مَكِينٍۢ ﴾ ]التّكوير[، 21- ﴿ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴾]البروج[، وورد بالنّسبة إلى بلقيس أربع مرّاتٍ، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ﴾]النّمل: من الآية 23[، وقال أيضاً: ﴿ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ﴾]النّمل: من الآية 38[، وقال: ﴿ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا ﴾]النّمل: من الآية 41[، وقال جل جلاله: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَٰكَذَا عَرْشُكِ﴾ ]النّمل: من الآية 42[، وبالنّسبة إلى يوسف عليه السلام مرّةً واحدً، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾]يوسف: من الآية 100[، فلا يمكن أن نأخذ الاستواء بالنّسبة إلى الله سبحانه وتعالى على أنّ معناه النّضج؛ لأنّ النّضج إشعارٌ بكمالٍ كان قبله نقصٌ، وهذا بالنّسبة إلى الإنسان عندما يكبر، فهنا عندما يقول سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ فللعلماء فيها عدّة أقوالٍ، منها: استقرّ وعلا، بما يتناسب مع كمال الله جل جلاله، وقد قال الإمام مالك: “الاستواء معلومٌ، والكَيْف مجهولٌ، والإيمان به واجبٌ، والسّؤال عنه بدعة”، والمعاصرون لرسول الله , لم يسألوا عن تلك الكيفيّة مع أنّهم سألوا عن أمورٍ كثيرةٍ، فقد فهموا الاستواء بما يناسب كمال الله سبحانه وتعالى بمَلَكتهم الفطريّة، وجاء السّؤال من المتأخّرين الّذين تمحّكوا بالفلسفة، فقال أحدهم: سآخذ الألفاظ بمعناها، فإن قال: إنّ له صعوداً فهو يصعد، وإن قال: إنّ له استواءً فهو يستوي، ومن قال ذلك نردّ عليه بقولنا: لايليق أن تقول ذلك عن الّذي يُغيّر ولايتغيّر، ومعنى كلمة (استواء) هنا أنّه استتبّ له الأمر، وقد يسأل سائلٌ: هل كان الأمر قبل ذلك غير مستتبٍّ لله عز وجل؟ الجواب: لا يصحّ هذا، فنحن نعلم أنّ لله سبحانه وتعالى صفاتاً متعدّدةً، هذه الصّفات كانت موجودةً قبل أن يخلق الله عز وجل الخلق كلّه، فسبحانه موصوفٌ أنّه خالقٌ قبل أن يخلق، ومُعِزٌّ قبل أن يخلق من يُعِزّه، ومذِلٌّ قبل أن يخلق من يذِلّه، فله سبحانه وتعالى صفات الكمال المطلق، وبهذه الصّفات خلق الخلق، ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ ]طه[، هذا كان جواب موسى عليه السلام لفرعون، فسبحانه حين خلق السّموات السّبع والأرض أبرز الصّفة الّتي كانت موجودةً فيه وليس لها متعلَّقٌ، فإذا ذُكِر استواء الله عز وجل فهذا يعني تمام المراد له.

﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾: التّسخير هو طلب الـمُسخِّر أن يكون كما أراد، بحيث لا تكون له رغبةٌ ولا رأيٌ ولا هوىً، وضدّ التّسخير الاختيار، فالكائن الّذي له اختيارٌ إن شاء فعلَ وإن شاء لم يفعل، قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾]الأحزاب[، فأبَت السّماء والأرض والجبال تحمّل الأمانة وقت العرض وقَبِل كلٌّ منهم التّسخير، فلا الجبال ولا السّموات ولا الأرض لها قدرة الاختيار، وليس عندها هوىً، فهي تسير كما أمرها الله جل جلاله، والأجناس كلّها هكذا عدا الإنسان، لذلك لا يوجد فسادٌ في الأرض إلّا عنده، وقد قَبِل تحمّل الأمانة؛ لأنّ له عقلاً يفكّر ويختار بين البدائل، ويأتي الفساد نتيجة الهوى، ولو أقبل الإنسان على العمل وكأنّه مُسخَّرٌ خاضعٌ لمنهج الله عز وجل لاستقام عمله كما يستقيم عمل الكائنات الـمُسخّرة بأمر الله جل جلاله، فإذا أردتم استقامة أموركم في ما لكم فيه اختيارٌ فطبّقوا قول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿أَلَّا تَطْغَوْاْ فِى ٱلْمِيزَانِ﴾]الرّحمن[، ولننظر ماذا يطلب الله سبحانه وتعالى في منهجه، ولا يأتي الخلل إلّا من بعض الأعمال الّتي نعملها باختيارنا وتكون مخالفةً للاستقامة، فالشّمس والقمر سُخِّرا من قِبَل الله عز وجل لخدمة الإنسان.

﴿كُلٌّ ﴾: التّنوين يعني كلّاً من السّابق؛ أي الشّمس والقمر.

﴿يَجْرِي ﴾: الجري هو تقليل الزّمن عن المسافة، فعندما تريد الوصول إلى مكانٍ معيّنٍ قد تمشي فتصل خلال ساعةٍ، أمّا إذا قمتَ بالجري فإنّك تقطع المسافة في نصف ساعةٍ، والجري بطبيعة الحال ملحوظٌ ممّن يراك، لكن هل يرى أحدنا الشّمس وهي تجري؟ الجواب: لا؛ لأنّها تجري في ذاتها، وهذا النّوع من الجري هو جريٌ انسيابيٌّ لا تدركه العين المجرّدة، وهناك انتقالٌ قفزيٌّ، وانتقالٌ انسيابيٌّ، لننظر إلى عقارب السّاعة نجد عقرب الثّواني أسرع من عقرب الدّقائق الّذي يبدو ساكناً مع أنّه يتحرّك، فأنت ترى حركة عقرب الثّواني؛ لأنّها تتمّ قفزاً، بينما لا ترى حركة عقرب الدّقائق؛ لأنّه يتحرّك تِبعاً لدورةٍ هادئةٍ من التّروس داخل السّاعة، وكلّ جزئيّةٍ في حركة التّرس الخاصّ بعقرب الدّقائق تتأثّر بحركة ترس عقرب الثّواني، والحركة القفزيّة لعقرب الثّواني تتحوّل إلى حركةٍ انسيابيّةٍ في عقرب الدّقائق، وحركة كلٍّ من العقربين تتحوّل إلى حركةٍ انسيابيّةٍ في عقرب السّاعات، وهذا يعني أنّ كلّ جزئيّةٍ من الزّمن فيها جزئيّةٌ من الحركة، حتّى في نموّ الإنسان أو الحيوان أو النّبات نجد عمليّة النّمو غير ظاهرةٍ لنا؛ لأنّ الكائن الّذي ينمو إنّما ينمو بقدرٍ بسيط غير ملحوظٍ، وهذا القدر البسيط شائعٌ في اليوم كلّه، فهكذا يجب أن نفرّق بين الحركة القفزيّة والحركة الانسيابيّة.

﴿لِأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾: الأجل: هو المدّة المحدودة للشّيء، وهي محدودةٌ زمناً إن أردنا ظرف الزّمان، أو محدودةٌ بالمسافة إن أردنا المكان، والمقصود هنا بالأجل إمّا الأجل النّهائيّ لوجود الشّمس والقمر، ثمّ إذا انشقّت السّماء كوّرت الشّمس وانكدرت النّجوم، أو أنّ المقصود بالأجل التّعبير عن عملها اليوميّ، فمع أنّ المشرق له جهةٌ واحدةٌ لكنّ المطالع مختلفةٌ.

﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾: قد أوضح سبحانه وتعالى بأوّل الآية مسألة رفْع السّموات بغير عمدٍ، واستوائه على العرش، وتسخير الشّمس والقمر، وكيف يجري كلّ شيءٍ لأجلٍ مسمّى، كلّ ذلك يتطلّب تدبيراً للأمر، فهو يدبّر بقيمومته، فهو القائم على كلّ شيءٍ، ونضرب مثلاً لنوضّح لا لنشبّه، فسبحانه منزّهٌ عن التّشبيه، نقول: فلانٌ فكّر أوّلاً ثمّ دبّر، والتّفكير يطلب منك أن تبحث وتنقّب إلى أن تصل إلى لبّ الأشياء، والتّدبّر يقتضي ألّا تقتنع بما هداك إليه فكرك في نفس اللّحظة، ولكن أن تمحّص الأمر لتعرف ماذا سينتج بالتّجربة عن تنفيذ ما وصل إليه الفكر، فربّما ما فكّرت فيه يُسعفك ويعينك بشكلٍ آنيٍّ لكنّه سيأتي لك بعطبٍ بعد فترةٍ، فمثلاً اختراع المبيدات الحشريّة لم يُفطَن إلى أنّها لا تقتل الحشرات الضّارّة وحدها بل تسمّم الطّيور الّتي تفيد الفلّاح، ممّا أدّى إلى منع استخدامها، وجاء هذا المنع ممّن تفاخروا من قبل على شعوب الأرض باختراعها بعد ما فطنوا إلى أنّ ما جاءهم من خيرٍ عن طريقها هو أقلّ بكثيرٍ من الضّرّر الّذي وقع بسببها، وهذا يعني أنّهم لم يتدبّروا اختراعهم لتلك المبيدات بدقّةٍ، فقاموا بتصنيعها لتحصيل فائدةٍ عاجلةٍ دون أن يلتفتوا إلى الخطورة الآجلة، فالتّدبّر هو النّظر في دُبُر الأشياء، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾]محمّد[؛ أي انظر في أعماق القرآن الكريم، فالفكر لا بدّ له من تجربةٍ وتدبّرٍ وتدقيقٍ ونظرٍ في كلّ أمرٍ بالتّجربة والبرهان حتّى يحقّق لك ما يفيدك من غير ضررٍ لاحقٍ، وهو ما نسمّيه صيانة الأشياء؛ أي أنّه جعل الأمر مناسباً لكلّ شيءٍ، ولو خالف أهواءنا، فهو لمصلحة الإنسان.

﴿يُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾: يوضح الآيات والدّلالات على أنّه لا إله إلّا هو، وأنّه يُعيد الخلق إذا شاء كما ابتدأ خلقه.

﴿لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾: إنّ كثرة الأدلّة وبيانها ووضوحها، من أسباب حصول اليقين بالآخرة.

([1]) كنز العمّال: ج 1، ص 555، الحديث رقم (2491).

«اللَّهُ» لفظ الجلالة مبتدأ

«الَّذِي» خبر والجملة ابتدائية

«رَفَعَ» ماض فاعله مستتر والجملة صلة الموصول

«السَّماواتِ» مفعول به منصوب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم

«بِغَيْرِ» متعلقان بحال محذوفة

«عَمَدٍ» مضاف إليه

«تَرَوْنَها» مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والهاء مفعول به والجملة في محل جر صفة لعمد.

«ثُمَّ» عاطفة «اسْتَوى» ماض مبني على الفتح المقدر على الألف للتعذر وفاعله مستتر

«عَلَى الْعَرْشِ» متعلقان باستوى

«وَسَخَّرَ» ماض فاعله مستتر والجملة معطوفة

«الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» الشمس مفعول به والقمر معطوف عليه

«كُلٌّ» مبتدأ

«يَجْرِي» مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الياء للثقل وفاعله مستتر والجملة خبر وجملة كل إلخ ابتدائية

«لِأَجَلٍ» متعلقان بيجري

«مُسَمًّى» صفة لأجل

«يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» مضارع فاعله مستتر والأمر مفعوله والجملة مستأنفة

«يُفَصِّلُ الْآياتِ» مضارع فاعله مستتر والآيات مفعوله المنصوب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم والجملة مستأنفة

«لَعَلَّكُمْ» لعل واسمها

«بِلِقاءِ» متعلقان بتوقنون

«رَبِّكُمْ» مضاف إليه والكاف مضاف إليه والجملة تعليلية لا محل لها

«تُوقِنُونَ» مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة خبر لعل.

وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ذلّلهما وقصرهما على شيء واحد